الفنون حياة
ثمة فكرة رائجة عن ما تَلعبه الفنون من أدوار في المجتمع، مفادها أنها تلعب أدوراً في التنوير والتعليم والترفيه، أي بكلّ ما يتّصل بالتنمية المجتمعية في مفهومها الأشمل

/ الاجابات
ثمة فكرة رائجة عن ما تَلعبه الفنون من أدوار في المجتمع، مفادها أنها تلعب أدوراً في التنوير والتعليم والترفيه، أي بكلّ ما يتّصل بالتنمية المجتمعية في مفهومها الأشمل، وبالطبع هذا افتراضٌ لا غبار عليه، لذلك يسعى الفاعلون في التغيير الاجتماعي إلى إدماجها في عمليات التغيير. لكن الناظر إلى أدوار الفنون بتمعّن سيجد أنها لا تقف عند هذه الأدوار، فالفنون وبما أنها "مجاورة" للحياة اليومية، وليست انعكاساً ميكانيكيّاً لها كما يذهب كثيرون؛ تجد نفسها بسبب مجاورتها هذه، مُطالبة بتحقيق اختلافٍ ما عن ما تُنتجه الحياة اليومية من جماليات ومجازات، فالحياة اليومية، كما نرى، لها اشتغال مجازيّ في اللغة في بعدها التواصلي؛ اشتغال في استطاعته أن يُحمِّل المفردات دلالات تتعدَّى معناها المعجمي، وأن يصيغ مقولات دالَّة على رافعة من المجاز تُعبِّر عن أكثر الأفكار والمشاعر تعقيداً، كما في ما يُعرف بالأمثال الشعبية، وتسطيع كذلك أن تُعيد تشكيل المادة الخام كالجسد، والحجر، والخشب، والطين، والسعف..إلخ، مما يمنحها انحرافاً معياريَّاً يضعها في حيِّز المجاورة مع الفنون.
إذن أين يكمن الاختلاف مع هذا التجاور؟ أي ما هي اللحظة التي تمظهر فيها هذا الاختلاف؟ الإجابة: إنها اللحظة التي ظهرت فيها الفئة التي سُمِّيت بالفنانين، وبدأ فيها استقلال الفنون عن الظواهر الكبرى؛ الدين والفلسفة، والأهم إعادة إنتاجها لجماليات الحياة اليومية ومجازاتها والشروع في بناء تاريخها الخاص. هذه السيرورة للفنون أول ما تَكشفه هو أن جينها الأساس، الـ(DNA)، قد تخلَّق من أمشاج متآزرة هي الدين والفلسفة والحياة اليومية، وهو ما جعلها تتفرَّد بخاصية "التنوّع"، والذي لا يقوم إلا والحوار والتحاور حضور. ولعلّ كل هذا مجتمعاً هو ما جَعَلها تتعدَّى البعد المجتمعي غير المعقّد الذي يَنظُر إليها كأداة، لتراوح بين المجتمعي والوجودي، بين اليومي والكوني بشعرية كثيفة، ومن هنا يتعدَّى موقعها في أن تكون وسيلة للبنى الاجتماعية الأخرى (اجتماعية، كانت أم اقتصادية، أم سياسية)، إلى مُجاوِرَة هذه البنى، مؤثِّرةً فيها ومُتأثِّرةً بها. يُضاف لهذا تميّزها في أنها تنهض عن (رؤيا للعالم)، كما في قول "لوسيان غولدمان"، وأنها حوارية بطبيعتها، وأن مبدعها ليس فرداً وإنما (ذاتاً مُبدعة)، والتي تعني فيما تعني جِماع الخبرات وتاريخ النمط الفني المعّين فما يكتبه أحدنا من نصٍّ شعريٍّ، على سبيل المثال، على أصالته ما هو إلا تجلٍّ لنصوص شِعريَّة خفية.
تظلّ الفنون جميعها بما لها من مقدرة في التعبير عن أسئلة الإنسان المجتمعية والوجودية، وفي منحه المقدرة على تذوق الوجود؛ تظلّ هي الأقدر على صناعة التحاور كاحتياج إنساني لا تستقيم الحياة بدونه، فهو وسيلة التعارف بينهم، وهو وسيلة التبادل السلميّ للأفكار والرؤى، وهو الجسر بين الإفضاء والسمع والبصر والفؤاد، وكيف لا؟ فالفنون عابرة للحدود؛ كل الحدود، والفنون تستحوذ على أَقيَمِ ما اخترعه الإنسان، وأعني هنا الحكي (القَصّ)، والاحتفال بما يحملانه من طاقات كبيرة في التعبير والإصغاء الخلاَّق، ومن اشتغالٍ في المكان ومن تحشيد، محصّلته الأخيرة صناعة الحوار والتحاور وهو ما لا تستطيع تحقيقه الأديان والفلسفات والسياسية بالجدارة التي تفعلها الفنون، لذلك فالفنون حياة.
إجمالاً تستطيع الفنون أن تساعد في:
- نشر ثقافة الحوار، وبالتالي نشر ثقافة الديمقراطية كما يفعل فن المسرح مثلاً، مما يساعد على خلق مجتمع تتعدَّد وتتنوَّع فيه الأفكار والآراء.
- تنمية الحسّ الإبداعي والملكات النقدية وتذوّق الجمال، مما يعني إمكانية خلق علاقة مُغايرة مع الواقع ومع الآخرين.
- إعادة حكاياتنا وقصصنا الشخصية، مما يُجمِّل علاقتنا بالعالم ويحفّزنا على اكتشاف ذواتنا.
- نشر الفرح والسرور والبهجة مما يساعد على تنمية الشخصية وزيادة قدرتها على التسامح والاعتراف بالآخر.
- تُمثِّل صوت من لا صوت لهم من المهمشين والفقراء، وذلك بالتعبير عن احتياجاتهم وأسئلتهم، مما يجعلهم حاضرين في المجال العام.
- تُساهم بالتنوير والتثقيف فى الحملات الاجتماعية والصحية والسياسية وغيرها، وهو ما يُعدُّ دعماً لهذه الحقوق.
- تساهم في الحد من النزاعات التي تنشأ من عدم المقدرة على إدارة التنوّع، وذلك بقدرتها على التصدي للتنميط الذي يطال الأفراد والمعتقدات على خلفيّات عرقية أو دينية أو نوعية، بمعنى الدعوة غير المباشرة للحوار في المسكوت عنه.
- تمثّل الصيغة الأمثل لدعم الحوار والتبادل الثقافي بين الشعوب، بما تمتلكه من خاصية تمكّنها من العبور السلمي بين الحدود.
قال محمود درويش:
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مسلة المصري
مقبرة الفراعنة
النقوش على حجارة معبدٍ
هَزَمتك وانتَصرت وأفلَتَ من كمائنك الخلود
فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي
ثمة فكرة رائجة عن ما تَلعبه الفنون من أدوار في المجتمع، مفادها أنها تلعب أدوراً في التنوير والتعليم والترفيه، أي بكلّ ما يتّصل بالتنمية المجتمعية في مفهومها الأشمل، وبالطبع هذا افتراضٌ لا غبار عليه، لذلك يسعى الفاعلون في التغيير الاجتماعي إلى إدماجها في عمليات التغيير. لكن الناظر إلى أدوار الفنون بتمعّن سيجد أنها لا تقف عند هذه الأدوار، فالفنون وبما أنها "مجاورة" للحياة اليومية، وليست انعكاساً ميكانيكيّاً لها كما يذهب كثيرون؛ تجد نفسها بسبب مجاورتها هذه، مُطالبة بتحقيق اختلافٍ ما عن ما تُنتجه الحياة اليومية من جماليات ومجازات، فالحياة اليومية، كما نرى، لها اشتغال مجازيّ في اللغة في بعدها التواصلي؛ اشتغال في استطاعته أن يُحمِّل المفردات دلالات تتعدَّى معناها المعجمي، وأن يصيغ مقولات دالَّة على رافعة من المجاز تُعبِّر عن أكثر الأفكار والمشاعر تعقيداً، كما في ما يُعرف بالأمثال الشعبية، وتسطيع كذلك أن تُعيد تشكيل المادة الخام كالجسد، والحجر، والخشب، والطين، والسعف..إلخ، مما يمنحها انحرافاً معياريَّاً يضعها في حيِّز المجاورة مع الفنون.
إذن أين يكمن الاختلاف مع هذا التجاور؟ أي ما هي اللحظة التي تمظهر فيها هذا الاختلاف؟ الإجابة: إنها اللحظة التي ظهرت فيها الفئة التي سُمِّيت بالفنانين، وبدأ فيها استقلال الفنون عن الظواهر الكبرى؛ الدين والفلسفة، والأهم إعادة إنتاجها لجماليات الحياة اليومية ومجازاتها والشروع في بناء تاريخها الخاص. هذه السيرورة للفنون أول ما تَكشفه هو أن جينها الأساس، الـ(DNA)، قد تخلَّق من أمشاج متآزرة هي الدين والفلسفة والحياة اليومية، وهو ما جعلها تتفرَّد بخاصية "التنوّع"، والذي لا يقوم إلا والحوار والتحاور حضور. ولعلّ كل هذا مجتمعاً هو ما جَعَلها تتعدَّى البعد المجتمعي غير المعقّد الذي يَنظُر إليها كأداة، لتراوح بين المجتمعي والوجودي، بين اليومي والكوني بشعرية كثيفة، ومن هنا يتعدَّى موقعها في أن تكون وسيلة للبنى الاجتماعية الأخرى (اجتماعية، كانت أم اقتصادية، أم سياسية)، إلى مُجاوِرَة هذه البنى، مؤثِّرةً فيها ومُتأثِّرةً بها. يُضاف لهذا تميّزها في أنها تنهض عن (رؤيا للعالم)، كما في قول "لوسيان غولدمان"، وأنها حوارية بطبيعتها، وأن مبدعها ليس فرداً وإنما (ذاتاً مُبدعة)، والتي تعني فيما تعني جِماع الخبرات وتاريخ النمط الفني المعّين فما يكتبه أحدنا من نصٍّ شعريٍّ، على سبيل المثال، على أصالته ما هو إلا تجلٍّ لنصوص شِعريَّة خفية.
تظلّ الفنون جميعها بما لها من مقدرة في التعبير عن أسئلة الإنسان المجتمعية والوجودية، وفي منحه المقدرة على تذوق الوجود؛ تظلّ هي الأقدر على صناعة التحاور كاحتياج إنساني لا تستقيم الحياة بدونه، فهو وسيلة التعارف بينهم، وهو وسيلة التبادل السلميّ للأفكار والرؤى، وهو الجسر بين الإفضاء والسمع والبصر والفؤاد، وكيف لا؟ فالفنون عابرة للحدود؛ كل الحدود، والفنون تستحوذ على أَقيَمِ ما اخترعه الإنسان، وأعني هنا الحكي (القَصّ)، والاحتفال بما يحملانه من طاقات كبيرة في التعبير والإصغاء الخلاَّق، ومن اشتغالٍ في المكان ومن تحشيد، محصّلته الأخيرة صناعة الحوار والتحاور وهو ما لا تستطيع تحقيقه الأديان والفلسفات والسياسية بالجدارة التي تفعلها الفنون، لذلك فالفنون حياة.
إجمالاً تستطيع الفنون أن تساعد في:
- نشر ثقافة الحوار، وبالتالي نشر ثقافة الديمقراطية كما يفعل فن المسرح مثلاً، مما يساعد على خلق مجتمع تتعدَّد وتتنوَّع فيه الأفكار والآراء.
- تنمية الحسّ الإبداعي والملكات النقدية وتذوّق الجمال، مما يعني إمكانية خلق علاقة مُغايرة مع الواقع ومع الآخرين.
- إعادة حكاياتنا وقصصنا الشخصية، مما يُجمِّل علاقتنا بالعالم ويحفّزنا على اكتشاف ذواتنا.
- نشر الفرح والسرور والبهجة مما يساعد على تنمية الشخصية وزيادة قدرتها على التسامح والاعتراف بالآخر.
- تُمثِّل صوت من لا صوت لهم من المهمشين والفقراء، وذلك بالتعبير عن احتياجاتهم وأسئلتهم، مما يجعلهم حاضرين في المجال العام.
- تُساهم بالتنوير والتثقيف فى الحملات الاجتماعية والصحية والسياسية وغيرها، وهو ما يُعدُّ دعماً لهذه الحقوق.
- تساهم في الحد من النزاعات التي تنشأ من عدم المقدرة على إدارة التنوّع، وذلك بقدرتها على التصدي للتنميط الذي يطال الأفراد والمعتقدات على خلفيّات عرقية أو دينية أو نوعية، بمعنى الدعوة غير المباشرة للحوار في المسكوت عنه.
- تمثّل الصيغة الأمثل لدعم الحوار والتبادل الثقافي بين الشعوب، بما تمتلكه من خاصية تمكّنها من العبور السلمي بين الحدود.
قال محمود درويش:
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مسلة المصري
مقبرة الفراعنة
النقوش على حجارة معبدٍ
هَزَمتك وانتَصرت وأفلَتَ من كمائنك الخلود
فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي