لغات غير مكتوبة
نتواصل بطرق مختلفة واللغات المنطوقة هي أكثر ما نعرفه، ولكن إذا فكرت في الأمر، فإن إرسال رسالة ينطوي على أكثر من ذلك بكثير.

الدور الثقافي والحواري للطبق

الدور الثقافي والحواري للطبق
الطبق هو غطاء تقليديّ للطعام مَنسوج من جريد النخل والأعشاب الطويلة، وهو أداة مُتجذِّرة بعمق في الثقافة السودانية، خاصة في منطقة دارفور. تتم صناعة ونسج الطبق بشكل أساسي بواسطة النساء، وهو ليس مجرد أداة عملية للاستعمال المنزلي فحسب بل يُمثِّل رمزاً ثقافياً، وهو أيضاً وسيلة فريدة للتواصل. تتم صناعة هذا النوع الفريد من السِلال باستخدام موادٍّ محلية مثل أوراق النخيل والأعشاب، التي يتم صبغها ونَسجُها في أنماط مُعقَّدة وحيوية.
على الرغم من استخدامه لتغطية الطعام، فإن للطبق أهمية اجتماعية وثقافية أوسع، حيث كان يستخدم تاريخياً للتواصل مع القادة المحليين، بما في ذلك شخصيات مثل السلطان علي دينار من دارفور.
كان السلطان علي دينار، آخر حاكم مستقل لمملكة دارفور، يحكم في أوائل القرن العشرين حتى وفاته في عام ١٩١٦. كان علي دينار يحظى باحترام عميق من شعبه، وكحاكم كان يعتمد على الممارسات الثقافية والرمزية للمنطقة لفهم مشاعر واحتياجات رعاياه. كانت التصاميم المُعقَّدة المنسوجة في الطبق تُستخدم كوسيلة تواصل غير مباشرة وسَلِسَة. إذ كان الحرفيون يخلقون أنماطًا وألوانًا محدَّدة في الطبق لنقل رسائل مثل الاحترام، الولاء، أو الطلبات للسلطان. على سبيل المثال، قد ترمز أشكال هندسية معينة إلى الولاء لعلي دينار، بينما قد تشير ترتيبات الألوان الخاصة إلى طلبات للحماية أو المباركات لأمرٍٍ ما.
كانت هذه الطريقة في التواصل غير المباشر من خلال الحرف مهمّة بشكل خاص في مجتمع كان الوصول المباشر إلى القادة فيه محدودًا. بالنسبة لشعب دارفور، أصبح الطبق وسيلة تفاعل محترمة ولكن غير مباشرة مع السلطان. لعبت النساء، اللواتي كنَّ يقمن بنسج الطبق دورًا أساسيًا في الحفاظ على هذه التقاليد. من خلال تضمين الأنماط الرمزية في أعمالهنّ، ساهمت هؤلاء النساء في الحوارات المجتمعية والسياسية، حيث نقلن مشاعر المجتمع الجماعية دون الحاجة إلى التعبير اللفظيّ. بهذه الطريقة، لم يكن الطبق مجرد أداة منزلية، بل كان قطعة من التراث الثقافي التي تربط الناس بحاكمهم.
إن الحِرَفِيَّة المتضمنة في صنع الطبق تعكس خبرة النساء السودانيات في الحِرَف اليدوية، ودورهنَّ الأساسي في الحفاظ على المعرفة الثقافية ونقلها؛ إذ يتم نقل فن صناعة الطبق عبر الأجيال، مع إضافة كل فنانة وصانعة للطبق تفسيرها الخاص للأنماط. بعض الأشكال الهندسية والزخارف تُعتَبر مُعترفٌ بها عبر السودان، وقد تحمل معانٍ معينة. على سبيل المثال، يرمز نمط الشكل الماسي إلى الحماية، بينما تمثل التصاميم المتعرجة استمرارية الحياة. هذه الأنماط تعمل كلغة "منسوجة" تتحدث عن القيم الثقافية والاجتماعية والروحية للمجتمع.
على الرغم من أن الحداثة والتطور قد جلبتا تغييرات في الحياة اليومية في السودان، إلا أن الطبق لا يزال يحظى بتقدير، سواءً لاستخدامه الوظيفي في المنزل أو كرمز للتراث السوداني. فهو كقطعة من الفن والتقاليد، لا يزال يمثل براعة ومرونة الحرفيين السودانيين، الذين يمثل عملهم شهادة على التاريخ الاجتماعي وهوية مناطق السودان. ونرى إن ارتباطه بالسلطان علي دينار يضيف طبقة تاريخية هامة، مما يُبرز دور الطبق كأداة عملية وأداة تواصل في سياق المجتمع السوداني.
صورة الغلاف: سوق ابو جهل في مدينة الأبيض بمنطقة كردفان وهو سوق تقليدي قديم تباع فيه كل انواع الفواكه و البقوليات و الأعمال اليدوية بأشكالها المختلفة © عصام أحمد عبد الحفيظ
الطبق هو غطاء تقليديّ للطعام مَنسوج من جريد النخل والأعشاب الطويلة، وهو أداة مُتجذِّرة بعمق في الثقافة السودانية، خاصة في منطقة دارفور. تتم صناعة ونسج الطبق بشكل أساسي بواسطة النساء، وهو ليس مجرد أداة عملية للاستعمال المنزلي فحسب بل يُمثِّل رمزاً ثقافياً، وهو أيضاً وسيلة فريدة للتواصل. تتم صناعة هذا النوع الفريد من السِلال باستخدام موادٍّ محلية مثل أوراق النخيل والأعشاب، التي يتم صبغها ونَسجُها في أنماط مُعقَّدة وحيوية.
على الرغم من استخدامه لتغطية الطعام، فإن للطبق أهمية اجتماعية وثقافية أوسع، حيث كان يستخدم تاريخياً للتواصل مع القادة المحليين، بما في ذلك شخصيات مثل السلطان علي دينار من دارفور.
كان السلطان علي دينار، آخر حاكم مستقل لمملكة دارفور، يحكم في أوائل القرن العشرين حتى وفاته في عام ١٩١٦. كان علي دينار يحظى باحترام عميق من شعبه، وكحاكم كان يعتمد على الممارسات الثقافية والرمزية للمنطقة لفهم مشاعر واحتياجات رعاياه. كانت التصاميم المُعقَّدة المنسوجة في الطبق تُستخدم كوسيلة تواصل غير مباشرة وسَلِسَة. إذ كان الحرفيون يخلقون أنماطًا وألوانًا محدَّدة في الطبق لنقل رسائل مثل الاحترام، الولاء، أو الطلبات للسلطان. على سبيل المثال، قد ترمز أشكال هندسية معينة إلى الولاء لعلي دينار، بينما قد تشير ترتيبات الألوان الخاصة إلى طلبات للحماية أو المباركات لأمرٍٍ ما.
كانت هذه الطريقة في التواصل غير المباشر من خلال الحرف مهمّة بشكل خاص في مجتمع كان الوصول المباشر إلى القادة فيه محدودًا. بالنسبة لشعب دارفور، أصبح الطبق وسيلة تفاعل محترمة ولكن غير مباشرة مع السلطان. لعبت النساء، اللواتي كنَّ يقمن بنسج الطبق دورًا أساسيًا في الحفاظ على هذه التقاليد. من خلال تضمين الأنماط الرمزية في أعمالهنّ، ساهمت هؤلاء النساء في الحوارات المجتمعية والسياسية، حيث نقلن مشاعر المجتمع الجماعية دون الحاجة إلى التعبير اللفظيّ. بهذه الطريقة، لم يكن الطبق مجرد أداة منزلية، بل كان قطعة من التراث الثقافي التي تربط الناس بحاكمهم.
إن الحِرَفِيَّة المتضمنة في صنع الطبق تعكس خبرة النساء السودانيات في الحِرَف اليدوية، ودورهنَّ الأساسي في الحفاظ على المعرفة الثقافية ونقلها؛ إذ يتم نقل فن صناعة الطبق عبر الأجيال، مع إضافة كل فنانة وصانعة للطبق تفسيرها الخاص للأنماط. بعض الأشكال الهندسية والزخارف تُعتَبر مُعترفٌ بها عبر السودان، وقد تحمل معانٍ معينة. على سبيل المثال، يرمز نمط الشكل الماسي إلى الحماية، بينما تمثل التصاميم المتعرجة استمرارية الحياة. هذه الأنماط تعمل كلغة "منسوجة" تتحدث عن القيم الثقافية والاجتماعية والروحية للمجتمع.
على الرغم من أن الحداثة والتطور قد جلبتا تغييرات في الحياة اليومية في السودان، إلا أن الطبق لا يزال يحظى بتقدير، سواءً لاستخدامه الوظيفي في المنزل أو كرمز للتراث السوداني. فهو كقطعة من الفن والتقاليد، لا يزال يمثل براعة ومرونة الحرفيين السودانيين، الذين يمثل عملهم شهادة على التاريخ الاجتماعي وهوية مناطق السودان. ونرى إن ارتباطه بالسلطان علي دينار يضيف طبقة تاريخية هامة، مما يُبرز دور الطبق كأداة عملية وأداة تواصل في سياق المجتمع السوداني.
صورة الغلاف: سوق ابو جهل في مدينة الأبيض بمنطقة كردفان وهو سوق تقليدي قديم تباع فيه كل انواع الفواكه و البقوليات و الأعمال اليدوية بأشكالها المختلفة © عصام أحمد عبد الحفيظ

الطبق هو غطاء تقليديّ للطعام مَنسوج من جريد النخل والأعشاب الطويلة، وهو أداة مُتجذِّرة بعمق في الثقافة السودانية، خاصة في منطقة دارفور. تتم صناعة ونسج الطبق بشكل أساسي بواسطة النساء، وهو ليس مجرد أداة عملية للاستعمال المنزلي فحسب بل يُمثِّل رمزاً ثقافياً، وهو أيضاً وسيلة فريدة للتواصل. تتم صناعة هذا النوع الفريد من السِلال باستخدام موادٍّ محلية مثل أوراق النخيل والأعشاب، التي يتم صبغها ونَسجُها في أنماط مُعقَّدة وحيوية.
على الرغم من استخدامه لتغطية الطعام، فإن للطبق أهمية اجتماعية وثقافية أوسع، حيث كان يستخدم تاريخياً للتواصل مع القادة المحليين، بما في ذلك شخصيات مثل السلطان علي دينار من دارفور.
كان السلطان علي دينار، آخر حاكم مستقل لمملكة دارفور، يحكم في أوائل القرن العشرين حتى وفاته في عام ١٩١٦. كان علي دينار يحظى باحترام عميق من شعبه، وكحاكم كان يعتمد على الممارسات الثقافية والرمزية للمنطقة لفهم مشاعر واحتياجات رعاياه. كانت التصاميم المُعقَّدة المنسوجة في الطبق تُستخدم كوسيلة تواصل غير مباشرة وسَلِسَة. إذ كان الحرفيون يخلقون أنماطًا وألوانًا محدَّدة في الطبق لنقل رسائل مثل الاحترام، الولاء، أو الطلبات للسلطان. على سبيل المثال، قد ترمز أشكال هندسية معينة إلى الولاء لعلي دينار، بينما قد تشير ترتيبات الألوان الخاصة إلى طلبات للحماية أو المباركات لأمرٍٍ ما.
كانت هذه الطريقة في التواصل غير المباشر من خلال الحرف مهمّة بشكل خاص في مجتمع كان الوصول المباشر إلى القادة فيه محدودًا. بالنسبة لشعب دارفور، أصبح الطبق وسيلة تفاعل محترمة ولكن غير مباشرة مع السلطان. لعبت النساء، اللواتي كنَّ يقمن بنسج الطبق دورًا أساسيًا في الحفاظ على هذه التقاليد. من خلال تضمين الأنماط الرمزية في أعمالهنّ، ساهمت هؤلاء النساء في الحوارات المجتمعية والسياسية، حيث نقلن مشاعر المجتمع الجماعية دون الحاجة إلى التعبير اللفظيّ. بهذه الطريقة، لم يكن الطبق مجرد أداة منزلية، بل كان قطعة من التراث الثقافي التي تربط الناس بحاكمهم.
إن الحِرَفِيَّة المتضمنة في صنع الطبق تعكس خبرة النساء السودانيات في الحِرَف اليدوية، ودورهنَّ الأساسي في الحفاظ على المعرفة الثقافية ونقلها؛ إذ يتم نقل فن صناعة الطبق عبر الأجيال، مع إضافة كل فنانة وصانعة للطبق تفسيرها الخاص للأنماط. بعض الأشكال الهندسية والزخارف تُعتَبر مُعترفٌ بها عبر السودان، وقد تحمل معانٍ معينة. على سبيل المثال، يرمز نمط الشكل الماسي إلى الحماية، بينما تمثل التصاميم المتعرجة استمرارية الحياة. هذه الأنماط تعمل كلغة "منسوجة" تتحدث عن القيم الثقافية والاجتماعية والروحية للمجتمع.
على الرغم من أن الحداثة والتطور قد جلبتا تغييرات في الحياة اليومية في السودان، إلا أن الطبق لا يزال يحظى بتقدير، سواءً لاستخدامه الوظيفي في المنزل أو كرمز للتراث السوداني. فهو كقطعة من الفن والتقاليد، لا يزال يمثل براعة ومرونة الحرفيين السودانيين، الذين يمثل عملهم شهادة على التاريخ الاجتماعي وهوية مناطق السودان. ونرى إن ارتباطه بالسلطان علي دينار يضيف طبقة تاريخية هامة، مما يُبرز دور الطبق كأداة عملية وأداة تواصل في سياق المجتمع السوداني.
صورة الغلاف: سوق ابو جهل في مدينة الأبيض بمنطقة كردفان وهو سوق تقليدي قديم تباع فيه كل انواع الفواكه و البقوليات و الأعمال اليدوية بأشكالها المختلفة © عصام أحمد عبد الحفيظ

السينما السودانيَّة: رسائل وموضوعات

السينما السودانيَّة: رسائل وموضوعات
انطلقت بواكير السينما في السودان مضطلعة بوظيفة اتصاليَّة مباشرة مرتبطة بمكتب السكرتير الإداري لحكومة السودان. فقد استجلب عربة سينما متجولة من دولة كينيا عام ١٩٤٦م بغرض عرض الأفلام الدعائيَّة ذات الصلة المباشرة بالخطاب الحكومي أولاً، ثمَّ تطوَّرت وظيفتها قليلاً وأنتجت الأفلام التعليمية والإخبارية بعد ذلك، وقامت بعرض هذه الأفلام في المجتمعات المحلية مع الشرح والتعليق من المختصّين في الصحة والإرشاد الزراعي والتعليم، من خلال التجوال الميداني في قرى وحواضر المديريات السودانيَّة المختلفة دعماً لبرنامج تعليم الكبار وغيرها من البرامج الحكوميَّة.
آتت هذه التجربة ثمارها في خلق قاعدة اتصال مباشر تمَّ بعدها استجلاب عدد تسع عربات أخرى وإعدادها للعرض السينمائي المتجوِّل، وتمَّ بعد ذلك تعيين مشغِّلين ومعلقين لهذه العربات التي كانت تجوب ربوع البلاد على مدار السنة، مقدِّمة شرائط فيديو وثائقيَّة قصيرة سودانية. وفي العام ١٩٤٩م تمَّ إنشاء أول وحدة أفلام سينمائية سودانية ضمن مكتب الاستعلامات والعمل اضطلعت بمهمة إنتاج أفلام وثائقية وإعلامية لبعض أهم أحداث الحياة والمشروعات في السودان آنذاك.
إذا أعدنا النظر كرَّة في طبيعة الأفلام التي أُنتجت مع بداية الخمسينيات ضمن وظيفة اتصاليَّة تبحث عن طبيعة الرسائل الجادة غير الحكومية وغير المعدَّة لأغراض مباشرة؛ مثل وظائف الإرشاد والتعليم وغيرها، سنجد أنها ليس من بينها سوى فيلمين أو ثلاثة تنطوي على محاولات جادة بَعَثَت برسائل مهمة وتناولت مشاكل اجتماعيَّة أو سياسيَّة، حيث جرى التركيز على السينما التسجيلية دون الروائية أوَّلاً، وبَرَزت من بين تلك المحاولات التسجيلية الجادة في السينما السودانية بعض الأفلام القليلة كفيلم (الطفولة المشرّدة) الذي أخرجه "كمال محمد إبراهيم"، وتناول مشكلة الأطفال المشردين الذين ينزحون من الريف إلى المدينة، ويجدون أنفسهم غير قادرين على الانسجام مع إيقاع حياتها السريع ومتطلبات العمل المختلفة، فيقعون ضحية انحرافات السرقة وغيرها. أُنتِج هذا الفيلم بعد الاستقلال بين عامي ١٩٥٦م-١٩٥٧م، وأخرج بعده في ذات الاتجاه فيلم (المنكوب)، الذي صوَّره المخرج والمصوِّر السينمائي السوداني وقتها جاد الله جبارة مخرج فيلم (تور الجر في العيادة) بعدها.
خلال تلك الفترة، كانت أكثر الأفلام التسجيلية مركِّزة على النشاط الحكومي الرسمي وإنجازاته، دون أن تحمل أية معالجة سينمائية فنية متميزة تُمكِّنها من صناعة وتطوير رسائل فنيَّة/ اجتماعيَّة غير ذات طابع سياسي مباشر، لكنها في ذات الوقت تضمَّنت رسائل أخرى متصلة بالتعريف بمناطق السودان محاولة إبراز وجهه السياحي وموثِّقة لبعض أهم الأحداث السياسيَّة فجاءت أفلام من مثل (أحداث الجلاء واستقلال السودان)، (تهجير أهالي وادي حلفا)، (زيارة جبل مرَّة)، (مشروع الجزيرة)، (زيارة الرئيس عبود إلى الصين)، (رحلة الباخرة من كوستي إلى جوبا)، و(مؤتمر الملوك والرؤساء العرب) (اللاءات الثلاث).
أنتجت هذه الوحدة ما يقدَّر بأربعين ألف فيلم حسب شهادات بعض العاملين بها، وكانت تصدر فيلماً إخبارياً أُسبوعياً يوزع على دور السينما التجارية ليُعرض في الاستراحة.
في مكان آخر خارج مدينة الخرطوم، كان هنالك مصوِّر فوتوغرافي بارع نشأ في كنف مدينة عماليَّة تضجُّ بأصوات القطارات على شاطئ نهر عطبرة، درس النجارة بمدرسة الصنائع بأمدرمان، والتحق بورش سكك حديد السودان عام ١٩٤٩م، وسرعان ما ثار على نفسه واتجه نحو فن التصوير الفوتوغرافي. اقتنى كاميرا ماركة "آلمونيت" مبتاعاً إياها من مصوِّر إغريقي، وراح يلتقط بها بعض الصور لمعالم المدينة القديمة. أنشأ أوَّل أستديو تصوير فوتوغرافي بداية الخمسينيات، وبدأ في استجلاب الورق والأفلام لإقامة معمله الخاص، راسل شركة "كوداك" في لندن وزار فرعها في مصر عام ١٩٥٧م، وأقام معارض للتصوير وأسهم في صناعة أوَّل فيلم روائي سوداني طويل هو فيلم "آمال وأحلام" ١٩٧٠م من إخراج إبراهيم ملاسي، مُدشِّناً بذلك عهداً جديداً للسينما السودانيَّة التي ستشهد ميلاد جيل ثان برع في إخراج الأفلام السودانيَّة ذات الرسائل المهمة بعد أن تلقى دراسته في معاهد وكليَّات السينما المختلفة حول العالم؛ ابتداءً من ألمانيا، قبرص، مصر، الولايات المتحدة الأمريكيَّة وموسكو، وتنوعت أفلام هذا الجيل ما بين روائية وتسجيلية، وتتناول مواضيع ورسائل أقرب إلى حياة المواطن السوداني وهمومه ومشاكله اليوميَّة والتاريخيَّة، وبرز اهتمام آخر بإبراز التنوع الثقافي للسودان وتوثيق بعض العادات الثقافيَّة النادرة والقصص التراثية مثلما فعل "حسين شريف" ذلك في فيلم (جدع النار) ١٩٧٣م، أو فيلم الشاعر والمخرج علي عبد القوم عن طقس نسائي شهير هو طقس (الظار) ١٩٨٨م، أو فيلم (تاجوج) لجاد الله جبارة ١٩٨٠م.
جاء موضُوعُ فيلم جدع النَّار معرِّفاً بقبائل منطقة جنوب النيل الأزرق السُّودانيَّة. عَبَدت تلك القبائل النَّار والشَّمس في أزمان بعيدة. ولها طقوس متميزة أوان احتفالات الحصاد تتضمَّن الرَّقص والمهرجانات وطقوس أخرى عديدة تُمارس ضمن عادة أكبر تعرف بعادة "جدع النار" التي لا زالت تمارس عند كل خريف حتى يوم الناس هذا. شارك حسين شريف أيضاً مع عطيَّات الأبنودي في إخراج فيلم (يوميَّات في المنفى) الذي أنتجته في العام ١٩٩٣م المنظمة السُّودانيَّة لحقوق الإنسان، مُوثِّقةً لحكايات نزوح أفرادٍ ومجموعاتٍ من النَّاسِ يقدِّمُون شهاداتهم التاريخيَّة الخاصَّة بالفترة التي تَلت حدوثَ انقلاب الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة في السُّودان عام ١٩٨٩م. حيث شهدت تلك الفترة هجرة كثيفة من السُّودانيِّين والسُّودانيَّات إلى مُختلفِ أرجاء العالم، فالسُّودان غَدا آناءِها مكانَاً طاردَاً لأهلِهِ وشَعْبِهِ كما هو الآن حاله أثناء حرب الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣. وقد هاجرت الغالبيَّة العظمى من السُّودانيين والسُّودانيَّات حينذاك إلى مصر التي صُوِّرَ فيها ذاكَ الفيلم وبلغ عدد النازحين هناك، في وقتِ تصوير الفيلم المعني، ما يقارب الثلاثة ملايين وقتها.
تطوَّرت الرسائل الفنيَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة مع الجيل اللاحق لهذا الجيل بشكل لافت، حيث اتخذت أبعاداً فلسفيَّة وجماليَّة متطوِّرة كما ظهر هذا الأمر في تجارب إبراهيم شداد، سليمان محمد إبراهيم والطيِّب مهدي. حيث عالجت أفلام إبراهيم شداد وعلى رأسها فيلم (إنسان) ١٩٩٤م قضايا وجوديَّة وفلسفيَّة دائماً، واتجهت مع هذا الفيلم لمناقشة أزمة قوانين سبتمبر ١٩٨٣م التي شرعها نظام الديكتاتور جعفر نميري في قالب قصصي بسيط وثَّق لجرائم وانتهاكات هذه القوانين، وأثرها على حياة بسطاء الناس ممن لم ينجوا من قطع الأيدي وبعض القوانين الجائرة المرتبطة بهذه التشريعات. وعالج الطيِّب مهدي في فيلم (الضريح) ١٩٧٧م ذات المشكلة من منظور مختلف، حيث نبَّه باكراً -وفي شبه نبوءة استباقيَّة- ما آلت إليه الأوضاع مع تجربة الإسلام السياسي في السودان ومشكلة استغلال الدين لخداع المجتمع. وقام "عبادي محجوب" و"جاد الله جبارة" بإخراج فيلم (بركة الشيخ) وهو فيلم روائي طويل، يحكي قصة دجال تمكن من السيطرة على عقول البسطاء في إحدى القرى السودانية من خلال ادعائه لبعض الكرامات. موضحاً الكيفيَّة التي يمكن بها استغلال الدين وسط بيئة مفقرة من العلم والمعرفة وما يمكن أن يقود إليه ذلك من مصائب كبيرة. وناقش فيلم (المحطة) ١٩٨٩م مشكلة طريق التطوُّر الرأسمالي والتنمية التي لا تضع بالاً للإنسان في مناطق الإنتاج والوفرة الاقتصاديَّة من خلال مشاهد بصريَّة غاية في التناقض. حيث عشرات المئات من الشاحنات الممتلئة بالسلع النقديَّة للصادر في مدينة زراعيَّة مثل مدينة القضارف، وأسرة فقيرة تقف على قراعة الطريق وهي تحمل مريضاً مسجياً على ظهر حمار ينتظر وسيلة نقل توصله إلى أقرب مشفى داخل المدينة!
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي
انطلقت بواكير السينما في السودان مضطلعة بوظيفة اتصاليَّة مباشرة مرتبطة بمكتب السكرتير الإداري لحكومة السودان. فقد استجلب عربة سينما متجولة من دولة كينيا عام ١٩٤٦م بغرض عرض الأفلام الدعائيَّة ذات الصلة المباشرة بالخطاب الحكومي أولاً، ثمَّ تطوَّرت وظيفتها قليلاً وأنتجت الأفلام التعليمية والإخبارية بعد ذلك، وقامت بعرض هذه الأفلام في المجتمعات المحلية مع الشرح والتعليق من المختصّين في الصحة والإرشاد الزراعي والتعليم، من خلال التجوال الميداني في قرى وحواضر المديريات السودانيَّة المختلفة دعماً لبرنامج تعليم الكبار وغيرها من البرامج الحكوميَّة.
آتت هذه التجربة ثمارها في خلق قاعدة اتصال مباشر تمَّ بعدها استجلاب عدد تسع عربات أخرى وإعدادها للعرض السينمائي المتجوِّل، وتمَّ بعد ذلك تعيين مشغِّلين ومعلقين لهذه العربات التي كانت تجوب ربوع البلاد على مدار السنة، مقدِّمة شرائط فيديو وثائقيَّة قصيرة سودانية. وفي العام ١٩٤٩م تمَّ إنشاء أول وحدة أفلام سينمائية سودانية ضمن مكتب الاستعلامات والعمل اضطلعت بمهمة إنتاج أفلام وثائقية وإعلامية لبعض أهم أحداث الحياة والمشروعات في السودان آنذاك.
إذا أعدنا النظر كرَّة في طبيعة الأفلام التي أُنتجت مع بداية الخمسينيات ضمن وظيفة اتصاليَّة تبحث عن طبيعة الرسائل الجادة غير الحكومية وغير المعدَّة لأغراض مباشرة؛ مثل وظائف الإرشاد والتعليم وغيرها، سنجد أنها ليس من بينها سوى فيلمين أو ثلاثة تنطوي على محاولات جادة بَعَثَت برسائل مهمة وتناولت مشاكل اجتماعيَّة أو سياسيَّة، حيث جرى التركيز على السينما التسجيلية دون الروائية أوَّلاً، وبَرَزت من بين تلك المحاولات التسجيلية الجادة في السينما السودانية بعض الأفلام القليلة كفيلم (الطفولة المشرّدة) الذي أخرجه "كمال محمد إبراهيم"، وتناول مشكلة الأطفال المشردين الذين ينزحون من الريف إلى المدينة، ويجدون أنفسهم غير قادرين على الانسجام مع إيقاع حياتها السريع ومتطلبات العمل المختلفة، فيقعون ضحية انحرافات السرقة وغيرها. أُنتِج هذا الفيلم بعد الاستقلال بين عامي ١٩٥٦م-١٩٥٧م، وأخرج بعده في ذات الاتجاه فيلم (المنكوب)، الذي صوَّره المخرج والمصوِّر السينمائي السوداني وقتها جاد الله جبارة مخرج فيلم (تور الجر في العيادة) بعدها.
خلال تلك الفترة، كانت أكثر الأفلام التسجيلية مركِّزة على النشاط الحكومي الرسمي وإنجازاته، دون أن تحمل أية معالجة سينمائية فنية متميزة تُمكِّنها من صناعة وتطوير رسائل فنيَّة/ اجتماعيَّة غير ذات طابع سياسي مباشر، لكنها في ذات الوقت تضمَّنت رسائل أخرى متصلة بالتعريف بمناطق السودان محاولة إبراز وجهه السياحي وموثِّقة لبعض أهم الأحداث السياسيَّة فجاءت أفلام من مثل (أحداث الجلاء واستقلال السودان)، (تهجير أهالي وادي حلفا)، (زيارة جبل مرَّة)، (مشروع الجزيرة)، (زيارة الرئيس عبود إلى الصين)، (رحلة الباخرة من كوستي إلى جوبا)، و(مؤتمر الملوك والرؤساء العرب) (اللاءات الثلاث).
أنتجت هذه الوحدة ما يقدَّر بأربعين ألف فيلم حسب شهادات بعض العاملين بها، وكانت تصدر فيلماً إخبارياً أُسبوعياً يوزع على دور السينما التجارية ليُعرض في الاستراحة.
في مكان آخر خارج مدينة الخرطوم، كان هنالك مصوِّر فوتوغرافي بارع نشأ في كنف مدينة عماليَّة تضجُّ بأصوات القطارات على شاطئ نهر عطبرة، درس النجارة بمدرسة الصنائع بأمدرمان، والتحق بورش سكك حديد السودان عام ١٩٤٩م، وسرعان ما ثار على نفسه واتجه نحو فن التصوير الفوتوغرافي. اقتنى كاميرا ماركة "آلمونيت" مبتاعاً إياها من مصوِّر إغريقي، وراح يلتقط بها بعض الصور لمعالم المدينة القديمة. أنشأ أوَّل أستديو تصوير فوتوغرافي بداية الخمسينيات، وبدأ في استجلاب الورق والأفلام لإقامة معمله الخاص، راسل شركة "كوداك" في لندن وزار فرعها في مصر عام ١٩٥٧م، وأقام معارض للتصوير وأسهم في صناعة أوَّل فيلم روائي سوداني طويل هو فيلم "آمال وأحلام" ١٩٧٠م من إخراج إبراهيم ملاسي، مُدشِّناً بذلك عهداً جديداً للسينما السودانيَّة التي ستشهد ميلاد جيل ثان برع في إخراج الأفلام السودانيَّة ذات الرسائل المهمة بعد أن تلقى دراسته في معاهد وكليَّات السينما المختلفة حول العالم؛ ابتداءً من ألمانيا، قبرص، مصر، الولايات المتحدة الأمريكيَّة وموسكو، وتنوعت أفلام هذا الجيل ما بين روائية وتسجيلية، وتتناول مواضيع ورسائل أقرب إلى حياة المواطن السوداني وهمومه ومشاكله اليوميَّة والتاريخيَّة، وبرز اهتمام آخر بإبراز التنوع الثقافي للسودان وتوثيق بعض العادات الثقافيَّة النادرة والقصص التراثية مثلما فعل "حسين شريف" ذلك في فيلم (جدع النار) ١٩٧٣م، أو فيلم الشاعر والمخرج علي عبد القوم عن طقس نسائي شهير هو طقس (الظار) ١٩٨٨م، أو فيلم (تاجوج) لجاد الله جبارة ١٩٨٠م.
جاء موضُوعُ فيلم جدع النَّار معرِّفاً بقبائل منطقة جنوب النيل الأزرق السُّودانيَّة. عَبَدت تلك القبائل النَّار والشَّمس في أزمان بعيدة. ولها طقوس متميزة أوان احتفالات الحصاد تتضمَّن الرَّقص والمهرجانات وطقوس أخرى عديدة تُمارس ضمن عادة أكبر تعرف بعادة "جدع النار" التي لا زالت تمارس عند كل خريف حتى يوم الناس هذا. شارك حسين شريف أيضاً مع عطيَّات الأبنودي في إخراج فيلم (يوميَّات في المنفى) الذي أنتجته في العام ١٩٩٣م المنظمة السُّودانيَّة لحقوق الإنسان، مُوثِّقةً لحكايات نزوح أفرادٍ ومجموعاتٍ من النَّاسِ يقدِّمُون شهاداتهم التاريخيَّة الخاصَّة بالفترة التي تَلت حدوثَ انقلاب الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة في السُّودان عام ١٩٨٩م. حيث شهدت تلك الفترة هجرة كثيفة من السُّودانيِّين والسُّودانيَّات إلى مُختلفِ أرجاء العالم، فالسُّودان غَدا آناءِها مكانَاً طاردَاً لأهلِهِ وشَعْبِهِ كما هو الآن حاله أثناء حرب الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣. وقد هاجرت الغالبيَّة العظمى من السُّودانيين والسُّودانيَّات حينذاك إلى مصر التي صُوِّرَ فيها ذاكَ الفيلم وبلغ عدد النازحين هناك، في وقتِ تصوير الفيلم المعني، ما يقارب الثلاثة ملايين وقتها.
تطوَّرت الرسائل الفنيَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة مع الجيل اللاحق لهذا الجيل بشكل لافت، حيث اتخذت أبعاداً فلسفيَّة وجماليَّة متطوِّرة كما ظهر هذا الأمر في تجارب إبراهيم شداد، سليمان محمد إبراهيم والطيِّب مهدي. حيث عالجت أفلام إبراهيم شداد وعلى رأسها فيلم (إنسان) ١٩٩٤م قضايا وجوديَّة وفلسفيَّة دائماً، واتجهت مع هذا الفيلم لمناقشة أزمة قوانين سبتمبر ١٩٨٣م التي شرعها نظام الديكتاتور جعفر نميري في قالب قصصي بسيط وثَّق لجرائم وانتهاكات هذه القوانين، وأثرها على حياة بسطاء الناس ممن لم ينجوا من قطع الأيدي وبعض القوانين الجائرة المرتبطة بهذه التشريعات. وعالج الطيِّب مهدي في فيلم (الضريح) ١٩٧٧م ذات المشكلة من منظور مختلف، حيث نبَّه باكراً -وفي شبه نبوءة استباقيَّة- ما آلت إليه الأوضاع مع تجربة الإسلام السياسي في السودان ومشكلة استغلال الدين لخداع المجتمع. وقام "عبادي محجوب" و"جاد الله جبارة" بإخراج فيلم (بركة الشيخ) وهو فيلم روائي طويل، يحكي قصة دجال تمكن من السيطرة على عقول البسطاء في إحدى القرى السودانية من خلال ادعائه لبعض الكرامات. موضحاً الكيفيَّة التي يمكن بها استغلال الدين وسط بيئة مفقرة من العلم والمعرفة وما يمكن أن يقود إليه ذلك من مصائب كبيرة. وناقش فيلم (المحطة) ١٩٨٩م مشكلة طريق التطوُّر الرأسمالي والتنمية التي لا تضع بالاً للإنسان في مناطق الإنتاج والوفرة الاقتصاديَّة من خلال مشاهد بصريَّة غاية في التناقض. حيث عشرات المئات من الشاحنات الممتلئة بالسلع النقديَّة للصادر في مدينة زراعيَّة مثل مدينة القضارف، وأسرة فقيرة تقف على قراعة الطريق وهي تحمل مريضاً مسجياً على ظهر حمار ينتظر وسيلة نقل توصله إلى أقرب مشفى داخل المدينة!
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

انطلقت بواكير السينما في السودان مضطلعة بوظيفة اتصاليَّة مباشرة مرتبطة بمكتب السكرتير الإداري لحكومة السودان. فقد استجلب عربة سينما متجولة من دولة كينيا عام ١٩٤٦م بغرض عرض الأفلام الدعائيَّة ذات الصلة المباشرة بالخطاب الحكومي أولاً، ثمَّ تطوَّرت وظيفتها قليلاً وأنتجت الأفلام التعليمية والإخبارية بعد ذلك، وقامت بعرض هذه الأفلام في المجتمعات المحلية مع الشرح والتعليق من المختصّين في الصحة والإرشاد الزراعي والتعليم، من خلال التجوال الميداني في قرى وحواضر المديريات السودانيَّة المختلفة دعماً لبرنامج تعليم الكبار وغيرها من البرامج الحكوميَّة.
آتت هذه التجربة ثمارها في خلق قاعدة اتصال مباشر تمَّ بعدها استجلاب عدد تسع عربات أخرى وإعدادها للعرض السينمائي المتجوِّل، وتمَّ بعد ذلك تعيين مشغِّلين ومعلقين لهذه العربات التي كانت تجوب ربوع البلاد على مدار السنة، مقدِّمة شرائط فيديو وثائقيَّة قصيرة سودانية. وفي العام ١٩٤٩م تمَّ إنشاء أول وحدة أفلام سينمائية سودانية ضمن مكتب الاستعلامات والعمل اضطلعت بمهمة إنتاج أفلام وثائقية وإعلامية لبعض أهم أحداث الحياة والمشروعات في السودان آنذاك.
إذا أعدنا النظر كرَّة في طبيعة الأفلام التي أُنتجت مع بداية الخمسينيات ضمن وظيفة اتصاليَّة تبحث عن طبيعة الرسائل الجادة غير الحكومية وغير المعدَّة لأغراض مباشرة؛ مثل وظائف الإرشاد والتعليم وغيرها، سنجد أنها ليس من بينها سوى فيلمين أو ثلاثة تنطوي على محاولات جادة بَعَثَت برسائل مهمة وتناولت مشاكل اجتماعيَّة أو سياسيَّة، حيث جرى التركيز على السينما التسجيلية دون الروائية أوَّلاً، وبَرَزت من بين تلك المحاولات التسجيلية الجادة في السينما السودانية بعض الأفلام القليلة كفيلم (الطفولة المشرّدة) الذي أخرجه "كمال محمد إبراهيم"، وتناول مشكلة الأطفال المشردين الذين ينزحون من الريف إلى المدينة، ويجدون أنفسهم غير قادرين على الانسجام مع إيقاع حياتها السريع ومتطلبات العمل المختلفة، فيقعون ضحية انحرافات السرقة وغيرها. أُنتِج هذا الفيلم بعد الاستقلال بين عامي ١٩٥٦م-١٩٥٧م، وأخرج بعده في ذات الاتجاه فيلم (المنكوب)، الذي صوَّره المخرج والمصوِّر السينمائي السوداني وقتها جاد الله جبارة مخرج فيلم (تور الجر في العيادة) بعدها.
خلال تلك الفترة، كانت أكثر الأفلام التسجيلية مركِّزة على النشاط الحكومي الرسمي وإنجازاته، دون أن تحمل أية معالجة سينمائية فنية متميزة تُمكِّنها من صناعة وتطوير رسائل فنيَّة/ اجتماعيَّة غير ذات طابع سياسي مباشر، لكنها في ذات الوقت تضمَّنت رسائل أخرى متصلة بالتعريف بمناطق السودان محاولة إبراز وجهه السياحي وموثِّقة لبعض أهم الأحداث السياسيَّة فجاءت أفلام من مثل (أحداث الجلاء واستقلال السودان)، (تهجير أهالي وادي حلفا)، (زيارة جبل مرَّة)، (مشروع الجزيرة)، (زيارة الرئيس عبود إلى الصين)، (رحلة الباخرة من كوستي إلى جوبا)، و(مؤتمر الملوك والرؤساء العرب) (اللاءات الثلاث).
أنتجت هذه الوحدة ما يقدَّر بأربعين ألف فيلم حسب شهادات بعض العاملين بها، وكانت تصدر فيلماً إخبارياً أُسبوعياً يوزع على دور السينما التجارية ليُعرض في الاستراحة.
في مكان آخر خارج مدينة الخرطوم، كان هنالك مصوِّر فوتوغرافي بارع نشأ في كنف مدينة عماليَّة تضجُّ بأصوات القطارات على شاطئ نهر عطبرة، درس النجارة بمدرسة الصنائع بأمدرمان، والتحق بورش سكك حديد السودان عام ١٩٤٩م، وسرعان ما ثار على نفسه واتجه نحو فن التصوير الفوتوغرافي. اقتنى كاميرا ماركة "آلمونيت" مبتاعاً إياها من مصوِّر إغريقي، وراح يلتقط بها بعض الصور لمعالم المدينة القديمة. أنشأ أوَّل أستديو تصوير فوتوغرافي بداية الخمسينيات، وبدأ في استجلاب الورق والأفلام لإقامة معمله الخاص، راسل شركة "كوداك" في لندن وزار فرعها في مصر عام ١٩٥٧م، وأقام معارض للتصوير وأسهم في صناعة أوَّل فيلم روائي سوداني طويل هو فيلم "آمال وأحلام" ١٩٧٠م من إخراج إبراهيم ملاسي، مُدشِّناً بذلك عهداً جديداً للسينما السودانيَّة التي ستشهد ميلاد جيل ثان برع في إخراج الأفلام السودانيَّة ذات الرسائل المهمة بعد أن تلقى دراسته في معاهد وكليَّات السينما المختلفة حول العالم؛ ابتداءً من ألمانيا، قبرص، مصر، الولايات المتحدة الأمريكيَّة وموسكو، وتنوعت أفلام هذا الجيل ما بين روائية وتسجيلية، وتتناول مواضيع ورسائل أقرب إلى حياة المواطن السوداني وهمومه ومشاكله اليوميَّة والتاريخيَّة، وبرز اهتمام آخر بإبراز التنوع الثقافي للسودان وتوثيق بعض العادات الثقافيَّة النادرة والقصص التراثية مثلما فعل "حسين شريف" ذلك في فيلم (جدع النار) ١٩٧٣م، أو فيلم الشاعر والمخرج علي عبد القوم عن طقس نسائي شهير هو طقس (الظار) ١٩٨٨م، أو فيلم (تاجوج) لجاد الله جبارة ١٩٨٠م.
جاء موضُوعُ فيلم جدع النَّار معرِّفاً بقبائل منطقة جنوب النيل الأزرق السُّودانيَّة. عَبَدت تلك القبائل النَّار والشَّمس في أزمان بعيدة. ولها طقوس متميزة أوان احتفالات الحصاد تتضمَّن الرَّقص والمهرجانات وطقوس أخرى عديدة تُمارس ضمن عادة أكبر تعرف بعادة "جدع النار" التي لا زالت تمارس عند كل خريف حتى يوم الناس هذا. شارك حسين شريف أيضاً مع عطيَّات الأبنودي في إخراج فيلم (يوميَّات في المنفى) الذي أنتجته في العام ١٩٩٣م المنظمة السُّودانيَّة لحقوق الإنسان، مُوثِّقةً لحكايات نزوح أفرادٍ ومجموعاتٍ من النَّاسِ يقدِّمُون شهاداتهم التاريخيَّة الخاصَّة بالفترة التي تَلت حدوثَ انقلاب الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة في السُّودان عام ١٩٨٩م. حيث شهدت تلك الفترة هجرة كثيفة من السُّودانيِّين والسُّودانيَّات إلى مُختلفِ أرجاء العالم، فالسُّودان غَدا آناءِها مكانَاً طاردَاً لأهلِهِ وشَعْبِهِ كما هو الآن حاله أثناء حرب الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣. وقد هاجرت الغالبيَّة العظمى من السُّودانيين والسُّودانيَّات حينذاك إلى مصر التي صُوِّرَ فيها ذاكَ الفيلم وبلغ عدد النازحين هناك، في وقتِ تصوير الفيلم المعني، ما يقارب الثلاثة ملايين وقتها.
تطوَّرت الرسائل الفنيَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة مع الجيل اللاحق لهذا الجيل بشكل لافت، حيث اتخذت أبعاداً فلسفيَّة وجماليَّة متطوِّرة كما ظهر هذا الأمر في تجارب إبراهيم شداد، سليمان محمد إبراهيم والطيِّب مهدي. حيث عالجت أفلام إبراهيم شداد وعلى رأسها فيلم (إنسان) ١٩٩٤م قضايا وجوديَّة وفلسفيَّة دائماً، واتجهت مع هذا الفيلم لمناقشة أزمة قوانين سبتمبر ١٩٨٣م التي شرعها نظام الديكتاتور جعفر نميري في قالب قصصي بسيط وثَّق لجرائم وانتهاكات هذه القوانين، وأثرها على حياة بسطاء الناس ممن لم ينجوا من قطع الأيدي وبعض القوانين الجائرة المرتبطة بهذه التشريعات. وعالج الطيِّب مهدي في فيلم (الضريح) ١٩٧٧م ذات المشكلة من منظور مختلف، حيث نبَّه باكراً -وفي شبه نبوءة استباقيَّة- ما آلت إليه الأوضاع مع تجربة الإسلام السياسي في السودان ومشكلة استغلال الدين لخداع المجتمع. وقام "عبادي محجوب" و"جاد الله جبارة" بإخراج فيلم (بركة الشيخ) وهو فيلم روائي طويل، يحكي قصة دجال تمكن من السيطرة على عقول البسطاء في إحدى القرى السودانية من خلال ادعائه لبعض الكرامات. موضحاً الكيفيَّة التي يمكن بها استغلال الدين وسط بيئة مفقرة من العلم والمعرفة وما يمكن أن يقود إليه ذلك من مصائب كبيرة. وناقش فيلم (المحطة) ١٩٨٩م مشكلة طريق التطوُّر الرأسمالي والتنمية التي لا تضع بالاً للإنسان في مناطق الإنتاج والوفرة الاقتصاديَّة من خلال مشاهد بصريَّة غاية في التناقض. حيث عشرات المئات من الشاحنات الممتلئة بالسلع النقديَّة للصادر في مدينة زراعيَّة مثل مدينة القضارف، وأسرة فقيرة تقف على قراعة الطريق وهي تحمل مريضاً مسجياً على ظهر حمار ينتظر وسيلة نقل توصله إلى أقرب مشفى داخل المدينة!
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

الفنون حياة

الفنون حياة
ثمة فكرة رائجة عن ما تَلعبه الفنون من أدوار في المجتمع، مفادها أنها تلعب أدوراً في التنوير والتعليم والترفيه، أي بكلّ ما يتّصل بالتنمية المجتمعية في مفهومها الأشمل، وبالطبع هذا افتراضٌ لا غبار عليه، لذلك يسعى الفاعلون في التغيير الاجتماعي إلى إدماجها في عمليات التغيير. لكن الناظر إلى أدوار الفنون بتمعّن سيجد أنها لا تقف عند هذه الأدوار، فالفنون وبما أنها "مجاورة" للحياة اليومية، وليست انعكاساً ميكانيكيّاً لها كما يذهب كثيرون؛ تجد نفسها بسبب مجاورتها هذه، مُطالبة بتحقيق اختلافٍ ما عن ما تُنتجه الحياة اليومية من جماليات ومجازات، فالحياة اليومية، كما نرى، لها اشتغال مجازيّ في اللغة في بعدها التواصلي؛ اشتغال في استطاعته أن يُحمِّل المفردات دلالات تتعدَّى معناها المعجمي، وأن يصيغ مقولات دالَّة على رافعة من المجاز تُعبِّر عن أكثر الأفكار والمشاعر تعقيداً، كما في ما يُعرف بالأمثال الشعبية، وتسطيع كذلك أن تُعيد تشكيل المادة الخام كالجسد، والحجر، والخشب، والطين، والسعف..إلخ، مما يمنحها انحرافاً معياريَّاً يضعها في حيِّز المجاورة مع الفنون.
إذن أين يكمن الاختلاف مع هذا التجاور؟ أي ما هي اللحظة التي تمظهر فيها هذا الاختلاف؟ الإجابة: إنها اللحظة التي ظهرت فيها الفئة التي سُمِّيت بالفنانين، وبدأ فيها استقلال الفنون عن الظواهر الكبرى؛ الدين والفلسفة، والأهم إعادة إنتاجها لجماليات الحياة اليومية ومجازاتها والشروع في بناء تاريخها الخاص. هذه السيرورة للفنون أول ما تَكشفه هو أن جينها الأساس، الـ(DNA)، قد تخلَّق من أمشاج متآزرة هي الدين والفلسفة والحياة اليومية، وهو ما جعلها تتفرَّد بخاصية "التنوّع"، والذي لا يقوم إلا والحوار والتحاور حضور. ولعلّ كل هذا مجتمعاً هو ما جَعَلها تتعدَّى البعد المجتمعي غير المعقّد الذي يَنظُر إليها كأداة، لتراوح بين المجتمعي والوجودي، بين اليومي والكوني بشعرية كثيفة، ومن هنا يتعدَّى موقعها في أن تكون وسيلة للبنى الاجتماعية الأخرى (اجتماعية، كانت أم اقتصادية، أم سياسية)، إلى مُجاوِرَة هذه البنى، مؤثِّرةً فيها ومُتأثِّرةً بها. يُضاف لهذا تميّزها في أنها تنهض عن (رؤيا للعالم)، كما في قول "لوسيان غولدمان"، وأنها حوارية بطبيعتها، وأن مبدعها ليس فرداً وإنما (ذاتاً مُبدعة)، والتي تعني فيما تعني جِماع الخبرات وتاريخ النمط الفني المعّين فما يكتبه أحدنا من نصٍّ شعريٍّ، على سبيل المثال، على أصالته ما هو إلا تجلٍّ لنصوص شِعريَّة خفية.
تظلّ الفنون جميعها بما لها من مقدرة في التعبير عن أسئلة الإنسان المجتمعية والوجودية، وفي منحه المقدرة على تذوق الوجود؛ تظلّ هي الأقدر على صناعة التحاور كاحتياج إنساني لا تستقيم الحياة بدونه، فهو وسيلة التعارف بينهم، وهو وسيلة التبادل السلميّ للأفكار والرؤى، وهو الجسر بين الإفضاء والسمع والبصر والفؤاد، وكيف لا؟ فالفنون عابرة للحدود؛ كل الحدود، والفنون تستحوذ على أَقيَمِ ما اخترعه الإنسان، وأعني هنا الحكي (القَصّ)، والاحتفال بما يحملانه من طاقات كبيرة في التعبير والإصغاء الخلاَّق، ومن اشتغالٍ في المكان ومن تحشيد، محصّلته الأخيرة صناعة الحوار والتحاور وهو ما لا تستطيع تحقيقه الأديان والفلسفات والسياسية بالجدارة التي تفعلها الفنون، لذلك فالفنون حياة.
إجمالاً تستطيع الفنون أن تساعد في:
- نشر ثقافة الحوار، وبالتالي نشر ثقافة الديمقراطية كما يفعل فن المسرح مثلاً، مما يساعد على خلق مجتمع تتعدَّد وتتنوَّع فيه الأفكار والآراء.
- تنمية الحسّ الإبداعي والملكات النقدية وتذوّق الجمال، مما يعني إمكانية خلق علاقة مُغايرة مع الواقع ومع الآخرين.
- إعادة حكاياتنا وقصصنا الشخصية، مما يُجمِّل علاقتنا بالعالم ويحفّزنا على اكتشاف ذواتنا.
- نشر الفرح والسرور والبهجة مما يساعد على تنمية الشخصية وزيادة قدرتها على التسامح والاعتراف بالآخر.
- تُمثِّل صوت من لا صوت لهم من المهمشين والفقراء، وذلك بالتعبير عن احتياجاتهم وأسئلتهم، مما يجعلهم حاضرين في المجال العام.
- تُساهم بالتنوير والتثقيف فى الحملات الاجتماعية والصحية والسياسية وغيرها، وهو ما يُعدُّ دعماً لهذه الحقوق.
- تساهم في الحد من النزاعات التي تنشأ من عدم المقدرة على إدارة التنوّع، وذلك بقدرتها على التصدي للتنميط الذي يطال الأفراد والمعتقدات على خلفيّات عرقية أو دينية أو نوعية، بمعنى الدعوة غير المباشرة للحوار في المسكوت عنه.
- تمثّل الصيغة الأمثل لدعم الحوار والتبادل الثقافي بين الشعوب، بما تمتلكه من خاصية تمكّنها من العبور السلمي بين الحدود.
قال محمود درويش:
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مسلة المصري
مقبرة الفراعنة
النقوش على حجارة معبدٍ
هَزَمتك وانتَصرت وأفلَتَ من كمائنك الخلود
فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي
ثمة فكرة رائجة عن ما تَلعبه الفنون من أدوار في المجتمع، مفادها أنها تلعب أدوراً في التنوير والتعليم والترفيه، أي بكلّ ما يتّصل بالتنمية المجتمعية في مفهومها الأشمل، وبالطبع هذا افتراضٌ لا غبار عليه، لذلك يسعى الفاعلون في التغيير الاجتماعي إلى إدماجها في عمليات التغيير. لكن الناظر إلى أدوار الفنون بتمعّن سيجد أنها لا تقف عند هذه الأدوار، فالفنون وبما أنها "مجاورة" للحياة اليومية، وليست انعكاساً ميكانيكيّاً لها كما يذهب كثيرون؛ تجد نفسها بسبب مجاورتها هذه، مُطالبة بتحقيق اختلافٍ ما عن ما تُنتجه الحياة اليومية من جماليات ومجازات، فالحياة اليومية، كما نرى، لها اشتغال مجازيّ في اللغة في بعدها التواصلي؛ اشتغال في استطاعته أن يُحمِّل المفردات دلالات تتعدَّى معناها المعجمي، وأن يصيغ مقولات دالَّة على رافعة من المجاز تُعبِّر عن أكثر الأفكار والمشاعر تعقيداً، كما في ما يُعرف بالأمثال الشعبية، وتسطيع كذلك أن تُعيد تشكيل المادة الخام كالجسد، والحجر، والخشب، والطين، والسعف..إلخ، مما يمنحها انحرافاً معياريَّاً يضعها في حيِّز المجاورة مع الفنون.
إذن أين يكمن الاختلاف مع هذا التجاور؟ أي ما هي اللحظة التي تمظهر فيها هذا الاختلاف؟ الإجابة: إنها اللحظة التي ظهرت فيها الفئة التي سُمِّيت بالفنانين، وبدأ فيها استقلال الفنون عن الظواهر الكبرى؛ الدين والفلسفة، والأهم إعادة إنتاجها لجماليات الحياة اليومية ومجازاتها والشروع في بناء تاريخها الخاص. هذه السيرورة للفنون أول ما تَكشفه هو أن جينها الأساس، الـ(DNA)، قد تخلَّق من أمشاج متآزرة هي الدين والفلسفة والحياة اليومية، وهو ما جعلها تتفرَّد بخاصية "التنوّع"، والذي لا يقوم إلا والحوار والتحاور حضور. ولعلّ كل هذا مجتمعاً هو ما جَعَلها تتعدَّى البعد المجتمعي غير المعقّد الذي يَنظُر إليها كأداة، لتراوح بين المجتمعي والوجودي، بين اليومي والكوني بشعرية كثيفة، ومن هنا يتعدَّى موقعها في أن تكون وسيلة للبنى الاجتماعية الأخرى (اجتماعية، كانت أم اقتصادية، أم سياسية)، إلى مُجاوِرَة هذه البنى، مؤثِّرةً فيها ومُتأثِّرةً بها. يُضاف لهذا تميّزها في أنها تنهض عن (رؤيا للعالم)، كما في قول "لوسيان غولدمان"، وأنها حوارية بطبيعتها، وأن مبدعها ليس فرداً وإنما (ذاتاً مُبدعة)، والتي تعني فيما تعني جِماع الخبرات وتاريخ النمط الفني المعّين فما يكتبه أحدنا من نصٍّ شعريٍّ، على سبيل المثال، على أصالته ما هو إلا تجلٍّ لنصوص شِعريَّة خفية.
تظلّ الفنون جميعها بما لها من مقدرة في التعبير عن أسئلة الإنسان المجتمعية والوجودية، وفي منحه المقدرة على تذوق الوجود؛ تظلّ هي الأقدر على صناعة التحاور كاحتياج إنساني لا تستقيم الحياة بدونه، فهو وسيلة التعارف بينهم، وهو وسيلة التبادل السلميّ للأفكار والرؤى، وهو الجسر بين الإفضاء والسمع والبصر والفؤاد، وكيف لا؟ فالفنون عابرة للحدود؛ كل الحدود، والفنون تستحوذ على أَقيَمِ ما اخترعه الإنسان، وأعني هنا الحكي (القَصّ)، والاحتفال بما يحملانه من طاقات كبيرة في التعبير والإصغاء الخلاَّق، ومن اشتغالٍ في المكان ومن تحشيد، محصّلته الأخيرة صناعة الحوار والتحاور وهو ما لا تستطيع تحقيقه الأديان والفلسفات والسياسية بالجدارة التي تفعلها الفنون، لذلك فالفنون حياة.
إجمالاً تستطيع الفنون أن تساعد في:
- نشر ثقافة الحوار، وبالتالي نشر ثقافة الديمقراطية كما يفعل فن المسرح مثلاً، مما يساعد على خلق مجتمع تتعدَّد وتتنوَّع فيه الأفكار والآراء.
- تنمية الحسّ الإبداعي والملكات النقدية وتذوّق الجمال، مما يعني إمكانية خلق علاقة مُغايرة مع الواقع ومع الآخرين.
- إعادة حكاياتنا وقصصنا الشخصية، مما يُجمِّل علاقتنا بالعالم ويحفّزنا على اكتشاف ذواتنا.
- نشر الفرح والسرور والبهجة مما يساعد على تنمية الشخصية وزيادة قدرتها على التسامح والاعتراف بالآخر.
- تُمثِّل صوت من لا صوت لهم من المهمشين والفقراء، وذلك بالتعبير عن احتياجاتهم وأسئلتهم، مما يجعلهم حاضرين في المجال العام.
- تُساهم بالتنوير والتثقيف فى الحملات الاجتماعية والصحية والسياسية وغيرها، وهو ما يُعدُّ دعماً لهذه الحقوق.
- تساهم في الحد من النزاعات التي تنشأ من عدم المقدرة على إدارة التنوّع، وذلك بقدرتها على التصدي للتنميط الذي يطال الأفراد والمعتقدات على خلفيّات عرقية أو دينية أو نوعية، بمعنى الدعوة غير المباشرة للحوار في المسكوت عنه.
- تمثّل الصيغة الأمثل لدعم الحوار والتبادل الثقافي بين الشعوب، بما تمتلكه من خاصية تمكّنها من العبور السلمي بين الحدود.
قال محمود درويش:
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مسلة المصري
مقبرة الفراعنة
النقوش على حجارة معبدٍ
هَزَمتك وانتَصرت وأفلَتَ من كمائنك الخلود
فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

ثمة فكرة رائجة عن ما تَلعبه الفنون من أدوار في المجتمع، مفادها أنها تلعب أدوراً في التنوير والتعليم والترفيه، أي بكلّ ما يتّصل بالتنمية المجتمعية في مفهومها الأشمل، وبالطبع هذا افتراضٌ لا غبار عليه، لذلك يسعى الفاعلون في التغيير الاجتماعي إلى إدماجها في عمليات التغيير. لكن الناظر إلى أدوار الفنون بتمعّن سيجد أنها لا تقف عند هذه الأدوار، فالفنون وبما أنها "مجاورة" للحياة اليومية، وليست انعكاساً ميكانيكيّاً لها كما يذهب كثيرون؛ تجد نفسها بسبب مجاورتها هذه، مُطالبة بتحقيق اختلافٍ ما عن ما تُنتجه الحياة اليومية من جماليات ومجازات، فالحياة اليومية، كما نرى، لها اشتغال مجازيّ في اللغة في بعدها التواصلي؛ اشتغال في استطاعته أن يُحمِّل المفردات دلالات تتعدَّى معناها المعجمي، وأن يصيغ مقولات دالَّة على رافعة من المجاز تُعبِّر عن أكثر الأفكار والمشاعر تعقيداً، كما في ما يُعرف بالأمثال الشعبية، وتسطيع كذلك أن تُعيد تشكيل المادة الخام كالجسد، والحجر، والخشب، والطين، والسعف..إلخ، مما يمنحها انحرافاً معياريَّاً يضعها في حيِّز المجاورة مع الفنون.
إذن أين يكمن الاختلاف مع هذا التجاور؟ أي ما هي اللحظة التي تمظهر فيها هذا الاختلاف؟ الإجابة: إنها اللحظة التي ظهرت فيها الفئة التي سُمِّيت بالفنانين، وبدأ فيها استقلال الفنون عن الظواهر الكبرى؛ الدين والفلسفة، والأهم إعادة إنتاجها لجماليات الحياة اليومية ومجازاتها والشروع في بناء تاريخها الخاص. هذه السيرورة للفنون أول ما تَكشفه هو أن جينها الأساس، الـ(DNA)، قد تخلَّق من أمشاج متآزرة هي الدين والفلسفة والحياة اليومية، وهو ما جعلها تتفرَّد بخاصية "التنوّع"، والذي لا يقوم إلا والحوار والتحاور حضور. ولعلّ كل هذا مجتمعاً هو ما جَعَلها تتعدَّى البعد المجتمعي غير المعقّد الذي يَنظُر إليها كأداة، لتراوح بين المجتمعي والوجودي، بين اليومي والكوني بشعرية كثيفة، ومن هنا يتعدَّى موقعها في أن تكون وسيلة للبنى الاجتماعية الأخرى (اجتماعية، كانت أم اقتصادية، أم سياسية)، إلى مُجاوِرَة هذه البنى، مؤثِّرةً فيها ومُتأثِّرةً بها. يُضاف لهذا تميّزها في أنها تنهض عن (رؤيا للعالم)، كما في قول "لوسيان غولدمان"، وأنها حوارية بطبيعتها، وأن مبدعها ليس فرداً وإنما (ذاتاً مُبدعة)، والتي تعني فيما تعني جِماع الخبرات وتاريخ النمط الفني المعّين فما يكتبه أحدنا من نصٍّ شعريٍّ، على سبيل المثال، على أصالته ما هو إلا تجلٍّ لنصوص شِعريَّة خفية.
تظلّ الفنون جميعها بما لها من مقدرة في التعبير عن أسئلة الإنسان المجتمعية والوجودية، وفي منحه المقدرة على تذوق الوجود؛ تظلّ هي الأقدر على صناعة التحاور كاحتياج إنساني لا تستقيم الحياة بدونه، فهو وسيلة التعارف بينهم، وهو وسيلة التبادل السلميّ للأفكار والرؤى، وهو الجسر بين الإفضاء والسمع والبصر والفؤاد، وكيف لا؟ فالفنون عابرة للحدود؛ كل الحدود، والفنون تستحوذ على أَقيَمِ ما اخترعه الإنسان، وأعني هنا الحكي (القَصّ)، والاحتفال بما يحملانه من طاقات كبيرة في التعبير والإصغاء الخلاَّق، ومن اشتغالٍ في المكان ومن تحشيد، محصّلته الأخيرة صناعة الحوار والتحاور وهو ما لا تستطيع تحقيقه الأديان والفلسفات والسياسية بالجدارة التي تفعلها الفنون، لذلك فالفنون حياة.
إجمالاً تستطيع الفنون أن تساعد في:
- نشر ثقافة الحوار، وبالتالي نشر ثقافة الديمقراطية كما يفعل فن المسرح مثلاً، مما يساعد على خلق مجتمع تتعدَّد وتتنوَّع فيه الأفكار والآراء.
- تنمية الحسّ الإبداعي والملكات النقدية وتذوّق الجمال، مما يعني إمكانية خلق علاقة مُغايرة مع الواقع ومع الآخرين.
- إعادة حكاياتنا وقصصنا الشخصية، مما يُجمِّل علاقتنا بالعالم ويحفّزنا على اكتشاف ذواتنا.
- نشر الفرح والسرور والبهجة مما يساعد على تنمية الشخصية وزيادة قدرتها على التسامح والاعتراف بالآخر.
- تُمثِّل صوت من لا صوت لهم من المهمشين والفقراء، وذلك بالتعبير عن احتياجاتهم وأسئلتهم، مما يجعلهم حاضرين في المجال العام.
- تُساهم بالتنوير والتثقيف فى الحملات الاجتماعية والصحية والسياسية وغيرها، وهو ما يُعدُّ دعماً لهذه الحقوق.
- تساهم في الحد من النزاعات التي تنشأ من عدم المقدرة على إدارة التنوّع، وذلك بقدرتها على التصدي للتنميط الذي يطال الأفراد والمعتقدات على خلفيّات عرقية أو دينية أو نوعية، بمعنى الدعوة غير المباشرة للحوار في المسكوت عنه.
- تمثّل الصيغة الأمثل لدعم الحوار والتبادل الثقافي بين الشعوب، بما تمتلكه من خاصية تمكّنها من العبور السلمي بين الحدود.
قال محمود درويش:
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مسلة المصري
مقبرة الفراعنة
النقوش على حجارة معبدٍ
هَزَمتك وانتَصرت وأفلَتَ من كمائنك الخلود
فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

إيماءات وإشارات

إيماءات وإشارات
هناك نكتة قديمة عن طالب سوداني سافر إلى أوروبا منذ زمن بعيد، وكان يُخطئ في التعرُّف على أشخاص يظنّ أنّهم سودانيون بناءً على ملامحهم. وفي أحد الأيام، بينما كان يستقل قطار الأنفاق، صعد شخص تبدو عليه الملامح السودانية. كان الطالب قد فقد الأمل في العثور على شخص آخر من جنسيته، لكن الشخص جلسَ بجانبه، وعندما انحنى للجلوس أطلق صوت "أَحْ"، فاحتضنه الطالب على الفور.
تتحدث هذه النكتة عن الإيماءات غير اللفظية التي نقوم بها والتي تجعلنا مميزين، ولكنها أيضًا تُتِيح لنا فهم بعضنا البعض أو حتى إجراء محادثات كاملة دون أن نفتح أفواهنا.
يمكننا جميعاً التعرُّف على حركة ضَم أطراف الأصابع الخمسة معاً، التي غالباً ما تُنسب إلى المتحدثين الإيطاليين، باعتبارها حركة أكثر تهديداً وتُستخدم من قِبَل الأمهات الغاضبات للإشارة إلى عقوبة مُؤَجَّلة.
استخدام العيون والفم للتعبير عن فكرةٍ ما أمر شائع في المحادثات اليومية، وكذلك الأمر بالنسبة للرائحة. المرأة المتزوجة حديثاً تسير محاطة بسحابة من العطر أينما ذهبت، مما يشير إلى حالتها الاجتماعية الجديدة. ويمكنك التعرُّف على المرأة المتزوجة من خلال نمط حنّائها، حيث تُحصر تغطية أطراف الأصابع على النساء المتزوجات، ولكن من الأنماط وكمية الحناء يمكنك أن تعرف ما إذا كانت حديثة الزواج أم عروساً، أو حتى امرأة غير متزوجة لكنها قريبة جداً من العروس، مثل الأخت على سبيل المثال.
هناك إشارات يدويَّة أخرى حديثة الاختراع، مثل أسلوب الإشارة لركوب الباصات. فقد اختَرَع "الكماسرة" -وهم مساعدو السائقين- لغة كاملة للتواصل تختلف من مكان لآخر حسب نقطة الانطلاق والوجهة. لكنها رمزية للغاية، فمثلًا، الإشارة المتكررة إلى الأسفل تعني أن الباص سيلتزم بهذا الطريق، دوران الإصبع يعني أن الباص متجه إلى دوار، الإشارة شرقًا تعني أن الباص متجه إلى بحري أو الخرطوم، الواقعتين شرق النيل، بينما الإشارة غربًا تعني أن الباص متجه إلى الخرطوم إذا كُنتَ تستقلّ الباص من أم درمان أو بحري. أما الإشارة إلى الأعلى، فتعني أنه لا توجد مقاعد فارغة، وأنك ستضطر للوقوف بجانب الباب، وهو حق محفوظ للرجال فقط. الإشارة الأكثر إحباطًا في هذا السياق هي عندما "تنمو" للكُمساري أيدٍ متعددة، فهذا يعني أن الباب نفسه ممتلئ، ولن يتوقف الباص لأي كائنٍ حي أو غير حي.
عندما تكون داخل الباص، يهز الكمساري قبضته المليئة بالنقود المعدنية ليُعلِمك بضرورة الدفع، وهو لا يُفرقِع أصابعه إلا عندما يحاول أحد الركاب التظاهر بعدم سماع صوت النقود. لإيقاف الباص، يمكنك فرقعة أصابعك، لكن السائق لن يتوقف إلا بإشارة الكمساري، والتي تكون عادةً صفارة. الباص سيتوقف في أي مكان تريده، حتى لو كان في وسط النهر.
وفي عوالم المواصلات، هناك نظام إشارات آخر معروف، وهو استخدام أبواق الموسيقى من قبل الباصات والشاحنات في الطرق السريعة بين المدن. يستخدم السائقون الألحان للإعلان عن وصولهم أو لطلب كوب من القهوة من ست الشاي أثناء اقترابهم من المحطة. كما يتواصلون مع بعضهم البعض أو يقومون بذلك للمتعة فقط.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي
هناك نكتة قديمة عن طالب سوداني سافر إلى أوروبا منذ زمن بعيد، وكان يُخطئ في التعرُّف على أشخاص يظنّ أنّهم سودانيون بناءً على ملامحهم. وفي أحد الأيام، بينما كان يستقل قطار الأنفاق، صعد شخص تبدو عليه الملامح السودانية. كان الطالب قد فقد الأمل في العثور على شخص آخر من جنسيته، لكن الشخص جلسَ بجانبه، وعندما انحنى للجلوس أطلق صوت "أَحْ"، فاحتضنه الطالب على الفور.
تتحدث هذه النكتة عن الإيماءات غير اللفظية التي نقوم بها والتي تجعلنا مميزين، ولكنها أيضًا تُتِيح لنا فهم بعضنا البعض أو حتى إجراء محادثات كاملة دون أن نفتح أفواهنا.
يمكننا جميعاً التعرُّف على حركة ضَم أطراف الأصابع الخمسة معاً، التي غالباً ما تُنسب إلى المتحدثين الإيطاليين، باعتبارها حركة أكثر تهديداً وتُستخدم من قِبَل الأمهات الغاضبات للإشارة إلى عقوبة مُؤَجَّلة.
استخدام العيون والفم للتعبير عن فكرةٍ ما أمر شائع في المحادثات اليومية، وكذلك الأمر بالنسبة للرائحة. المرأة المتزوجة حديثاً تسير محاطة بسحابة من العطر أينما ذهبت، مما يشير إلى حالتها الاجتماعية الجديدة. ويمكنك التعرُّف على المرأة المتزوجة من خلال نمط حنّائها، حيث تُحصر تغطية أطراف الأصابع على النساء المتزوجات، ولكن من الأنماط وكمية الحناء يمكنك أن تعرف ما إذا كانت حديثة الزواج أم عروساً، أو حتى امرأة غير متزوجة لكنها قريبة جداً من العروس، مثل الأخت على سبيل المثال.
هناك إشارات يدويَّة أخرى حديثة الاختراع، مثل أسلوب الإشارة لركوب الباصات. فقد اختَرَع "الكماسرة" -وهم مساعدو السائقين- لغة كاملة للتواصل تختلف من مكان لآخر حسب نقطة الانطلاق والوجهة. لكنها رمزية للغاية، فمثلًا، الإشارة المتكررة إلى الأسفل تعني أن الباص سيلتزم بهذا الطريق، دوران الإصبع يعني أن الباص متجه إلى دوار، الإشارة شرقًا تعني أن الباص متجه إلى بحري أو الخرطوم، الواقعتين شرق النيل، بينما الإشارة غربًا تعني أن الباص متجه إلى الخرطوم إذا كُنتَ تستقلّ الباص من أم درمان أو بحري. أما الإشارة إلى الأعلى، فتعني أنه لا توجد مقاعد فارغة، وأنك ستضطر للوقوف بجانب الباب، وهو حق محفوظ للرجال فقط. الإشارة الأكثر إحباطًا في هذا السياق هي عندما "تنمو" للكُمساري أيدٍ متعددة، فهذا يعني أن الباب نفسه ممتلئ، ولن يتوقف الباص لأي كائنٍ حي أو غير حي.
عندما تكون داخل الباص، يهز الكمساري قبضته المليئة بالنقود المعدنية ليُعلِمك بضرورة الدفع، وهو لا يُفرقِع أصابعه إلا عندما يحاول أحد الركاب التظاهر بعدم سماع صوت النقود. لإيقاف الباص، يمكنك فرقعة أصابعك، لكن السائق لن يتوقف إلا بإشارة الكمساري، والتي تكون عادةً صفارة. الباص سيتوقف في أي مكان تريده، حتى لو كان في وسط النهر.
وفي عوالم المواصلات، هناك نظام إشارات آخر معروف، وهو استخدام أبواق الموسيقى من قبل الباصات والشاحنات في الطرق السريعة بين المدن. يستخدم السائقون الألحان للإعلان عن وصولهم أو لطلب كوب من القهوة من ست الشاي أثناء اقترابهم من المحطة. كما يتواصلون مع بعضهم البعض أو يقومون بذلك للمتعة فقط.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

هناك نكتة قديمة عن طالب سوداني سافر إلى أوروبا منذ زمن بعيد، وكان يُخطئ في التعرُّف على أشخاص يظنّ أنّهم سودانيون بناءً على ملامحهم. وفي أحد الأيام، بينما كان يستقل قطار الأنفاق، صعد شخص تبدو عليه الملامح السودانية. كان الطالب قد فقد الأمل في العثور على شخص آخر من جنسيته، لكن الشخص جلسَ بجانبه، وعندما انحنى للجلوس أطلق صوت "أَحْ"، فاحتضنه الطالب على الفور.
تتحدث هذه النكتة عن الإيماءات غير اللفظية التي نقوم بها والتي تجعلنا مميزين، ولكنها أيضًا تُتِيح لنا فهم بعضنا البعض أو حتى إجراء محادثات كاملة دون أن نفتح أفواهنا.
يمكننا جميعاً التعرُّف على حركة ضَم أطراف الأصابع الخمسة معاً، التي غالباً ما تُنسب إلى المتحدثين الإيطاليين، باعتبارها حركة أكثر تهديداً وتُستخدم من قِبَل الأمهات الغاضبات للإشارة إلى عقوبة مُؤَجَّلة.
استخدام العيون والفم للتعبير عن فكرةٍ ما أمر شائع في المحادثات اليومية، وكذلك الأمر بالنسبة للرائحة. المرأة المتزوجة حديثاً تسير محاطة بسحابة من العطر أينما ذهبت، مما يشير إلى حالتها الاجتماعية الجديدة. ويمكنك التعرُّف على المرأة المتزوجة من خلال نمط حنّائها، حيث تُحصر تغطية أطراف الأصابع على النساء المتزوجات، ولكن من الأنماط وكمية الحناء يمكنك أن تعرف ما إذا كانت حديثة الزواج أم عروساً، أو حتى امرأة غير متزوجة لكنها قريبة جداً من العروس، مثل الأخت على سبيل المثال.
هناك إشارات يدويَّة أخرى حديثة الاختراع، مثل أسلوب الإشارة لركوب الباصات. فقد اختَرَع "الكماسرة" -وهم مساعدو السائقين- لغة كاملة للتواصل تختلف من مكان لآخر حسب نقطة الانطلاق والوجهة. لكنها رمزية للغاية، فمثلًا، الإشارة المتكررة إلى الأسفل تعني أن الباص سيلتزم بهذا الطريق، دوران الإصبع يعني أن الباص متجه إلى دوار، الإشارة شرقًا تعني أن الباص متجه إلى بحري أو الخرطوم، الواقعتين شرق النيل، بينما الإشارة غربًا تعني أن الباص متجه إلى الخرطوم إذا كُنتَ تستقلّ الباص من أم درمان أو بحري. أما الإشارة إلى الأعلى، فتعني أنه لا توجد مقاعد فارغة، وأنك ستضطر للوقوف بجانب الباب، وهو حق محفوظ للرجال فقط. الإشارة الأكثر إحباطًا في هذا السياق هي عندما "تنمو" للكُمساري أيدٍ متعددة، فهذا يعني أن الباب نفسه ممتلئ، ولن يتوقف الباص لأي كائنٍ حي أو غير حي.
عندما تكون داخل الباص، يهز الكمساري قبضته المليئة بالنقود المعدنية ليُعلِمك بضرورة الدفع، وهو لا يُفرقِع أصابعه إلا عندما يحاول أحد الركاب التظاهر بعدم سماع صوت النقود. لإيقاف الباص، يمكنك فرقعة أصابعك، لكن السائق لن يتوقف إلا بإشارة الكمساري، والتي تكون عادةً صفارة. الباص سيتوقف في أي مكان تريده، حتى لو كان في وسط النهر.
وفي عوالم المواصلات، هناك نظام إشارات آخر معروف، وهو استخدام أبواق الموسيقى من قبل الباصات والشاحنات في الطرق السريعة بين المدن. يستخدم السائقون الألحان للإعلان عن وصولهم أو لطلب كوب من القهوة من ست الشاي أثناء اقترابهم من المحطة. كما يتواصلون مع بعضهم البعض أو يقومون بذلك للمتعة فقط.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

لغة النحاس

لغة النحاس
تسمى مجموعة الطبول المخصصة لكل حاكم أو قبيلة بالنحاس، وكانت تُصنع من النحاس وتُغطى بجلد التيتل أو البقر أو الإبل.
- للطبول دلالات ثقافية ممتدّة من مملكة الفونج وحتى اليوم، فقد كانت تُستخدم كرمز قَبَلي وأداة للتواصل بين القبائل، وارتبطت بالكثير من الطقوس والمراسم، مثل حالات الاستدعاء العامة للحرب، وعند وفاة شخص عظيم، وأيضاً في حالات التشاور أو الاجتماع بالسلاطين.
- سُميت الإيقاعات المضروبة على النحاس بأسماء مختلفة مثل الدّرَق (إيقاع إثارة الحماس وإظهار المكانة الاجتماعية) ، وغيرها من الإيقاعات المتعارف عليها عبر الأجيال.
- استخدمت الدولة المهدية النحاس ضمن الوحدة الموسيقية للخليفة، وشملت جماعة النحاس، وجماعة الإمباية. وكان ذلك في العرضة والاحتفالات والمناسبات القومية المختلفة.
- فعّل الخليفة عبد الله منشور الإمام المهدي الذي كان ينص على عدم جواز ضرب النّحاس إلّا في حالتي الحرب والمأتم.
صورة الغلاف: قبيلة الجعليين تدق النحاس في معسكر ود حمد أثناء الاستعدادات النهائية للتقدم إلى جبهة أم درمان، تاريخ الصورة: ١٨٩٨، تصوير الجنرال السير ريجينالد وينجيت © أرشيف السودان بجامعة دورهام
تسمى مجموعة الطبول المخصصة لكل حاكم أو قبيلة بالنحاس، وكانت تُصنع من النحاس وتُغطى بجلد التيتل أو البقر أو الإبل.
- للطبول دلالات ثقافية ممتدّة من مملكة الفونج وحتى اليوم، فقد كانت تُستخدم كرمز قَبَلي وأداة للتواصل بين القبائل، وارتبطت بالكثير من الطقوس والمراسم، مثل حالات الاستدعاء العامة للحرب، وعند وفاة شخص عظيم، وأيضاً في حالات التشاور أو الاجتماع بالسلاطين.
- سُميت الإيقاعات المضروبة على النحاس بأسماء مختلفة مثل الدّرَق (إيقاع إثارة الحماس وإظهار المكانة الاجتماعية) ، وغيرها من الإيقاعات المتعارف عليها عبر الأجيال.
- استخدمت الدولة المهدية النحاس ضمن الوحدة الموسيقية للخليفة، وشملت جماعة النحاس، وجماعة الإمباية. وكان ذلك في العرضة والاحتفالات والمناسبات القومية المختلفة.
- فعّل الخليفة عبد الله منشور الإمام المهدي الذي كان ينص على عدم جواز ضرب النّحاس إلّا في حالتي الحرب والمأتم.
صورة الغلاف: قبيلة الجعليين تدق النحاس في معسكر ود حمد أثناء الاستعدادات النهائية للتقدم إلى جبهة أم درمان، تاريخ الصورة: ١٨٩٨، تصوير الجنرال السير ريجينالد وينجيت © أرشيف السودان بجامعة دورهام

تسمى مجموعة الطبول المخصصة لكل حاكم أو قبيلة بالنحاس، وكانت تُصنع من النحاس وتُغطى بجلد التيتل أو البقر أو الإبل.
- للطبول دلالات ثقافية ممتدّة من مملكة الفونج وحتى اليوم، فقد كانت تُستخدم كرمز قَبَلي وأداة للتواصل بين القبائل، وارتبطت بالكثير من الطقوس والمراسم، مثل حالات الاستدعاء العامة للحرب، وعند وفاة شخص عظيم، وأيضاً في حالات التشاور أو الاجتماع بالسلاطين.
- سُميت الإيقاعات المضروبة على النحاس بأسماء مختلفة مثل الدّرَق (إيقاع إثارة الحماس وإظهار المكانة الاجتماعية) ، وغيرها من الإيقاعات المتعارف عليها عبر الأجيال.
- استخدمت الدولة المهدية النحاس ضمن الوحدة الموسيقية للخليفة، وشملت جماعة النحاس، وجماعة الإمباية. وكان ذلك في العرضة والاحتفالات والمناسبات القومية المختلفة.
- فعّل الخليفة عبد الله منشور الإمام المهدي الذي كان ينص على عدم جواز ضرب النّحاس إلّا في حالتي الحرب والمأتم.
صورة الغلاف: قبيلة الجعليين تدق النحاس في معسكر ود حمد أثناء الاستعدادات النهائية للتقدم إلى جبهة أم درمان، تاريخ الصورة: ١٨٩٨، تصوير الجنرال السير ريجينالد وينجيت © أرشيف السودان بجامعة دورهام

نحاس السلطان علي دينار

نحاس السلطان علي دينار
أوائل القرن العشرين
هذا النحاس يرمز إلى سلطة سلطان دارفور. تم استخدامه لدعوة الناس للحضور في المناسبات خاصةُ المتعلقة بالحرب والطوارئ. كما تم استخدامه كأداة موسيقية. مصنوع من النحاس وجلد البقر.
مجموعة متحف بيت الخليفة
أوائل القرن العشرين
هذا النحاس يرمز إلى سلطة سلطان دارفور. تم استخدامه لدعوة الناس للحضور في المناسبات خاصةُ المتعلقة بالحرب والطوارئ. كما تم استخدامه كأداة موسيقية. مصنوع من النحاس وجلد البقر.
مجموعة متحف بيت الخليفة

أوائل القرن العشرين
هذا النحاس يرمز إلى سلطة سلطان دارفور. تم استخدامه لدعوة الناس للحضور في المناسبات خاصةُ المتعلقة بالحرب والطوارئ. كما تم استخدامه كأداة موسيقية. مصنوع من النحاس وجلد البقر.
مجموعة متحف بيت الخليفة

حوارٌ مع عوالم أخرى

حوارٌ مع عوالم أخرى
للشيوخ وأصحاب الكرامات مكانة مهمة في المجتمع السوداني، خصوصاً في المفاهيم الصوفية، كمثل الشيوخ من يتبعون الطرق الإسلامية للعلاج والرقية الشرعية، وهي تعتمد القرآن والسنة كمرجع للعلاج. السحر والشعوذة هي ممارسات محرمة في الدين الإسلامي، إلا أن هذا لا يعني أنه ليس هناك شيوخ يستخدمون السحر لأغراض أخرى، يطلق عليهم مصطلح الشيوخ الروحانيين. عادة ترتبط زيارة مثل هذه المزارات بطلبات درامية الطبع مثل جلب الحبيب، فك العوارض أو التحكم بقرار شخص، وقد تكون طلبات أكثر شراً مثل جلب الحظ السيء على شخص آخر، أو ما يسمى "بكتابة" شخص. على خلاف الشيوخ "الفقرا" وأصحاب الكرامات، يعتمد الشيوخ الروحانيين على قدرتهم على تواصل مع كائنات من عوالم أخرى، حيث يقوم الساحر بعقد اتفاق مع "خادم السحر" (جني/مارد/عفريت) على أن يُتِمَّ أمر بالنيابة عنه بعد تبادل منافع مع الساحر، وهو نوع من التواصل يعتبر محفوفاً بالمخاطر.
الجِنّ مفردها جِنِّيّ أو "جِنِّيَّة" وهو من الفعل جَنَّ (بفتح الجيم وتشديد النون وفتحها) بمعنى استَتر وغطَّى، وهم وبحسب مختلف الأديان والأساطير العربية القديمة مخلوقات تعيش في ذات العالم، ولكن لا يمكن رؤيتها عادة، وهي خارقة للطبيعة التي تدركها حواسنا، لها عقول وفهم، ويقال إنما سميت بذلك لأنها تتوارى عن الأنظار ولا تُرى. أجمع المسلمون على إقرار وجودها.
في السودان يعتقد البعض أن الاعتقاد بالجن والسحر هي عادة قديمة ترجع لعصور ما قبل نشأة الحضارة الكوشية. وفي التاريخ الحديث، يَعتقد سُكَّان جزيرة سواكن التاريخية الأثرية أن الجن يسكنها منذ عهد النبي سليمان، ومنه جاء الاسم "سواكن"، ونُسجت حولها الكثير من القصص والأساطير، فمن منّا لم يسمع عن قطط سواكن؟. وللجن وقبائل الجن الكثير من النصوص والدراسات الدينية، كما له ولعالم الغيب الكثير من الممارسات التراثية في الإرث السوداني، قد اندثر الكثير منها وما زال يمارسها البعض، وإن كان أغلب الممارسين لا يعلمون علاقتها بهذا النوع من المعتقدات.
كمثال للممارسات في الحماية من الجن ما يَتَمثَّل في صنع التمائم والأحجبة -جمع حجاب- وربط الخرز على الأطفال وحتى الماشية، هي معتقدات بأنها تحمي من الجن والأرواح الشريرة وكذلك مفهوم العالم السفلي. وما زالت تُمارس في أماكن مختلفة من السودان، مثلها مثل الحريرة، وهي عبارة عن خيوط من الحرير الخالص يُضفَر وتتخلَّله خُرزة زرقاء تُربط في معصم اليد في العادات والتقاليد السودانية المرتبطة بالزواج، الجرتق على الخصوص، والطهور. قد لا تكون الحريرة بنفس وضوح التمائم إلا أنها أيضاً ترتبط بمفهوم الحماية من الأرواح الشريرة والعين والحَسد والجن، وتقوم بالإشراف على صنعها وربطها النساء الكبار في السن؛ حيث يكنّ قريبات الزوج أو الزوجة أو الخالات والعمات والجدات، وأيضاً أم أو جدة الطفل عند الطهور (الختان).
وكتبت أستاذة أماني بشير، مديرة متحف شيكان، عن عادات منطقة الأبيض وكردفان في ما يخص خاتم الجنيه، وهو عبارة عن قطعة معدنية مرسومٌ على الوجه الأول صورة رجل والوجه الآخر قيمة لعملة الجنيه. يُرتَدى الجنيه كقطعة حلي أصل صنعها من الذهب الخالص، لكن توجد الفضة ومعادن أخرى ترتديها النساء بصورة أساسية للزينة، وتتمثّل معتقدات لبس خاتم الجنيه في الحفظ من الأرواح الشريرة، ولذلك ترتديه العروس لمدة أربعين يوم بعد الزواج، ويعتقد في تلك الفترة أنها تكون في أبهى جمالها وأن الأرواح الشريرة تكثُر من حولها، وأيضاً ترتديه المرأة النَفَسَاء في فترة النفاس لذات المعتقد، أيضاً يرتديه العريس لمدة سبعة أيام من زواجه. من هذا المنطلق وُضع لبس خاتم الجنيه للحماية من الطاقات السلبية التي يمكن أن تضرّ الإنسان.
بينما الأحجبة والحريرة والجنيه كلها تمائم تعني الحماية وقطع التواصل مع العوالم الأخرى، إلا أن هناك ممارسات أخرى مهمتها التواصل مع الجن مباشرة، لطرح أسئلة أو غيرها، أشهرها "رمي الوَدِع" و"الزَّار/الظّار". رمي الودع هو نوع من أنواع قراءة الطالع، وتُرمى فيه قواقع أو صدف البحر يختار منها سبع صدفات متشابهة وبشكل معروف، تحرك معاً داخل الكف وهي مغلقة ثم تُلقى على الأرض، لتقوم قارئة الطالع بترجمة الرسالة الناتجة من وضعية الصدفات بحسب مدى قربها أو بعدها عن بعضها، أو إن كانت مقلوبة على ظهرها أو على وجهها، فما يستقر عليه "الودع" في كل مرة له قراءة خاصة ربما تكون مؤكِّدة للقراءة السابقة أو مختلفة عنها. و عادة يبحث السائل عن إجابات عن أشخاص آخرين ومعرفة أسباب مشاكلهم، وليس شرطاً أن تكون متعلقة بالمستقبل بل قد تكون متعلقة بالماضي أو المستقبل أو مزيج منهما. ويعتقد في مقدرة قارئة الودع من التواصل مع عالم آخر وترجمة تلك الرسائل عبر استخدام الصَدَف. وذلك بعكس حالة الزار/الظار أو ما يعرف بالريح الأحمر، حيث تكون الزائرة هي "الممسوسة" وفي حاجة لتقديم طقس للجن وتلبي الكثير من الرغبات لتصبح أفضل.
يُعتقد أن الزار يأتي من أصول إفريقية، انتقل من الحبشة إلى السودان ومصر وهو طقس استحضار أرواح الأسلاف والأسياد والشيوخ وتحقيق طلباتهم أو تقمص أرواحهم بغرض شفاء المرضى ممن تتلبسهم الجن. يرى الكثير من الناس أن الزار طقس علاجي، له الفضل في علاج كثير من الحالات النفسية الهستيرية، كما هو طريقة للنساء في التعامل مع ضغوط حياتهن. ويتم عبر تحقيق طلبات الأسياد، كتخصيص طعام وموسيقى وأغانٍ وعطور وبخور وملابس وغيرها لهذا الطقس، وتحضر الطقس الكثير من النساء اللاتي يلعبن أدواراً مختلفة؛ مثل شيخة الزار ولها مساعدات ونائبة تتولى مراقبة الحفل وضبطه، وحبوبة الكانون المسؤولة من الطعام وغيرهن. وهناك اختلاف في أنواع احتفالات الزار تسمى خيوط التي تقام مع اختلاف الطقوس، حسب نوع أو جنس الجن صاحب المس، كخيط الزرق أو السود، وتكون "المزيورات" في خيط الزرق من قبائل غرب إفريقيا، مثل الهوسا والفلاتة وجنوب السودان، ويكون طعامهم وموسيقاهم وملابسهم بحسب عاداتهم الأصلية. وبصورة مشابهة خيط الحبش وخيط الخواجات وغيرهم.
بعيداً عن عالم الجن والسحر يفضل المسلمون طلب الحاجة من الله سبحانه وتعالى من غير وسيط، والتبرك بالكرامة وهي الصدقة، أيضاً تُسمى البركة وهي ممارسة اجتماعية تؤديها المجتمعات بنية التقرب والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى ورفع البلاء أو تخفيف المصائب أو الشكر على نعمة أو فرح أو استجابة دعوة. كرامة البليلة عبارة عن وجبة يتم إعدادها وتوزيعها للمحتاجين والمساكين، وارتبطت أعراف معينة بكرامة البليلة أهمها أن يتم طبخ البليلة في إناء أو قِدر مفتوح حيث يعتقد أن بوخ البليلة (البُخار) يصعد إلى السماء ويأخذ معه كل الشر والأمراض والبلاء، إضافة إلى الأدعية التي يتم ترديدها أثناء الطبخ والتوزيع، ومن الشائع أن دعوة الكرامة لا تُرد أو تُرفض وكل إنسان يصادف البليلة يجب أن يَحظى بنصيبٍ منها ولو القليل للتبرُّك، لذا أُطلق عليها اسم البركة، اعتقاداً منهم في أهميتها.
تظل رغبة البشر في التواصل مع عوالم أخرى غير مرئية أمر قديم ومشترك بين أغلب شعوب العالم، لكلٍّ منهم دلالات وأغراض.
صورة الغلاف: حولية الشيخ حمد النيل في أم درمان © يوسف الشيخ
للشيوخ وأصحاب الكرامات مكانة مهمة في المجتمع السوداني، خصوصاً في المفاهيم الصوفية، كمثل الشيوخ من يتبعون الطرق الإسلامية للعلاج والرقية الشرعية، وهي تعتمد القرآن والسنة كمرجع للعلاج. السحر والشعوذة هي ممارسات محرمة في الدين الإسلامي، إلا أن هذا لا يعني أنه ليس هناك شيوخ يستخدمون السحر لأغراض أخرى، يطلق عليهم مصطلح الشيوخ الروحانيين. عادة ترتبط زيارة مثل هذه المزارات بطلبات درامية الطبع مثل جلب الحبيب، فك العوارض أو التحكم بقرار شخص، وقد تكون طلبات أكثر شراً مثل جلب الحظ السيء على شخص آخر، أو ما يسمى "بكتابة" شخص. على خلاف الشيوخ "الفقرا" وأصحاب الكرامات، يعتمد الشيوخ الروحانيين على قدرتهم على تواصل مع كائنات من عوالم أخرى، حيث يقوم الساحر بعقد اتفاق مع "خادم السحر" (جني/مارد/عفريت) على أن يُتِمَّ أمر بالنيابة عنه بعد تبادل منافع مع الساحر، وهو نوع من التواصل يعتبر محفوفاً بالمخاطر.
الجِنّ مفردها جِنِّيّ أو "جِنِّيَّة" وهو من الفعل جَنَّ (بفتح الجيم وتشديد النون وفتحها) بمعنى استَتر وغطَّى، وهم وبحسب مختلف الأديان والأساطير العربية القديمة مخلوقات تعيش في ذات العالم، ولكن لا يمكن رؤيتها عادة، وهي خارقة للطبيعة التي تدركها حواسنا، لها عقول وفهم، ويقال إنما سميت بذلك لأنها تتوارى عن الأنظار ولا تُرى. أجمع المسلمون على إقرار وجودها.
في السودان يعتقد البعض أن الاعتقاد بالجن والسحر هي عادة قديمة ترجع لعصور ما قبل نشأة الحضارة الكوشية. وفي التاريخ الحديث، يَعتقد سُكَّان جزيرة سواكن التاريخية الأثرية أن الجن يسكنها منذ عهد النبي سليمان، ومنه جاء الاسم "سواكن"، ونُسجت حولها الكثير من القصص والأساطير، فمن منّا لم يسمع عن قطط سواكن؟. وللجن وقبائل الجن الكثير من النصوص والدراسات الدينية، كما له ولعالم الغيب الكثير من الممارسات التراثية في الإرث السوداني، قد اندثر الكثير منها وما زال يمارسها البعض، وإن كان أغلب الممارسين لا يعلمون علاقتها بهذا النوع من المعتقدات.
كمثال للممارسات في الحماية من الجن ما يَتَمثَّل في صنع التمائم والأحجبة -جمع حجاب- وربط الخرز على الأطفال وحتى الماشية، هي معتقدات بأنها تحمي من الجن والأرواح الشريرة وكذلك مفهوم العالم السفلي. وما زالت تُمارس في أماكن مختلفة من السودان، مثلها مثل الحريرة، وهي عبارة عن خيوط من الحرير الخالص يُضفَر وتتخلَّله خُرزة زرقاء تُربط في معصم اليد في العادات والتقاليد السودانية المرتبطة بالزواج، الجرتق على الخصوص، والطهور. قد لا تكون الحريرة بنفس وضوح التمائم إلا أنها أيضاً ترتبط بمفهوم الحماية من الأرواح الشريرة والعين والحَسد والجن، وتقوم بالإشراف على صنعها وربطها النساء الكبار في السن؛ حيث يكنّ قريبات الزوج أو الزوجة أو الخالات والعمات والجدات، وأيضاً أم أو جدة الطفل عند الطهور (الختان).
وكتبت أستاذة أماني بشير، مديرة متحف شيكان، عن عادات منطقة الأبيض وكردفان في ما يخص خاتم الجنيه، وهو عبارة عن قطعة معدنية مرسومٌ على الوجه الأول صورة رجل والوجه الآخر قيمة لعملة الجنيه. يُرتَدى الجنيه كقطعة حلي أصل صنعها من الذهب الخالص، لكن توجد الفضة ومعادن أخرى ترتديها النساء بصورة أساسية للزينة، وتتمثّل معتقدات لبس خاتم الجنيه في الحفظ من الأرواح الشريرة، ولذلك ترتديه العروس لمدة أربعين يوم بعد الزواج، ويعتقد في تلك الفترة أنها تكون في أبهى جمالها وأن الأرواح الشريرة تكثُر من حولها، وأيضاً ترتديه المرأة النَفَسَاء في فترة النفاس لذات المعتقد، أيضاً يرتديه العريس لمدة سبعة أيام من زواجه. من هذا المنطلق وُضع لبس خاتم الجنيه للحماية من الطاقات السلبية التي يمكن أن تضرّ الإنسان.
بينما الأحجبة والحريرة والجنيه كلها تمائم تعني الحماية وقطع التواصل مع العوالم الأخرى، إلا أن هناك ممارسات أخرى مهمتها التواصل مع الجن مباشرة، لطرح أسئلة أو غيرها، أشهرها "رمي الوَدِع" و"الزَّار/الظّار". رمي الودع هو نوع من أنواع قراءة الطالع، وتُرمى فيه قواقع أو صدف البحر يختار منها سبع صدفات متشابهة وبشكل معروف، تحرك معاً داخل الكف وهي مغلقة ثم تُلقى على الأرض، لتقوم قارئة الطالع بترجمة الرسالة الناتجة من وضعية الصدفات بحسب مدى قربها أو بعدها عن بعضها، أو إن كانت مقلوبة على ظهرها أو على وجهها، فما يستقر عليه "الودع" في كل مرة له قراءة خاصة ربما تكون مؤكِّدة للقراءة السابقة أو مختلفة عنها. و عادة يبحث السائل عن إجابات عن أشخاص آخرين ومعرفة أسباب مشاكلهم، وليس شرطاً أن تكون متعلقة بالمستقبل بل قد تكون متعلقة بالماضي أو المستقبل أو مزيج منهما. ويعتقد في مقدرة قارئة الودع من التواصل مع عالم آخر وترجمة تلك الرسائل عبر استخدام الصَدَف. وذلك بعكس حالة الزار/الظار أو ما يعرف بالريح الأحمر، حيث تكون الزائرة هي "الممسوسة" وفي حاجة لتقديم طقس للجن وتلبي الكثير من الرغبات لتصبح أفضل.
يُعتقد أن الزار يأتي من أصول إفريقية، انتقل من الحبشة إلى السودان ومصر وهو طقس استحضار أرواح الأسلاف والأسياد والشيوخ وتحقيق طلباتهم أو تقمص أرواحهم بغرض شفاء المرضى ممن تتلبسهم الجن. يرى الكثير من الناس أن الزار طقس علاجي، له الفضل في علاج كثير من الحالات النفسية الهستيرية، كما هو طريقة للنساء في التعامل مع ضغوط حياتهن. ويتم عبر تحقيق طلبات الأسياد، كتخصيص طعام وموسيقى وأغانٍ وعطور وبخور وملابس وغيرها لهذا الطقس، وتحضر الطقس الكثير من النساء اللاتي يلعبن أدواراً مختلفة؛ مثل شيخة الزار ولها مساعدات ونائبة تتولى مراقبة الحفل وضبطه، وحبوبة الكانون المسؤولة من الطعام وغيرهن. وهناك اختلاف في أنواع احتفالات الزار تسمى خيوط التي تقام مع اختلاف الطقوس، حسب نوع أو جنس الجن صاحب المس، كخيط الزرق أو السود، وتكون "المزيورات" في خيط الزرق من قبائل غرب إفريقيا، مثل الهوسا والفلاتة وجنوب السودان، ويكون طعامهم وموسيقاهم وملابسهم بحسب عاداتهم الأصلية. وبصورة مشابهة خيط الحبش وخيط الخواجات وغيرهم.
بعيداً عن عالم الجن والسحر يفضل المسلمون طلب الحاجة من الله سبحانه وتعالى من غير وسيط، والتبرك بالكرامة وهي الصدقة، أيضاً تُسمى البركة وهي ممارسة اجتماعية تؤديها المجتمعات بنية التقرب والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى ورفع البلاء أو تخفيف المصائب أو الشكر على نعمة أو فرح أو استجابة دعوة. كرامة البليلة عبارة عن وجبة يتم إعدادها وتوزيعها للمحتاجين والمساكين، وارتبطت أعراف معينة بكرامة البليلة أهمها أن يتم طبخ البليلة في إناء أو قِدر مفتوح حيث يعتقد أن بوخ البليلة (البُخار) يصعد إلى السماء ويأخذ معه كل الشر والأمراض والبلاء، إضافة إلى الأدعية التي يتم ترديدها أثناء الطبخ والتوزيع، ومن الشائع أن دعوة الكرامة لا تُرد أو تُرفض وكل إنسان يصادف البليلة يجب أن يَحظى بنصيبٍ منها ولو القليل للتبرُّك، لذا أُطلق عليها اسم البركة، اعتقاداً منهم في أهميتها.
تظل رغبة البشر في التواصل مع عوالم أخرى غير مرئية أمر قديم ومشترك بين أغلب شعوب العالم، لكلٍّ منهم دلالات وأغراض.
صورة الغلاف: حولية الشيخ حمد النيل في أم درمان © يوسف الشيخ

للشيوخ وأصحاب الكرامات مكانة مهمة في المجتمع السوداني، خصوصاً في المفاهيم الصوفية، كمثل الشيوخ من يتبعون الطرق الإسلامية للعلاج والرقية الشرعية، وهي تعتمد القرآن والسنة كمرجع للعلاج. السحر والشعوذة هي ممارسات محرمة في الدين الإسلامي، إلا أن هذا لا يعني أنه ليس هناك شيوخ يستخدمون السحر لأغراض أخرى، يطلق عليهم مصطلح الشيوخ الروحانيين. عادة ترتبط زيارة مثل هذه المزارات بطلبات درامية الطبع مثل جلب الحبيب، فك العوارض أو التحكم بقرار شخص، وقد تكون طلبات أكثر شراً مثل جلب الحظ السيء على شخص آخر، أو ما يسمى "بكتابة" شخص. على خلاف الشيوخ "الفقرا" وأصحاب الكرامات، يعتمد الشيوخ الروحانيين على قدرتهم على تواصل مع كائنات من عوالم أخرى، حيث يقوم الساحر بعقد اتفاق مع "خادم السحر" (جني/مارد/عفريت) على أن يُتِمَّ أمر بالنيابة عنه بعد تبادل منافع مع الساحر، وهو نوع من التواصل يعتبر محفوفاً بالمخاطر.
الجِنّ مفردها جِنِّيّ أو "جِنِّيَّة" وهو من الفعل جَنَّ (بفتح الجيم وتشديد النون وفتحها) بمعنى استَتر وغطَّى، وهم وبحسب مختلف الأديان والأساطير العربية القديمة مخلوقات تعيش في ذات العالم، ولكن لا يمكن رؤيتها عادة، وهي خارقة للطبيعة التي تدركها حواسنا، لها عقول وفهم، ويقال إنما سميت بذلك لأنها تتوارى عن الأنظار ولا تُرى. أجمع المسلمون على إقرار وجودها.
في السودان يعتقد البعض أن الاعتقاد بالجن والسحر هي عادة قديمة ترجع لعصور ما قبل نشأة الحضارة الكوشية. وفي التاريخ الحديث، يَعتقد سُكَّان جزيرة سواكن التاريخية الأثرية أن الجن يسكنها منذ عهد النبي سليمان، ومنه جاء الاسم "سواكن"، ونُسجت حولها الكثير من القصص والأساطير، فمن منّا لم يسمع عن قطط سواكن؟. وللجن وقبائل الجن الكثير من النصوص والدراسات الدينية، كما له ولعالم الغيب الكثير من الممارسات التراثية في الإرث السوداني، قد اندثر الكثير منها وما زال يمارسها البعض، وإن كان أغلب الممارسين لا يعلمون علاقتها بهذا النوع من المعتقدات.
كمثال للممارسات في الحماية من الجن ما يَتَمثَّل في صنع التمائم والأحجبة -جمع حجاب- وربط الخرز على الأطفال وحتى الماشية، هي معتقدات بأنها تحمي من الجن والأرواح الشريرة وكذلك مفهوم العالم السفلي. وما زالت تُمارس في أماكن مختلفة من السودان، مثلها مثل الحريرة، وهي عبارة عن خيوط من الحرير الخالص يُضفَر وتتخلَّله خُرزة زرقاء تُربط في معصم اليد في العادات والتقاليد السودانية المرتبطة بالزواج، الجرتق على الخصوص، والطهور. قد لا تكون الحريرة بنفس وضوح التمائم إلا أنها أيضاً ترتبط بمفهوم الحماية من الأرواح الشريرة والعين والحَسد والجن، وتقوم بالإشراف على صنعها وربطها النساء الكبار في السن؛ حيث يكنّ قريبات الزوج أو الزوجة أو الخالات والعمات والجدات، وأيضاً أم أو جدة الطفل عند الطهور (الختان).
وكتبت أستاذة أماني بشير، مديرة متحف شيكان، عن عادات منطقة الأبيض وكردفان في ما يخص خاتم الجنيه، وهو عبارة عن قطعة معدنية مرسومٌ على الوجه الأول صورة رجل والوجه الآخر قيمة لعملة الجنيه. يُرتَدى الجنيه كقطعة حلي أصل صنعها من الذهب الخالص، لكن توجد الفضة ومعادن أخرى ترتديها النساء بصورة أساسية للزينة، وتتمثّل معتقدات لبس خاتم الجنيه في الحفظ من الأرواح الشريرة، ولذلك ترتديه العروس لمدة أربعين يوم بعد الزواج، ويعتقد في تلك الفترة أنها تكون في أبهى جمالها وأن الأرواح الشريرة تكثُر من حولها، وأيضاً ترتديه المرأة النَفَسَاء في فترة النفاس لذات المعتقد، أيضاً يرتديه العريس لمدة سبعة أيام من زواجه. من هذا المنطلق وُضع لبس خاتم الجنيه للحماية من الطاقات السلبية التي يمكن أن تضرّ الإنسان.
بينما الأحجبة والحريرة والجنيه كلها تمائم تعني الحماية وقطع التواصل مع العوالم الأخرى، إلا أن هناك ممارسات أخرى مهمتها التواصل مع الجن مباشرة، لطرح أسئلة أو غيرها، أشهرها "رمي الوَدِع" و"الزَّار/الظّار". رمي الودع هو نوع من أنواع قراءة الطالع، وتُرمى فيه قواقع أو صدف البحر يختار منها سبع صدفات متشابهة وبشكل معروف، تحرك معاً داخل الكف وهي مغلقة ثم تُلقى على الأرض، لتقوم قارئة الطالع بترجمة الرسالة الناتجة من وضعية الصدفات بحسب مدى قربها أو بعدها عن بعضها، أو إن كانت مقلوبة على ظهرها أو على وجهها، فما يستقر عليه "الودع" في كل مرة له قراءة خاصة ربما تكون مؤكِّدة للقراءة السابقة أو مختلفة عنها. و عادة يبحث السائل عن إجابات عن أشخاص آخرين ومعرفة أسباب مشاكلهم، وليس شرطاً أن تكون متعلقة بالمستقبل بل قد تكون متعلقة بالماضي أو المستقبل أو مزيج منهما. ويعتقد في مقدرة قارئة الودع من التواصل مع عالم آخر وترجمة تلك الرسائل عبر استخدام الصَدَف. وذلك بعكس حالة الزار/الظار أو ما يعرف بالريح الأحمر، حيث تكون الزائرة هي "الممسوسة" وفي حاجة لتقديم طقس للجن وتلبي الكثير من الرغبات لتصبح أفضل.
يُعتقد أن الزار يأتي من أصول إفريقية، انتقل من الحبشة إلى السودان ومصر وهو طقس استحضار أرواح الأسلاف والأسياد والشيوخ وتحقيق طلباتهم أو تقمص أرواحهم بغرض شفاء المرضى ممن تتلبسهم الجن. يرى الكثير من الناس أن الزار طقس علاجي، له الفضل في علاج كثير من الحالات النفسية الهستيرية، كما هو طريقة للنساء في التعامل مع ضغوط حياتهن. ويتم عبر تحقيق طلبات الأسياد، كتخصيص طعام وموسيقى وأغانٍ وعطور وبخور وملابس وغيرها لهذا الطقس، وتحضر الطقس الكثير من النساء اللاتي يلعبن أدواراً مختلفة؛ مثل شيخة الزار ولها مساعدات ونائبة تتولى مراقبة الحفل وضبطه، وحبوبة الكانون المسؤولة من الطعام وغيرهن. وهناك اختلاف في أنواع احتفالات الزار تسمى خيوط التي تقام مع اختلاف الطقوس، حسب نوع أو جنس الجن صاحب المس، كخيط الزرق أو السود، وتكون "المزيورات" في خيط الزرق من قبائل غرب إفريقيا، مثل الهوسا والفلاتة وجنوب السودان، ويكون طعامهم وموسيقاهم وملابسهم بحسب عاداتهم الأصلية. وبصورة مشابهة خيط الحبش وخيط الخواجات وغيرهم.
بعيداً عن عالم الجن والسحر يفضل المسلمون طلب الحاجة من الله سبحانه وتعالى من غير وسيط، والتبرك بالكرامة وهي الصدقة، أيضاً تُسمى البركة وهي ممارسة اجتماعية تؤديها المجتمعات بنية التقرب والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى ورفع البلاء أو تخفيف المصائب أو الشكر على نعمة أو فرح أو استجابة دعوة. كرامة البليلة عبارة عن وجبة يتم إعدادها وتوزيعها للمحتاجين والمساكين، وارتبطت أعراف معينة بكرامة البليلة أهمها أن يتم طبخ البليلة في إناء أو قِدر مفتوح حيث يعتقد أن بوخ البليلة (البُخار) يصعد إلى السماء ويأخذ معه كل الشر والأمراض والبلاء، إضافة إلى الأدعية التي يتم ترديدها أثناء الطبخ والتوزيع، ومن الشائع أن دعوة الكرامة لا تُرد أو تُرفض وكل إنسان يصادف البليلة يجب أن يَحظى بنصيبٍ منها ولو القليل للتبرُّك، لذا أُطلق عليها اسم البركة، اعتقاداً منهم في أهميتها.
تظل رغبة البشر في التواصل مع عوالم أخرى غير مرئية أمر قديم ومشترك بين أغلب شعوب العالم، لكلٍّ منهم دلالات وأغراض.
صورة الغلاف: حولية الشيخ حمد النيل في أم درمان © يوسف الشيخ

بوق

بوق
بوق مركب يتكون من قرن ظَبْي مع جزء إضافي مصمم بالشمع. يأخذ الامتداد شكل أنبوب ضيق يتمدد في منتصف الطريق ليشكل وعاءًا بيضاويًا قبل تضييقه إلى أنبوب قصير. تم تزيين الوصلة بين القرن والشمع ببذور عين العفريت.
من تراث قبيلة النوبة
تاريخ الاستحواذ: ١٩٢٨
© أمناء المتحف البريطاني
بوق مركب يتكون من قرن ظَبْي مع جزء إضافي مصمم بالشمع. يأخذ الامتداد شكل أنبوب ضيق يتمدد في منتصف الطريق ليشكل وعاءًا بيضاويًا قبل تضييقه إلى أنبوب قصير. تم تزيين الوصلة بين القرن والشمع ببذور عين العفريت.
من تراث قبيلة النوبة
تاريخ الاستحواذ: ١٩٢٨
© أمناء المتحف البريطاني

بوق مركب يتكون من قرن ظَبْي مع جزء إضافي مصمم بالشمع. يأخذ الامتداد شكل أنبوب ضيق يتمدد في منتصف الطريق ليشكل وعاءًا بيضاويًا قبل تضييقه إلى أنبوب قصير. تم تزيين الوصلة بين القرن والشمع ببذور عين العفريت.
من تراث قبيلة النوبة
تاريخ الاستحواذ: ١٩٢٨
© أمناء المتحف البريطاني
لغات غير مكتوبة
نتواصل بطرق مختلفة واللغات المنطوقة هي أكثر ما نعرفه، ولكن إذا فكرت في الأمر، فإن إرسال رسالة ينطوي على أكثر من ذلك بكثير.

الدور الثقافي والحواري للطبق

الدور الثقافي والحواري للطبق
الطبق هو غطاء تقليديّ للطعام مَنسوج من جريد النخل والأعشاب الطويلة، وهو أداة مُتجذِّرة بعمق في الثقافة السودانية، خاصة في منطقة دارفور. تتم صناعة ونسج الطبق بشكل أساسي بواسطة النساء، وهو ليس مجرد أداة عملية للاستعمال المنزلي فحسب بل يُمثِّل رمزاً ثقافياً، وهو أيضاً وسيلة فريدة للتواصل. تتم صناعة هذا النوع الفريد من السِلال باستخدام موادٍّ محلية مثل أوراق النخيل والأعشاب، التي يتم صبغها ونَسجُها في أنماط مُعقَّدة وحيوية.
على الرغم من استخدامه لتغطية الطعام، فإن للطبق أهمية اجتماعية وثقافية أوسع، حيث كان يستخدم تاريخياً للتواصل مع القادة المحليين، بما في ذلك شخصيات مثل السلطان علي دينار من دارفور.
كان السلطان علي دينار، آخر حاكم مستقل لمملكة دارفور، يحكم في أوائل القرن العشرين حتى وفاته في عام ١٩١٦. كان علي دينار يحظى باحترام عميق من شعبه، وكحاكم كان يعتمد على الممارسات الثقافية والرمزية للمنطقة لفهم مشاعر واحتياجات رعاياه. كانت التصاميم المُعقَّدة المنسوجة في الطبق تُستخدم كوسيلة تواصل غير مباشرة وسَلِسَة. إذ كان الحرفيون يخلقون أنماطًا وألوانًا محدَّدة في الطبق لنقل رسائل مثل الاحترام، الولاء، أو الطلبات للسلطان. على سبيل المثال، قد ترمز أشكال هندسية معينة إلى الولاء لعلي دينار، بينما قد تشير ترتيبات الألوان الخاصة إلى طلبات للحماية أو المباركات لأمرٍٍ ما.
كانت هذه الطريقة في التواصل غير المباشر من خلال الحرف مهمّة بشكل خاص في مجتمع كان الوصول المباشر إلى القادة فيه محدودًا. بالنسبة لشعب دارفور، أصبح الطبق وسيلة تفاعل محترمة ولكن غير مباشرة مع السلطان. لعبت النساء، اللواتي كنَّ يقمن بنسج الطبق دورًا أساسيًا في الحفاظ على هذه التقاليد. من خلال تضمين الأنماط الرمزية في أعمالهنّ، ساهمت هؤلاء النساء في الحوارات المجتمعية والسياسية، حيث نقلن مشاعر المجتمع الجماعية دون الحاجة إلى التعبير اللفظيّ. بهذه الطريقة، لم يكن الطبق مجرد أداة منزلية، بل كان قطعة من التراث الثقافي التي تربط الناس بحاكمهم.
إن الحِرَفِيَّة المتضمنة في صنع الطبق تعكس خبرة النساء السودانيات في الحِرَف اليدوية، ودورهنَّ الأساسي في الحفاظ على المعرفة الثقافية ونقلها؛ إذ يتم نقل فن صناعة الطبق عبر الأجيال، مع إضافة كل فنانة وصانعة للطبق تفسيرها الخاص للأنماط. بعض الأشكال الهندسية والزخارف تُعتَبر مُعترفٌ بها عبر السودان، وقد تحمل معانٍ معينة. على سبيل المثال، يرمز نمط الشكل الماسي إلى الحماية، بينما تمثل التصاميم المتعرجة استمرارية الحياة. هذه الأنماط تعمل كلغة "منسوجة" تتحدث عن القيم الثقافية والاجتماعية والروحية للمجتمع.
على الرغم من أن الحداثة والتطور قد جلبتا تغييرات في الحياة اليومية في السودان، إلا أن الطبق لا يزال يحظى بتقدير، سواءً لاستخدامه الوظيفي في المنزل أو كرمز للتراث السوداني. فهو كقطعة من الفن والتقاليد، لا يزال يمثل براعة ومرونة الحرفيين السودانيين، الذين يمثل عملهم شهادة على التاريخ الاجتماعي وهوية مناطق السودان. ونرى إن ارتباطه بالسلطان علي دينار يضيف طبقة تاريخية هامة، مما يُبرز دور الطبق كأداة عملية وأداة تواصل في سياق المجتمع السوداني.
صورة الغلاف: سوق ابو جهل في مدينة الأبيض بمنطقة كردفان وهو سوق تقليدي قديم تباع فيه كل انواع الفواكه و البقوليات و الأعمال اليدوية بأشكالها المختلفة © عصام أحمد عبد الحفيظ
الطبق هو غطاء تقليديّ للطعام مَنسوج من جريد النخل والأعشاب الطويلة، وهو أداة مُتجذِّرة بعمق في الثقافة السودانية، خاصة في منطقة دارفور. تتم صناعة ونسج الطبق بشكل أساسي بواسطة النساء، وهو ليس مجرد أداة عملية للاستعمال المنزلي فحسب بل يُمثِّل رمزاً ثقافياً، وهو أيضاً وسيلة فريدة للتواصل. تتم صناعة هذا النوع الفريد من السِلال باستخدام موادٍّ محلية مثل أوراق النخيل والأعشاب، التي يتم صبغها ونَسجُها في أنماط مُعقَّدة وحيوية.
على الرغم من استخدامه لتغطية الطعام، فإن للطبق أهمية اجتماعية وثقافية أوسع، حيث كان يستخدم تاريخياً للتواصل مع القادة المحليين، بما في ذلك شخصيات مثل السلطان علي دينار من دارفور.
كان السلطان علي دينار، آخر حاكم مستقل لمملكة دارفور، يحكم في أوائل القرن العشرين حتى وفاته في عام ١٩١٦. كان علي دينار يحظى باحترام عميق من شعبه، وكحاكم كان يعتمد على الممارسات الثقافية والرمزية للمنطقة لفهم مشاعر واحتياجات رعاياه. كانت التصاميم المُعقَّدة المنسوجة في الطبق تُستخدم كوسيلة تواصل غير مباشرة وسَلِسَة. إذ كان الحرفيون يخلقون أنماطًا وألوانًا محدَّدة في الطبق لنقل رسائل مثل الاحترام، الولاء، أو الطلبات للسلطان. على سبيل المثال، قد ترمز أشكال هندسية معينة إلى الولاء لعلي دينار، بينما قد تشير ترتيبات الألوان الخاصة إلى طلبات للحماية أو المباركات لأمرٍٍ ما.
كانت هذه الطريقة في التواصل غير المباشر من خلال الحرف مهمّة بشكل خاص في مجتمع كان الوصول المباشر إلى القادة فيه محدودًا. بالنسبة لشعب دارفور، أصبح الطبق وسيلة تفاعل محترمة ولكن غير مباشرة مع السلطان. لعبت النساء، اللواتي كنَّ يقمن بنسج الطبق دورًا أساسيًا في الحفاظ على هذه التقاليد. من خلال تضمين الأنماط الرمزية في أعمالهنّ، ساهمت هؤلاء النساء في الحوارات المجتمعية والسياسية، حيث نقلن مشاعر المجتمع الجماعية دون الحاجة إلى التعبير اللفظيّ. بهذه الطريقة، لم يكن الطبق مجرد أداة منزلية، بل كان قطعة من التراث الثقافي التي تربط الناس بحاكمهم.
إن الحِرَفِيَّة المتضمنة في صنع الطبق تعكس خبرة النساء السودانيات في الحِرَف اليدوية، ودورهنَّ الأساسي في الحفاظ على المعرفة الثقافية ونقلها؛ إذ يتم نقل فن صناعة الطبق عبر الأجيال، مع إضافة كل فنانة وصانعة للطبق تفسيرها الخاص للأنماط. بعض الأشكال الهندسية والزخارف تُعتَبر مُعترفٌ بها عبر السودان، وقد تحمل معانٍ معينة. على سبيل المثال، يرمز نمط الشكل الماسي إلى الحماية، بينما تمثل التصاميم المتعرجة استمرارية الحياة. هذه الأنماط تعمل كلغة "منسوجة" تتحدث عن القيم الثقافية والاجتماعية والروحية للمجتمع.
على الرغم من أن الحداثة والتطور قد جلبتا تغييرات في الحياة اليومية في السودان، إلا أن الطبق لا يزال يحظى بتقدير، سواءً لاستخدامه الوظيفي في المنزل أو كرمز للتراث السوداني. فهو كقطعة من الفن والتقاليد، لا يزال يمثل براعة ومرونة الحرفيين السودانيين، الذين يمثل عملهم شهادة على التاريخ الاجتماعي وهوية مناطق السودان. ونرى إن ارتباطه بالسلطان علي دينار يضيف طبقة تاريخية هامة، مما يُبرز دور الطبق كأداة عملية وأداة تواصل في سياق المجتمع السوداني.
صورة الغلاف: سوق ابو جهل في مدينة الأبيض بمنطقة كردفان وهو سوق تقليدي قديم تباع فيه كل انواع الفواكه و البقوليات و الأعمال اليدوية بأشكالها المختلفة © عصام أحمد عبد الحفيظ

الطبق هو غطاء تقليديّ للطعام مَنسوج من جريد النخل والأعشاب الطويلة، وهو أداة مُتجذِّرة بعمق في الثقافة السودانية، خاصة في منطقة دارفور. تتم صناعة ونسج الطبق بشكل أساسي بواسطة النساء، وهو ليس مجرد أداة عملية للاستعمال المنزلي فحسب بل يُمثِّل رمزاً ثقافياً، وهو أيضاً وسيلة فريدة للتواصل. تتم صناعة هذا النوع الفريد من السِلال باستخدام موادٍّ محلية مثل أوراق النخيل والأعشاب، التي يتم صبغها ونَسجُها في أنماط مُعقَّدة وحيوية.
على الرغم من استخدامه لتغطية الطعام، فإن للطبق أهمية اجتماعية وثقافية أوسع، حيث كان يستخدم تاريخياً للتواصل مع القادة المحليين، بما في ذلك شخصيات مثل السلطان علي دينار من دارفور.
كان السلطان علي دينار، آخر حاكم مستقل لمملكة دارفور، يحكم في أوائل القرن العشرين حتى وفاته في عام ١٩١٦. كان علي دينار يحظى باحترام عميق من شعبه، وكحاكم كان يعتمد على الممارسات الثقافية والرمزية للمنطقة لفهم مشاعر واحتياجات رعاياه. كانت التصاميم المُعقَّدة المنسوجة في الطبق تُستخدم كوسيلة تواصل غير مباشرة وسَلِسَة. إذ كان الحرفيون يخلقون أنماطًا وألوانًا محدَّدة في الطبق لنقل رسائل مثل الاحترام، الولاء، أو الطلبات للسلطان. على سبيل المثال، قد ترمز أشكال هندسية معينة إلى الولاء لعلي دينار، بينما قد تشير ترتيبات الألوان الخاصة إلى طلبات للحماية أو المباركات لأمرٍٍ ما.
كانت هذه الطريقة في التواصل غير المباشر من خلال الحرف مهمّة بشكل خاص في مجتمع كان الوصول المباشر إلى القادة فيه محدودًا. بالنسبة لشعب دارفور، أصبح الطبق وسيلة تفاعل محترمة ولكن غير مباشرة مع السلطان. لعبت النساء، اللواتي كنَّ يقمن بنسج الطبق دورًا أساسيًا في الحفاظ على هذه التقاليد. من خلال تضمين الأنماط الرمزية في أعمالهنّ، ساهمت هؤلاء النساء في الحوارات المجتمعية والسياسية، حيث نقلن مشاعر المجتمع الجماعية دون الحاجة إلى التعبير اللفظيّ. بهذه الطريقة، لم يكن الطبق مجرد أداة منزلية، بل كان قطعة من التراث الثقافي التي تربط الناس بحاكمهم.
إن الحِرَفِيَّة المتضمنة في صنع الطبق تعكس خبرة النساء السودانيات في الحِرَف اليدوية، ودورهنَّ الأساسي في الحفاظ على المعرفة الثقافية ونقلها؛ إذ يتم نقل فن صناعة الطبق عبر الأجيال، مع إضافة كل فنانة وصانعة للطبق تفسيرها الخاص للأنماط. بعض الأشكال الهندسية والزخارف تُعتَبر مُعترفٌ بها عبر السودان، وقد تحمل معانٍ معينة. على سبيل المثال، يرمز نمط الشكل الماسي إلى الحماية، بينما تمثل التصاميم المتعرجة استمرارية الحياة. هذه الأنماط تعمل كلغة "منسوجة" تتحدث عن القيم الثقافية والاجتماعية والروحية للمجتمع.
على الرغم من أن الحداثة والتطور قد جلبتا تغييرات في الحياة اليومية في السودان، إلا أن الطبق لا يزال يحظى بتقدير، سواءً لاستخدامه الوظيفي في المنزل أو كرمز للتراث السوداني. فهو كقطعة من الفن والتقاليد، لا يزال يمثل براعة ومرونة الحرفيين السودانيين، الذين يمثل عملهم شهادة على التاريخ الاجتماعي وهوية مناطق السودان. ونرى إن ارتباطه بالسلطان علي دينار يضيف طبقة تاريخية هامة، مما يُبرز دور الطبق كأداة عملية وأداة تواصل في سياق المجتمع السوداني.
صورة الغلاف: سوق ابو جهل في مدينة الأبيض بمنطقة كردفان وهو سوق تقليدي قديم تباع فيه كل انواع الفواكه و البقوليات و الأعمال اليدوية بأشكالها المختلفة © عصام أحمد عبد الحفيظ

السينما السودانيَّة: رسائل وموضوعات

السينما السودانيَّة: رسائل وموضوعات
انطلقت بواكير السينما في السودان مضطلعة بوظيفة اتصاليَّة مباشرة مرتبطة بمكتب السكرتير الإداري لحكومة السودان. فقد استجلب عربة سينما متجولة من دولة كينيا عام ١٩٤٦م بغرض عرض الأفلام الدعائيَّة ذات الصلة المباشرة بالخطاب الحكومي أولاً، ثمَّ تطوَّرت وظيفتها قليلاً وأنتجت الأفلام التعليمية والإخبارية بعد ذلك، وقامت بعرض هذه الأفلام في المجتمعات المحلية مع الشرح والتعليق من المختصّين في الصحة والإرشاد الزراعي والتعليم، من خلال التجوال الميداني في قرى وحواضر المديريات السودانيَّة المختلفة دعماً لبرنامج تعليم الكبار وغيرها من البرامج الحكوميَّة.
آتت هذه التجربة ثمارها في خلق قاعدة اتصال مباشر تمَّ بعدها استجلاب عدد تسع عربات أخرى وإعدادها للعرض السينمائي المتجوِّل، وتمَّ بعد ذلك تعيين مشغِّلين ومعلقين لهذه العربات التي كانت تجوب ربوع البلاد على مدار السنة، مقدِّمة شرائط فيديو وثائقيَّة قصيرة سودانية. وفي العام ١٩٤٩م تمَّ إنشاء أول وحدة أفلام سينمائية سودانية ضمن مكتب الاستعلامات والعمل اضطلعت بمهمة إنتاج أفلام وثائقية وإعلامية لبعض أهم أحداث الحياة والمشروعات في السودان آنذاك.
إذا أعدنا النظر كرَّة في طبيعة الأفلام التي أُنتجت مع بداية الخمسينيات ضمن وظيفة اتصاليَّة تبحث عن طبيعة الرسائل الجادة غير الحكومية وغير المعدَّة لأغراض مباشرة؛ مثل وظائف الإرشاد والتعليم وغيرها، سنجد أنها ليس من بينها سوى فيلمين أو ثلاثة تنطوي على محاولات جادة بَعَثَت برسائل مهمة وتناولت مشاكل اجتماعيَّة أو سياسيَّة، حيث جرى التركيز على السينما التسجيلية دون الروائية أوَّلاً، وبَرَزت من بين تلك المحاولات التسجيلية الجادة في السينما السودانية بعض الأفلام القليلة كفيلم (الطفولة المشرّدة) الذي أخرجه "كمال محمد إبراهيم"، وتناول مشكلة الأطفال المشردين الذين ينزحون من الريف إلى المدينة، ويجدون أنفسهم غير قادرين على الانسجام مع إيقاع حياتها السريع ومتطلبات العمل المختلفة، فيقعون ضحية انحرافات السرقة وغيرها. أُنتِج هذا الفيلم بعد الاستقلال بين عامي ١٩٥٦م-١٩٥٧م، وأخرج بعده في ذات الاتجاه فيلم (المنكوب)، الذي صوَّره المخرج والمصوِّر السينمائي السوداني وقتها جاد الله جبارة مخرج فيلم (تور الجر في العيادة) بعدها.
خلال تلك الفترة، كانت أكثر الأفلام التسجيلية مركِّزة على النشاط الحكومي الرسمي وإنجازاته، دون أن تحمل أية معالجة سينمائية فنية متميزة تُمكِّنها من صناعة وتطوير رسائل فنيَّة/ اجتماعيَّة غير ذات طابع سياسي مباشر، لكنها في ذات الوقت تضمَّنت رسائل أخرى متصلة بالتعريف بمناطق السودان محاولة إبراز وجهه السياحي وموثِّقة لبعض أهم الأحداث السياسيَّة فجاءت أفلام من مثل (أحداث الجلاء واستقلال السودان)، (تهجير أهالي وادي حلفا)، (زيارة جبل مرَّة)، (مشروع الجزيرة)، (زيارة الرئيس عبود إلى الصين)، (رحلة الباخرة من كوستي إلى جوبا)، و(مؤتمر الملوك والرؤساء العرب) (اللاءات الثلاث).
أنتجت هذه الوحدة ما يقدَّر بأربعين ألف فيلم حسب شهادات بعض العاملين بها، وكانت تصدر فيلماً إخبارياً أُسبوعياً يوزع على دور السينما التجارية ليُعرض في الاستراحة.
في مكان آخر خارج مدينة الخرطوم، كان هنالك مصوِّر فوتوغرافي بارع نشأ في كنف مدينة عماليَّة تضجُّ بأصوات القطارات على شاطئ نهر عطبرة، درس النجارة بمدرسة الصنائع بأمدرمان، والتحق بورش سكك حديد السودان عام ١٩٤٩م، وسرعان ما ثار على نفسه واتجه نحو فن التصوير الفوتوغرافي. اقتنى كاميرا ماركة "آلمونيت" مبتاعاً إياها من مصوِّر إغريقي، وراح يلتقط بها بعض الصور لمعالم المدينة القديمة. أنشأ أوَّل أستديو تصوير فوتوغرافي بداية الخمسينيات، وبدأ في استجلاب الورق والأفلام لإقامة معمله الخاص، راسل شركة "كوداك" في لندن وزار فرعها في مصر عام ١٩٥٧م، وأقام معارض للتصوير وأسهم في صناعة أوَّل فيلم روائي سوداني طويل هو فيلم "آمال وأحلام" ١٩٧٠م من إخراج إبراهيم ملاسي، مُدشِّناً بذلك عهداً جديداً للسينما السودانيَّة التي ستشهد ميلاد جيل ثان برع في إخراج الأفلام السودانيَّة ذات الرسائل المهمة بعد أن تلقى دراسته في معاهد وكليَّات السينما المختلفة حول العالم؛ ابتداءً من ألمانيا، قبرص، مصر، الولايات المتحدة الأمريكيَّة وموسكو، وتنوعت أفلام هذا الجيل ما بين روائية وتسجيلية، وتتناول مواضيع ورسائل أقرب إلى حياة المواطن السوداني وهمومه ومشاكله اليوميَّة والتاريخيَّة، وبرز اهتمام آخر بإبراز التنوع الثقافي للسودان وتوثيق بعض العادات الثقافيَّة النادرة والقصص التراثية مثلما فعل "حسين شريف" ذلك في فيلم (جدع النار) ١٩٧٣م، أو فيلم الشاعر والمخرج علي عبد القوم عن طقس نسائي شهير هو طقس (الظار) ١٩٨٨م، أو فيلم (تاجوج) لجاد الله جبارة ١٩٨٠م.
جاء موضُوعُ فيلم جدع النَّار معرِّفاً بقبائل منطقة جنوب النيل الأزرق السُّودانيَّة. عَبَدت تلك القبائل النَّار والشَّمس في أزمان بعيدة. ولها طقوس متميزة أوان احتفالات الحصاد تتضمَّن الرَّقص والمهرجانات وطقوس أخرى عديدة تُمارس ضمن عادة أكبر تعرف بعادة "جدع النار" التي لا زالت تمارس عند كل خريف حتى يوم الناس هذا. شارك حسين شريف أيضاً مع عطيَّات الأبنودي في إخراج فيلم (يوميَّات في المنفى) الذي أنتجته في العام ١٩٩٣م المنظمة السُّودانيَّة لحقوق الإنسان، مُوثِّقةً لحكايات نزوح أفرادٍ ومجموعاتٍ من النَّاسِ يقدِّمُون شهاداتهم التاريخيَّة الخاصَّة بالفترة التي تَلت حدوثَ انقلاب الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة في السُّودان عام ١٩٨٩م. حيث شهدت تلك الفترة هجرة كثيفة من السُّودانيِّين والسُّودانيَّات إلى مُختلفِ أرجاء العالم، فالسُّودان غَدا آناءِها مكانَاً طاردَاً لأهلِهِ وشَعْبِهِ كما هو الآن حاله أثناء حرب الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣. وقد هاجرت الغالبيَّة العظمى من السُّودانيين والسُّودانيَّات حينذاك إلى مصر التي صُوِّرَ فيها ذاكَ الفيلم وبلغ عدد النازحين هناك، في وقتِ تصوير الفيلم المعني، ما يقارب الثلاثة ملايين وقتها.
تطوَّرت الرسائل الفنيَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة مع الجيل اللاحق لهذا الجيل بشكل لافت، حيث اتخذت أبعاداً فلسفيَّة وجماليَّة متطوِّرة كما ظهر هذا الأمر في تجارب إبراهيم شداد، سليمان محمد إبراهيم والطيِّب مهدي. حيث عالجت أفلام إبراهيم شداد وعلى رأسها فيلم (إنسان) ١٩٩٤م قضايا وجوديَّة وفلسفيَّة دائماً، واتجهت مع هذا الفيلم لمناقشة أزمة قوانين سبتمبر ١٩٨٣م التي شرعها نظام الديكتاتور جعفر نميري في قالب قصصي بسيط وثَّق لجرائم وانتهاكات هذه القوانين، وأثرها على حياة بسطاء الناس ممن لم ينجوا من قطع الأيدي وبعض القوانين الجائرة المرتبطة بهذه التشريعات. وعالج الطيِّب مهدي في فيلم (الضريح) ١٩٧٧م ذات المشكلة من منظور مختلف، حيث نبَّه باكراً -وفي شبه نبوءة استباقيَّة- ما آلت إليه الأوضاع مع تجربة الإسلام السياسي في السودان ومشكلة استغلال الدين لخداع المجتمع. وقام "عبادي محجوب" و"جاد الله جبارة" بإخراج فيلم (بركة الشيخ) وهو فيلم روائي طويل، يحكي قصة دجال تمكن من السيطرة على عقول البسطاء في إحدى القرى السودانية من خلال ادعائه لبعض الكرامات. موضحاً الكيفيَّة التي يمكن بها استغلال الدين وسط بيئة مفقرة من العلم والمعرفة وما يمكن أن يقود إليه ذلك من مصائب كبيرة. وناقش فيلم (المحطة) ١٩٨٩م مشكلة طريق التطوُّر الرأسمالي والتنمية التي لا تضع بالاً للإنسان في مناطق الإنتاج والوفرة الاقتصاديَّة من خلال مشاهد بصريَّة غاية في التناقض. حيث عشرات المئات من الشاحنات الممتلئة بالسلع النقديَّة للصادر في مدينة زراعيَّة مثل مدينة القضارف، وأسرة فقيرة تقف على قراعة الطريق وهي تحمل مريضاً مسجياً على ظهر حمار ينتظر وسيلة نقل توصله إلى أقرب مشفى داخل المدينة!
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي
انطلقت بواكير السينما في السودان مضطلعة بوظيفة اتصاليَّة مباشرة مرتبطة بمكتب السكرتير الإداري لحكومة السودان. فقد استجلب عربة سينما متجولة من دولة كينيا عام ١٩٤٦م بغرض عرض الأفلام الدعائيَّة ذات الصلة المباشرة بالخطاب الحكومي أولاً، ثمَّ تطوَّرت وظيفتها قليلاً وأنتجت الأفلام التعليمية والإخبارية بعد ذلك، وقامت بعرض هذه الأفلام في المجتمعات المحلية مع الشرح والتعليق من المختصّين في الصحة والإرشاد الزراعي والتعليم، من خلال التجوال الميداني في قرى وحواضر المديريات السودانيَّة المختلفة دعماً لبرنامج تعليم الكبار وغيرها من البرامج الحكوميَّة.
آتت هذه التجربة ثمارها في خلق قاعدة اتصال مباشر تمَّ بعدها استجلاب عدد تسع عربات أخرى وإعدادها للعرض السينمائي المتجوِّل، وتمَّ بعد ذلك تعيين مشغِّلين ومعلقين لهذه العربات التي كانت تجوب ربوع البلاد على مدار السنة، مقدِّمة شرائط فيديو وثائقيَّة قصيرة سودانية. وفي العام ١٩٤٩م تمَّ إنشاء أول وحدة أفلام سينمائية سودانية ضمن مكتب الاستعلامات والعمل اضطلعت بمهمة إنتاج أفلام وثائقية وإعلامية لبعض أهم أحداث الحياة والمشروعات في السودان آنذاك.
إذا أعدنا النظر كرَّة في طبيعة الأفلام التي أُنتجت مع بداية الخمسينيات ضمن وظيفة اتصاليَّة تبحث عن طبيعة الرسائل الجادة غير الحكومية وغير المعدَّة لأغراض مباشرة؛ مثل وظائف الإرشاد والتعليم وغيرها، سنجد أنها ليس من بينها سوى فيلمين أو ثلاثة تنطوي على محاولات جادة بَعَثَت برسائل مهمة وتناولت مشاكل اجتماعيَّة أو سياسيَّة، حيث جرى التركيز على السينما التسجيلية دون الروائية أوَّلاً، وبَرَزت من بين تلك المحاولات التسجيلية الجادة في السينما السودانية بعض الأفلام القليلة كفيلم (الطفولة المشرّدة) الذي أخرجه "كمال محمد إبراهيم"، وتناول مشكلة الأطفال المشردين الذين ينزحون من الريف إلى المدينة، ويجدون أنفسهم غير قادرين على الانسجام مع إيقاع حياتها السريع ومتطلبات العمل المختلفة، فيقعون ضحية انحرافات السرقة وغيرها. أُنتِج هذا الفيلم بعد الاستقلال بين عامي ١٩٥٦م-١٩٥٧م، وأخرج بعده في ذات الاتجاه فيلم (المنكوب)، الذي صوَّره المخرج والمصوِّر السينمائي السوداني وقتها جاد الله جبارة مخرج فيلم (تور الجر في العيادة) بعدها.
خلال تلك الفترة، كانت أكثر الأفلام التسجيلية مركِّزة على النشاط الحكومي الرسمي وإنجازاته، دون أن تحمل أية معالجة سينمائية فنية متميزة تُمكِّنها من صناعة وتطوير رسائل فنيَّة/ اجتماعيَّة غير ذات طابع سياسي مباشر، لكنها في ذات الوقت تضمَّنت رسائل أخرى متصلة بالتعريف بمناطق السودان محاولة إبراز وجهه السياحي وموثِّقة لبعض أهم الأحداث السياسيَّة فجاءت أفلام من مثل (أحداث الجلاء واستقلال السودان)، (تهجير أهالي وادي حلفا)، (زيارة جبل مرَّة)، (مشروع الجزيرة)، (زيارة الرئيس عبود إلى الصين)، (رحلة الباخرة من كوستي إلى جوبا)، و(مؤتمر الملوك والرؤساء العرب) (اللاءات الثلاث).
أنتجت هذه الوحدة ما يقدَّر بأربعين ألف فيلم حسب شهادات بعض العاملين بها، وكانت تصدر فيلماً إخبارياً أُسبوعياً يوزع على دور السينما التجارية ليُعرض في الاستراحة.
في مكان آخر خارج مدينة الخرطوم، كان هنالك مصوِّر فوتوغرافي بارع نشأ في كنف مدينة عماليَّة تضجُّ بأصوات القطارات على شاطئ نهر عطبرة، درس النجارة بمدرسة الصنائع بأمدرمان، والتحق بورش سكك حديد السودان عام ١٩٤٩م، وسرعان ما ثار على نفسه واتجه نحو فن التصوير الفوتوغرافي. اقتنى كاميرا ماركة "آلمونيت" مبتاعاً إياها من مصوِّر إغريقي، وراح يلتقط بها بعض الصور لمعالم المدينة القديمة. أنشأ أوَّل أستديو تصوير فوتوغرافي بداية الخمسينيات، وبدأ في استجلاب الورق والأفلام لإقامة معمله الخاص، راسل شركة "كوداك" في لندن وزار فرعها في مصر عام ١٩٥٧م، وأقام معارض للتصوير وأسهم في صناعة أوَّل فيلم روائي سوداني طويل هو فيلم "آمال وأحلام" ١٩٧٠م من إخراج إبراهيم ملاسي، مُدشِّناً بذلك عهداً جديداً للسينما السودانيَّة التي ستشهد ميلاد جيل ثان برع في إخراج الأفلام السودانيَّة ذات الرسائل المهمة بعد أن تلقى دراسته في معاهد وكليَّات السينما المختلفة حول العالم؛ ابتداءً من ألمانيا، قبرص، مصر، الولايات المتحدة الأمريكيَّة وموسكو، وتنوعت أفلام هذا الجيل ما بين روائية وتسجيلية، وتتناول مواضيع ورسائل أقرب إلى حياة المواطن السوداني وهمومه ومشاكله اليوميَّة والتاريخيَّة، وبرز اهتمام آخر بإبراز التنوع الثقافي للسودان وتوثيق بعض العادات الثقافيَّة النادرة والقصص التراثية مثلما فعل "حسين شريف" ذلك في فيلم (جدع النار) ١٩٧٣م، أو فيلم الشاعر والمخرج علي عبد القوم عن طقس نسائي شهير هو طقس (الظار) ١٩٨٨م، أو فيلم (تاجوج) لجاد الله جبارة ١٩٨٠م.
جاء موضُوعُ فيلم جدع النَّار معرِّفاً بقبائل منطقة جنوب النيل الأزرق السُّودانيَّة. عَبَدت تلك القبائل النَّار والشَّمس في أزمان بعيدة. ولها طقوس متميزة أوان احتفالات الحصاد تتضمَّن الرَّقص والمهرجانات وطقوس أخرى عديدة تُمارس ضمن عادة أكبر تعرف بعادة "جدع النار" التي لا زالت تمارس عند كل خريف حتى يوم الناس هذا. شارك حسين شريف أيضاً مع عطيَّات الأبنودي في إخراج فيلم (يوميَّات في المنفى) الذي أنتجته في العام ١٩٩٣م المنظمة السُّودانيَّة لحقوق الإنسان، مُوثِّقةً لحكايات نزوح أفرادٍ ومجموعاتٍ من النَّاسِ يقدِّمُون شهاداتهم التاريخيَّة الخاصَّة بالفترة التي تَلت حدوثَ انقلاب الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة في السُّودان عام ١٩٨٩م. حيث شهدت تلك الفترة هجرة كثيفة من السُّودانيِّين والسُّودانيَّات إلى مُختلفِ أرجاء العالم، فالسُّودان غَدا آناءِها مكانَاً طاردَاً لأهلِهِ وشَعْبِهِ كما هو الآن حاله أثناء حرب الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣. وقد هاجرت الغالبيَّة العظمى من السُّودانيين والسُّودانيَّات حينذاك إلى مصر التي صُوِّرَ فيها ذاكَ الفيلم وبلغ عدد النازحين هناك، في وقتِ تصوير الفيلم المعني، ما يقارب الثلاثة ملايين وقتها.
تطوَّرت الرسائل الفنيَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة مع الجيل اللاحق لهذا الجيل بشكل لافت، حيث اتخذت أبعاداً فلسفيَّة وجماليَّة متطوِّرة كما ظهر هذا الأمر في تجارب إبراهيم شداد، سليمان محمد إبراهيم والطيِّب مهدي. حيث عالجت أفلام إبراهيم شداد وعلى رأسها فيلم (إنسان) ١٩٩٤م قضايا وجوديَّة وفلسفيَّة دائماً، واتجهت مع هذا الفيلم لمناقشة أزمة قوانين سبتمبر ١٩٨٣م التي شرعها نظام الديكتاتور جعفر نميري في قالب قصصي بسيط وثَّق لجرائم وانتهاكات هذه القوانين، وأثرها على حياة بسطاء الناس ممن لم ينجوا من قطع الأيدي وبعض القوانين الجائرة المرتبطة بهذه التشريعات. وعالج الطيِّب مهدي في فيلم (الضريح) ١٩٧٧م ذات المشكلة من منظور مختلف، حيث نبَّه باكراً -وفي شبه نبوءة استباقيَّة- ما آلت إليه الأوضاع مع تجربة الإسلام السياسي في السودان ومشكلة استغلال الدين لخداع المجتمع. وقام "عبادي محجوب" و"جاد الله جبارة" بإخراج فيلم (بركة الشيخ) وهو فيلم روائي طويل، يحكي قصة دجال تمكن من السيطرة على عقول البسطاء في إحدى القرى السودانية من خلال ادعائه لبعض الكرامات. موضحاً الكيفيَّة التي يمكن بها استغلال الدين وسط بيئة مفقرة من العلم والمعرفة وما يمكن أن يقود إليه ذلك من مصائب كبيرة. وناقش فيلم (المحطة) ١٩٨٩م مشكلة طريق التطوُّر الرأسمالي والتنمية التي لا تضع بالاً للإنسان في مناطق الإنتاج والوفرة الاقتصاديَّة من خلال مشاهد بصريَّة غاية في التناقض. حيث عشرات المئات من الشاحنات الممتلئة بالسلع النقديَّة للصادر في مدينة زراعيَّة مثل مدينة القضارف، وأسرة فقيرة تقف على قراعة الطريق وهي تحمل مريضاً مسجياً على ظهر حمار ينتظر وسيلة نقل توصله إلى أقرب مشفى داخل المدينة!
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

انطلقت بواكير السينما في السودان مضطلعة بوظيفة اتصاليَّة مباشرة مرتبطة بمكتب السكرتير الإداري لحكومة السودان. فقد استجلب عربة سينما متجولة من دولة كينيا عام ١٩٤٦م بغرض عرض الأفلام الدعائيَّة ذات الصلة المباشرة بالخطاب الحكومي أولاً، ثمَّ تطوَّرت وظيفتها قليلاً وأنتجت الأفلام التعليمية والإخبارية بعد ذلك، وقامت بعرض هذه الأفلام في المجتمعات المحلية مع الشرح والتعليق من المختصّين في الصحة والإرشاد الزراعي والتعليم، من خلال التجوال الميداني في قرى وحواضر المديريات السودانيَّة المختلفة دعماً لبرنامج تعليم الكبار وغيرها من البرامج الحكوميَّة.
آتت هذه التجربة ثمارها في خلق قاعدة اتصال مباشر تمَّ بعدها استجلاب عدد تسع عربات أخرى وإعدادها للعرض السينمائي المتجوِّل، وتمَّ بعد ذلك تعيين مشغِّلين ومعلقين لهذه العربات التي كانت تجوب ربوع البلاد على مدار السنة، مقدِّمة شرائط فيديو وثائقيَّة قصيرة سودانية. وفي العام ١٩٤٩م تمَّ إنشاء أول وحدة أفلام سينمائية سودانية ضمن مكتب الاستعلامات والعمل اضطلعت بمهمة إنتاج أفلام وثائقية وإعلامية لبعض أهم أحداث الحياة والمشروعات في السودان آنذاك.
إذا أعدنا النظر كرَّة في طبيعة الأفلام التي أُنتجت مع بداية الخمسينيات ضمن وظيفة اتصاليَّة تبحث عن طبيعة الرسائل الجادة غير الحكومية وغير المعدَّة لأغراض مباشرة؛ مثل وظائف الإرشاد والتعليم وغيرها، سنجد أنها ليس من بينها سوى فيلمين أو ثلاثة تنطوي على محاولات جادة بَعَثَت برسائل مهمة وتناولت مشاكل اجتماعيَّة أو سياسيَّة، حيث جرى التركيز على السينما التسجيلية دون الروائية أوَّلاً، وبَرَزت من بين تلك المحاولات التسجيلية الجادة في السينما السودانية بعض الأفلام القليلة كفيلم (الطفولة المشرّدة) الذي أخرجه "كمال محمد إبراهيم"، وتناول مشكلة الأطفال المشردين الذين ينزحون من الريف إلى المدينة، ويجدون أنفسهم غير قادرين على الانسجام مع إيقاع حياتها السريع ومتطلبات العمل المختلفة، فيقعون ضحية انحرافات السرقة وغيرها. أُنتِج هذا الفيلم بعد الاستقلال بين عامي ١٩٥٦م-١٩٥٧م، وأخرج بعده في ذات الاتجاه فيلم (المنكوب)، الذي صوَّره المخرج والمصوِّر السينمائي السوداني وقتها جاد الله جبارة مخرج فيلم (تور الجر في العيادة) بعدها.
خلال تلك الفترة، كانت أكثر الأفلام التسجيلية مركِّزة على النشاط الحكومي الرسمي وإنجازاته، دون أن تحمل أية معالجة سينمائية فنية متميزة تُمكِّنها من صناعة وتطوير رسائل فنيَّة/ اجتماعيَّة غير ذات طابع سياسي مباشر، لكنها في ذات الوقت تضمَّنت رسائل أخرى متصلة بالتعريف بمناطق السودان محاولة إبراز وجهه السياحي وموثِّقة لبعض أهم الأحداث السياسيَّة فجاءت أفلام من مثل (أحداث الجلاء واستقلال السودان)، (تهجير أهالي وادي حلفا)، (زيارة جبل مرَّة)، (مشروع الجزيرة)، (زيارة الرئيس عبود إلى الصين)، (رحلة الباخرة من كوستي إلى جوبا)، و(مؤتمر الملوك والرؤساء العرب) (اللاءات الثلاث).
أنتجت هذه الوحدة ما يقدَّر بأربعين ألف فيلم حسب شهادات بعض العاملين بها، وكانت تصدر فيلماً إخبارياً أُسبوعياً يوزع على دور السينما التجارية ليُعرض في الاستراحة.
في مكان آخر خارج مدينة الخرطوم، كان هنالك مصوِّر فوتوغرافي بارع نشأ في كنف مدينة عماليَّة تضجُّ بأصوات القطارات على شاطئ نهر عطبرة، درس النجارة بمدرسة الصنائع بأمدرمان، والتحق بورش سكك حديد السودان عام ١٩٤٩م، وسرعان ما ثار على نفسه واتجه نحو فن التصوير الفوتوغرافي. اقتنى كاميرا ماركة "آلمونيت" مبتاعاً إياها من مصوِّر إغريقي، وراح يلتقط بها بعض الصور لمعالم المدينة القديمة. أنشأ أوَّل أستديو تصوير فوتوغرافي بداية الخمسينيات، وبدأ في استجلاب الورق والأفلام لإقامة معمله الخاص، راسل شركة "كوداك" في لندن وزار فرعها في مصر عام ١٩٥٧م، وأقام معارض للتصوير وأسهم في صناعة أوَّل فيلم روائي سوداني طويل هو فيلم "آمال وأحلام" ١٩٧٠م من إخراج إبراهيم ملاسي، مُدشِّناً بذلك عهداً جديداً للسينما السودانيَّة التي ستشهد ميلاد جيل ثان برع في إخراج الأفلام السودانيَّة ذات الرسائل المهمة بعد أن تلقى دراسته في معاهد وكليَّات السينما المختلفة حول العالم؛ ابتداءً من ألمانيا، قبرص، مصر، الولايات المتحدة الأمريكيَّة وموسكو، وتنوعت أفلام هذا الجيل ما بين روائية وتسجيلية، وتتناول مواضيع ورسائل أقرب إلى حياة المواطن السوداني وهمومه ومشاكله اليوميَّة والتاريخيَّة، وبرز اهتمام آخر بإبراز التنوع الثقافي للسودان وتوثيق بعض العادات الثقافيَّة النادرة والقصص التراثية مثلما فعل "حسين شريف" ذلك في فيلم (جدع النار) ١٩٧٣م، أو فيلم الشاعر والمخرج علي عبد القوم عن طقس نسائي شهير هو طقس (الظار) ١٩٨٨م، أو فيلم (تاجوج) لجاد الله جبارة ١٩٨٠م.
جاء موضُوعُ فيلم جدع النَّار معرِّفاً بقبائل منطقة جنوب النيل الأزرق السُّودانيَّة. عَبَدت تلك القبائل النَّار والشَّمس في أزمان بعيدة. ولها طقوس متميزة أوان احتفالات الحصاد تتضمَّن الرَّقص والمهرجانات وطقوس أخرى عديدة تُمارس ضمن عادة أكبر تعرف بعادة "جدع النار" التي لا زالت تمارس عند كل خريف حتى يوم الناس هذا. شارك حسين شريف أيضاً مع عطيَّات الأبنودي في إخراج فيلم (يوميَّات في المنفى) الذي أنتجته في العام ١٩٩٣م المنظمة السُّودانيَّة لحقوق الإنسان، مُوثِّقةً لحكايات نزوح أفرادٍ ومجموعاتٍ من النَّاسِ يقدِّمُون شهاداتهم التاريخيَّة الخاصَّة بالفترة التي تَلت حدوثَ انقلاب الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة في السُّودان عام ١٩٨٩م. حيث شهدت تلك الفترة هجرة كثيفة من السُّودانيِّين والسُّودانيَّات إلى مُختلفِ أرجاء العالم، فالسُّودان غَدا آناءِها مكانَاً طاردَاً لأهلِهِ وشَعْبِهِ كما هو الآن حاله أثناء حرب الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣. وقد هاجرت الغالبيَّة العظمى من السُّودانيين والسُّودانيَّات حينذاك إلى مصر التي صُوِّرَ فيها ذاكَ الفيلم وبلغ عدد النازحين هناك، في وقتِ تصوير الفيلم المعني، ما يقارب الثلاثة ملايين وقتها.
تطوَّرت الرسائل الفنيَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة مع الجيل اللاحق لهذا الجيل بشكل لافت، حيث اتخذت أبعاداً فلسفيَّة وجماليَّة متطوِّرة كما ظهر هذا الأمر في تجارب إبراهيم شداد، سليمان محمد إبراهيم والطيِّب مهدي. حيث عالجت أفلام إبراهيم شداد وعلى رأسها فيلم (إنسان) ١٩٩٤م قضايا وجوديَّة وفلسفيَّة دائماً، واتجهت مع هذا الفيلم لمناقشة أزمة قوانين سبتمبر ١٩٨٣م التي شرعها نظام الديكتاتور جعفر نميري في قالب قصصي بسيط وثَّق لجرائم وانتهاكات هذه القوانين، وأثرها على حياة بسطاء الناس ممن لم ينجوا من قطع الأيدي وبعض القوانين الجائرة المرتبطة بهذه التشريعات. وعالج الطيِّب مهدي في فيلم (الضريح) ١٩٧٧م ذات المشكلة من منظور مختلف، حيث نبَّه باكراً -وفي شبه نبوءة استباقيَّة- ما آلت إليه الأوضاع مع تجربة الإسلام السياسي في السودان ومشكلة استغلال الدين لخداع المجتمع. وقام "عبادي محجوب" و"جاد الله جبارة" بإخراج فيلم (بركة الشيخ) وهو فيلم روائي طويل، يحكي قصة دجال تمكن من السيطرة على عقول البسطاء في إحدى القرى السودانية من خلال ادعائه لبعض الكرامات. موضحاً الكيفيَّة التي يمكن بها استغلال الدين وسط بيئة مفقرة من العلم والمعرفة وما يمكن أن يقود إليه ذلك من مصائب كبيرة. وناقش فيلم (المحطة) ١٩٨٩م مشكلة طريق التطوُّر الرأسمالي والتنمية التي لا تضع بالاً للإنسان في مناطق الإنتاج والوفرة الاقتصاديَّة من خلال مشاهد بصريَّة غاية في التناقض. حيث عشرات المئات من الشاحنات الممتلئة بالسلع النقديَّة للصادر في مدينة زراعيَّة مثل مدينة القضارف، وأسرة فقيرة تقف على قراعة الطريق وهي تحمل مريضاً مسجياً على ظهر حمار ينتظر وسيلة نقل توصله إلى أقرب مشفى داخل المدينة!
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

الفنون حياة

الفنون حياة
ثمة فكرة رائجة عن ما تَلعبه الفنون من أدوار في المجتمع، مفادها أنها تلعب أدوراً في التنوير والتعليم والترفيه، أي بكلّ ما يتّصل بالتنمية المجتمعية في مفهومها الأشمل، وبالطبع هذا افتراضٌ لا غبار عليه، لذلك يسعى الفاعلون في التغيير الاجتماعي إلى إدماجها في عمليات التغيير. لكن الناظر إلى أدوار الفنون بتمعّن سيجد أنها لا تقف عند هذه الأدوار، فالفنون وبما أنها "مجاورة" للحياة اليومية، وليست انعكاساً ميكانيكيّاً لها كما يذهب كثيرون؛ تجد نفسها بسبب مجاورتها هذه، مُطالبة بتحقيق اختلافٍ ما عن ما تُنتجه الحياة اليومية من جماليات ومجازات، فالحياة اليومية، كما نرى، لها اشتغال مجازيّ في اللغة في بعدها التواصلي؛ اشتغال في استطاعته أن يُحمِّل المفردات دلالات تتعدَّى معناها المعجمي، وأن يصيغ مقولات دالَّة على رافعة من المجاز تُعبِّر عن أكثر الأفكار والمشاعر تعقيداً، كما في ما يُعرف بالأمثال الشعبية، وتسطيع كذلك أن تُعيد تشكيل المادة الخام كالجسد، والحجر، والخشب، والطين، والسعف..إلخ، مما يمنحها انحرافاً معياريَّاً يضعها في حيِّز المجاورة مع الفنون.
إذن أين يكمن الاختلاف مع هذا التجاور؟ أي ما هي اللحظة التي تمظهر فيها هذا الاختلاف؟ الإجابة: إنها اللحظة التي ظهرت فيها الفئة التي سُمِّيت بالفنانين، وبدأ فيها استقلال الفنون عن الظواهر الكبرى؛ الدين والفلسفة، والأهم إعادة إنتاجها لجماليات الحياة اليومية ومجازاتها والشروع في بناء تاريخها الخاص. هذه السيرورة للفنون أول ما تَكشفه هو أن جينها الأساس، الـ(DNA)، قد تخلَّق من أمشاج متآزرة هي الدين والفلسفة والحياة اليومية، وهو ما جعلها تتفرَّد بخاصية "التنوّع"، والذي لا يقوم إلا والحوار والتحاور حضور. ولعلّ كل هذا مجتمعاً هو ما جَعَلها تتعدَّى البعد المجتمعي غير المعقّد الذي يَنظُر إليها كأداة، لتراوح بين المجتمعي والوجودي، بين اليومي والكوني بشعرية كثيفة، ومن هنا يتعدَّى موقعها في أن تكون وسيلة للبنى الاجتماعية الأخرى (اجتماعية، كانت أم اقتصادية، أم سياسية)، إلى مُجاوِرَة هذه البنى، مؤثِّرةً فيها ومُتأثِّرةً بها. يُضاف لهذا تميّزها في أنها تنهض عن (رؤيا للعالم)، كما في قول "لوسيان غولدمان"، وأنها حوارية بطبيعتها، وأن مبدعها ليس فرداً وإنما (ذاتاً مُبدعة)، والتي تعني فيما تعني جِماع الخبرات وتاريخ النمط الفني المعّين فما يكتبه أحدنا من نصٍّ شعريٍّ، على سبيل المثال، على أصالته ما هو إلا تجلٍّ لنصوص شِعريَّة خفية.
تظلّ الفنون جميعها بما لها من مقدرة في التعبير عن أسئلة الإنسان المجتمعية والوجودية، وفي منحه المقدرة على تذوق الوجود؛ تظلّ هي الأقدر على صناعة التحاور كاحتياج إنساني لا تستقيم الحياة بدونه، فهو وسيلة التعارف بينهم، وهو وسيلة التبادل السلميّ للأفكار والرؤى، وهو الجسر بين الإفضاء والسمع والبصر والفؤاد، وكيف لا؟ فالفنون عابرة للحدود؛ كل الحدود، والفنون تستحوذ على أَقيَمِ ما اخترعه الإنسان، وأعني هنا الحكي (القَصّ)، والاحتفال بما يحملانه من طاقات كبيرة في التعبير والإصغاء الخلاَّق، ومن اشتغالٍ في المكان ومن تحشيد، محصّلته الأخيرة صناعة الحوار والتحاور وهو ما لا تستطيع تحقيقه الأديان والفلسفات والسياسية بالجدارة التي تفعلها الفنون، لذلك فالفنون حياة.
إجمالاً تستطيع الفنون أن تساعد في:
- نشر ثقافة الحوار، وبالتالي نشر ثقافة الديمقراطية كما يفعل فن المسرح مثلاً، مما يساعد على خلق مجتمع تتعدَّد وتتنوَّع فيه الأفكار والآراء.
- تنمية الحسّ الإبداعي والملكات النقدية وتذوّق الجمال، مما يعني إمكانية خلق علاقة مُغايرة مع الواقع ومع الآخرين.
- إعادة حكاياتنا وقصصنا الشخصية، مما يُجمِّل علاقتنا بالعالم ويحفّزنا على اكتشاف ذواتنا.
- نشر الفرح والسرور والبهجة مما يساعد على تنمية الشخصية وزيادة قدرتها على التسامح والاعتراف بالآخر.
- تُمثِّل صوت من لا صوت لهم من المهمشين والفقراء، وذلك بالتعبير عن احتياجاتهم وأسئلتهم، مما يجعلهم حاضرين في المجال العام.
- تُساهم بالتنوير والتثقيف فى الحملات الاجتماعية والصحية والسياسية وغيرها، وهو ما يُعدُّ دعماً لهذه الحقوق.
- تساهم في الحد من النزاعات التي تنشأ من عدم المقدرة على إدارة التنوّع، وذلك بقدرتها على التصدي للتنميط الذي يطال الأفراد والمعتقدات على خلفيّات عرقية أو دينية أو نوعية، بمعنى الدعوة غير المباشرة للحوار في المسكوت عنه.
- تمثّل الصيغة الأمثل لدعم الحوار والتبادل الثقافي بين الشعوب، بما تمتلكه من خاصية تمكّنها من العبور السلمي بين الحدود.
قال محمود درويش:
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مسلة المصري
مقبرة الفراعنة
النقوش على حجارة معبدٍ
هَزَمتك وانتَصرت وأفلَتَ من كمائنك الخلود
فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي
ثمة فكرة رائجة عن ما تَلعبه الفنون من أدوار في المجتمع، مفادها أنها تلعب أدوراً في التنوير والتعليم والترفيه، أي بكلّ ما يتّصل بالتنمية المجتمعية في مفهومها الأشمل، وبالطبع هذا افتراضٌ لا غبار عليه، لذلك يسعى الفاعلون في التغيير الاجتماعي إلى إدماجها في عمليات التغيير. لكن الناظر إلى أدوار الفنون بتمعّن سيجد أنها لا تقف عند هذه الأدوار، فالفنون وبما أنها "مجاورة" للحياة اليومية، وليست انعكاساً ميكانيكيّاً لها كما يذهب كثيرون؛ تجد نفسها بسبب مجاورتها هذه، مُطالبة بتحقيق اختلافٍ ما عن ما تُنتجه الحياة اليومية من جماليات ومجازات، فالحياة اليومية، كما نرى، لها اشتغال مجازيّ في اللغة في بعدها التواصلي؛ اشتغال في استطاعته أن يُحمِّل المفردات دلالات تتعدَّى معناها المعجمي، وأن يصيغ مقولات دالَّة على رافعة من المجاز تُعبِّر عن أكثر الأفكار والمشاعر تعقيداً، كما في ما يُعرف بالأمثال الشعبية، وتسطيع كذلك أن تُعيد تشكيل المادة الخام كالجسد، والحجر، والخشب، والطين، والسعف..إلخ، مما يمنحها انحرافاً معياريَّاً يضعها في حيِّز المجاورة مع الفنون.
إذن أين يكمن الاختلاف مع هذا التجاور؟ أي ما هي اللحظة التي تمظهر فيها هذا الاختلاف؟ الإجابة: إنها اللحظة التي ظهرت فيها الفئة التي سُمِّيت بالفنانين، وبدأ فيها استقلال الفنون عن الظواهر الكبرى؛ الدين والفلسفة، والأهم إعادة إنتاجها لجماليات الحياة اليومية ومجازاتها والشروع في بناء تاريخها الخاص. هذه السيرورة للفنون أول ما تَكشفه هو أن جينها الأساس، الـ(DNA)، قد تخلَّق من أمشاج متآزرة هي الدين والفلسفة والحياة اليومية، وهو ما جعلها تتفرَّد بخاصية "التنوّع"، والذي لا يقوم إلا والحوار والتحاور حضور. ولعلّ كل هذا مجتمعاً هو ما جَعَلها تتعدَّى البعد المجتمعي غير المعقّد الذي يَنظُر إليها كأداة، لتراوح بين المجتمعي والوجودي، بين اليومي والكوني بشعرية كثيفة، ومن هنا يتعدَّى موقعها في أن تكون وسيلة للبنى الاجتماعية الأخرى (اجتماعية، كانت أم اقتصادية، أم سياسية)، إلى مُجاوِرَة هذه البنى، مؤثِّرةً فيها ومُتأثِّرةً بها. يُضاف لهذا تميّزها في أنها تنهض عن (رؤيا للعالم)، كما في قول "لوسيان غولدمان"، وأنها حوارية بطبيعتها، وأن مبدعها ليس فرداً وإنما (ذاتاً مُبدعة)، والتي تعني فيما تعني جِماع الخبرات وتاريخ النمط الفني المعّين فما يكتبه أحدنا من نصٍّ شعريٍّ، على سبيل المثال، على أصالته ما هو إلا تجلٍّ لنصوص شِعريَّة خفية.
تظلّ الفنون جميعها بما لها من مقدرة في التعبير عن أسئلة الإنسان المجتمعية والوجودية، وفي منحه المقدرة على تذوق الوجود؛ تظلّ هي الأقدر على صناعة التحاور كاحتياج إنساني لا تستقيم الحياة بدونه، فهو وسيلة التعارف بينهم، وهو وسيلة التبادل السلميّ للأفكار والرؤى، وهو الجسر بين الإفضاء والسمع والبصر والفؤاد، وكيف لا؟ فالفنون عابرة للحدود؛ كل الحدود، والفنون تستحوذ على أَقيَمِ ما اخترعه الإنسان، وأعني هنا الحكي (القَصّ)، والاحتفال بما يحملانه من طاقات كبيرة في التعبير والإصغاء الخلاَّق، ومن اشتغالٍ في المكان ومن تحشيد، محصّلته الأخيرة صناعة الحوار والتحاور وهو ما لا تستطيع تحقيقه الأديان والفلسفات والسياسية بالجدارة التي تفعلها الفنون، لذلك فالفنون حياة.
إجمالاً تستطيع الفنون أن تساعد في:
- نشر ثقافة الحوار، وبالتالي نشر ثقافة الديمقراطية كما يفعل فن المسرح مثلاً، مما يساعد على خلق مجتمع تتعدَّد وتتنوَّع فيه الأفكار والآراء.
- تنمية الحسّ الإبداعي والملكات النقدية وتذوّق الجمال، مما يعني إمكانية خلق علاقة مُغايرة مع الواقع ومع الآخرين.
- إعادة حكاياتنا وقصصنا الشخصية، مما يُجمِّل علاقتنا بالعالم ويحفّزنا على اكتشاف ذواتنا.
- نشر الفرح والسرور والبهجة مما يساعد على تنمية الشخصية وزيادة قدرتها على التسامح والاعتراف بالآخر.
- تُمثِّل صوت من لا صوت لهم من المهمشين والفقراء، وذلك بالتعبير عن احتياجاتهم وأسئلتهم، مما يجعلهم حاضرين في المجال العام.
- تُساهم بالتنوير والتثقيف فى الحملات الاجتماعية والصحية والسياسية وغيرها، وهو ما يُعدُّ دعماً لهذه الحقوق.
- تساهم في الحد من النزاعات التي تنشأ من عدم المقدرة على إدارة التنوّع، وذلك بقدرتها على التصدي للتنميط الذي يطال الأفراد والمعتقدات على خلفيّات عرقية أو دينية أو نوعية، بمعنى الدعوة غير المباشرة للحوار في المسكوت عنه.
- تمثّل الصيغة الأمثل لدعم الحوار والتبادل الثقافي بين الشعوب، بما تمتلكه من خاصية تمكّنها من العبور السلمي بين الحدود.
قال محمود درويش:
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مسلة المصري
مقبرة الفراعنة
النقوش على حجارة معبدٍ
هَزَمتك وانتَصرت وأفلَتَ من كمائنك الخلود
فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

ثمة فكرة رائجة عن ما تَلعبه الفنون من أدوار في المجتمع، مفادها أنها تلعب أدوراً في التنوير والتعليم والترفيه، أي بكلّ ما يتّصل بالتنمية المجتمعية في مفهومها الأشمل، وبالطبع هذا افتراضٌ لا غبار عليه، لذلك يسعى الفاعلون في التغيير الاجتماعي إلى إدماجها في عمليات التغيير. لكن الناظر إلى أدوار الفنون بتمعّن سيجد أنها لا تقف عند هذه الأدوار، فالفنون وبما أنها "مجاورة" للحياة اليومية، وليست انعكاساً ميكانيكيّاً لها كما يذهب كثيرون؛ تجد نفسها بسبب مجاورتها هذه، مُطالبة بتحقيق اختلافٍ ما عن ما تُنتجه الحياة اليومية من جماليات ومجازات، فالحياة اليومية، كما نرى، لها اشتغال مجازيّ في اللغة في بعدها التواصلي؛ اشتغال في استطاعته أن يُحمِّل المفردات دلالات تتعدَّى معناها المعجمي، وأن يصيغ مقولات دالَّة على رافعة من المجاز تُعبِّر عن أكثر الأفكار والمشاعر تعقيداً، كما في ما يُعرف بالأمثال الشعبية، وتسطيع كذلك أن تُعيد تشكيل المادة الخام كالجسد، والحجر، والخشب، والطين، والسعف..إلخ، مما يمنحها انحرافاً معياريَّاً يضعها في حيِّز المجاورة مع الفنون.
إذن أين يكمن الاختلاف مع هذا التجاور؟ أي ما هي اللحظة التي تمظهر فيها هذا الاختلاف؟ الإجابة: إنها اللحظة التي ظهرت فيها الفئة التي سُمِّيت بالفنانين، وبدأ فيها استقلال الفنون عن الظواهر الكبرى؛ الدين والفلسفة، والأهم إعادة إنتاجها لجماليات الحياة اليومية ومجازاتها والشروع في بناء تاريخها الخاص. هذه السيرورة للفنون أول ما تَكشفه هو أن جينها الأساس، الـ(DNA)، قد تخلَّق من أمشاج متآزرة هي الدين والفلسفة والحياة اليومية، وهو ما جعلها تتفرَّد بخاصية "التنوّع"، والذي لا يقوم إلا والحوار والتحاور حضور. ولعلّ كل هذا مجتمعاً هو ما جَعَلها تتعدَّى البعد المجتمعي غير المعقّد الذي يَنظُر إليها كأداة، لتراوح بين المجتمعي والوجودي، بين اليومي والكوني بشعرية كثيفة، ومن هنا يتعدَّى موقعها في أن تكون وسيلة للبنى الاجتماعية الأخرى (اجتماعية، كانت أم اقتصادية، أم سياسية)، إلى مُجاوِرَة هذه البنى، مؤثِّرةً فيها ومُتأثِّرةً بها. يُضاف لهذا تميّزها في أنها تنهض عن (رؤيا للعالم)، كما في قول "لوسيان غولدمان"، وأنها حوارية بطبيعتها، وأن مبدعها ليس فرداً وإنما (ذاتاً مُبدعة)، والتي تعني فيما تعني جِماع الخبرات وتاريخ النمط الفني المعّين فما يكتبه أحدنا من نصٍّ شعريٍّ، على سبيل المثال، على أصالته ما هو إلا تجلٍّ لنصوص شِعريَّة خفية.
تظلّ الفنون جميعها بما لها من مقدرة في التعبير عن أسئلة الإنسان المجتمعية والوجودية، وفي منحه المقدرة على تذوق الوجود؛ تظلّ هي الأقدر على صناعة التحاور كاحتياج إنساني لا تستقيم الحياة بدونه، فهو وسيلة التعارف بينهم، وهو وسيلة التبادل السلميّ للأفكار والرؤى، وهو الجسر بين الإفضاء والسمع والبصر والفؤاد، وكيف لا؟ فالفنون عابرة للحدود؛ كل الحدود، والفنون تستحوذ على أَقيَمِ ما اخترعه الإنسان، وأعني هنا الحكي (القَصّ)، والاحتفال بما يحملانه من طاقات كبيرة في التعبير والإصغاء الخلاَّق، ومن اشتغالٍ في المكان ومن تحشيد، محصّلته الأخيرة صناعة الحوار والتحاور وهو ما لا تستطيع تحقيقه الأديان والفلسفات والسياسية بالجدارة التي تفعلها الفنون، لذلك فالفنون حياة.
إجمالاً تستطيع الفنون أن تساعد في:
- نشر ثقافة الحوار، وبالتالي نشر ثقافة الديمقراطية كما يفعل فن المسرح مثلاً، مما يساعد على خلق مجتمع تتعدَّد وتتنوَّع فيه الأفكار والآراء.
- تنمية الحسّ الإبداعي والملكات النقدية وتذوّق الجمال، مما يعني إمكانية خلق علاقة مُغايرة مع الواقع ومع الآخرين.
- إعادة حكاياتنا وقصصنا الشخصية، مما يُجمِّل علاقتنا بالعالم ويحفّزنا على اكتشاف ذواتنا.
- نشر الفرح والسرور والبهجة مما يساعد على تنمية الشخصية وزيادة قدرتها على التسامح والاعتراف بالآخر.
- تُمثِّل صوت من لا صوت لهم من المهمشين والفقراء، وذلك بالتعبير عن احتياجاتهم وأسئلتهم، مما يجعلهم حاضرين في المجال العام.
- تُساهم بالتنوير والتثقيف فى الحملات الاجتماعية والصحية والسياسية وغيرها، وهو ما يُعدُّ دعماً لهذه الحقوق.
- تساهم في الحد من النزاعات التي تنشأ من عدم المقدرة على إدارة التنوّع، وذلك بقدرتها على التصدي للتنميط الذي يطال الأفراد والمعتقدات على خلفيّات عرقية أو دينية أو نوعية، بمعنى الدعوة غير المباشرة للحوار في المسكوت عنه.
- تمثّل الصيغة الأمثل لدعم الحوار والتبادل الثقافي بين الشعوب، بما تمتلكه من خاصية تمكّنها من العبور السلمي بين الحدود.
قال محمود درويش:
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مسلة المصري
مقبرة الفراعنة
النقوش على حجارة معبدٍ
هَزَمتك وانتَصرت وأفلَتَ من كمائنك الخلود
فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

إيماءات وإشارات

إيماءات وإشارات
هناك نكتة قديمة عن طالب سوداني سافر إلى أوروبا منذ زمن بعيد، وكان يُخطئ في التعرُّف على أشخاص يظنّ أنّهم سودانيون بناءً على ملامحهم. وفي أحد الأيام، بينما كان يستقل قطار الأنفاق، صعد شخص تبدو عليه الملامح السودانية. كان الطالب قد فقد الأمل في العثور على شخص آخر من جنسيته، لكن الشخص جلسَ بجانبه، وعندما انحنى للجلوس أطلق صوت "أَحْ"، فاحتضنه الطالب على الفور.
تتحدث هذه النكتة عن الإيماءات غير اللفظية التي نقوم بها والتي تجعلنا مميزين، ولكنها أيضًا تُتِيح لنا فهم بعضنا البعض أو حتى إجراء محادثات كاملة دون أن نفتح أفواهنا.
يمكننا جميعاً التعرُّف على حركة ضَم أطراف الأصابع الخمسة معاً، التي غالباً ما تُنسب إلى المتحدثين الإيطاليين، باعتبارها حركة أكثر تهديداً وتُستخدم من قِبَل الأمهات الغاضبات للإشارة إلى عقوبة مُؤَجَّلة.
استخدام العيون والفم للتعبير عن فكرةٍ ما أمر شائع في المحادثات اليومية، وكذلك الأمر بالنسبة للرائحة. المرأة المتزوجة حديثاً تسير محاطة بسحابة من العطر أينما ذهبت، مما يشير إلى حالتها الاجتماعية الجديدة. ويمكنك التعرُّف على المرأة المتزوجة من خلال نمط حنّائها، حيث تُحصر تغطية أطراف الأصابع على النساء المتزوجات، ولكن من الأنماط وكمية الحناء يمكنك أن تعرف ما إذا كانت حديثة الزواج أم عروساً، أو حتى امرأة غير متزوجة لكنها قريبة جداً من العروس، مثل الأخت على سبيل المثال.
هناك إشارات يدويَّة أخرى حديثة الاختراع، مثل أسلوب الإشارة لركوب الباصات. فقد اختَرَع "الكماسرة" -وهم مساعدو السائقين- لغة كاملة للتواصل تختلف من مكان لآخر حسب نقطة الانطلاق والوجهة. لكنها رمزية للغاية، فمثلًا، الإشارة المتكررة إلى الأسفل تعني أن الباص سيلتزم بهذا الطريق، دوران الإصبع يعني أن الباص متجه إلى دوار، الإشارة شرقًا تعني أن الباص متجه إلى بحري أو الخرطوم، الواقعتين شرق النيل، بينما الإشارة غربًا تعني أن الباص متجه إلى الخرطوم إذا كُنتَ تستقلّ الباص من أم درمان أو بحري. أما الإشارة إلى الأعلى، فتعني أنه لا توجد مقاعد فارغة، وأنك ستضطر للوقوف بجانب الباب، وهو حق محفوظ للرجال فقط. الإشارة الأكثر إحباطًا في هذا السياق هي عندما "تنمو" للكُمساري أيدٍ متعددة، فهذا يعني أن الباب نفسه ممتلئ، ولن يتوقف الباص لأي كائنٍ حي أو غير حي.
عندما تكون داخل الباص، يهز الكمساري قبضته المليئة بالنقود المعدنية ليُعلِمك بضرورة الدفع، وهو لا يُفرقِع أصابعه إلا عندما يحاول أحد الركاب التظاهر بعدم سماع صوت النقود. لإيقاف الباص، يمكنك فرقعة أصابعك، لكن السائق لن يتوقف إلا بإشارة الكمساري، والتي تكون عادةً صفارة. الباص سيتوقف في أي مكان تريده، حتى لو كان في وسط النهر.
وفي عوالم المواصلات، هناك نظام إشارات آخر معروف، وهو استخدام أبواق الموسيقى من قبل الباصات والشاحنات في الطرق السريعة بين المدن. يستخدم السائقون الألحان للإعلان عن وصولهم أو لطلب كوب من القهوة من ست الشاي أثناء اقترابهم من المحطة. كما يتواصلون مع بعضهم البعض أو يقومون بذلك للمتعة فقط.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي
هناك نكتة قديمة عن طالب سوداني سافر إلى أوروبا منذ زمن بعيد، وكان يُخطئ في التعرُّف على أشخاص يظنّ أنّهم سودانيون بناءً على ملامحهم. وفي أحد الأيام، بينما كان يستقل قطار الأنفاق، صعد شخص تبدو عليه الملامح السودانية. كان الطالب قد فقد الأمل في العثور على شخص آخر من جنسيته، لكن الشخص جلسَ بجانبه، وعندما انحنى للجلوس أطلق صوت "أَحْ"، فاحتضنه الطالب على الفور.
تتحدث هذه النكتة عن الإيماءات غير اللفظية التي نقوم بها والتي تجعلنا مميزين، ولكنها أيضًا تُتِيح لنا فهم بعضنا البعض أو حتى إجراء محادثات كاملة دون أن نفتح أفواهنا.
يمكننا جميعاً التعرُّف على حركة ضَم أطراف الأصابع الخمسة معاً، التي غالباً ما تُنسب إلى المتحدثين الإيطاليين، باعتبارها حركة أكثر تهديداً وتُستخدم من قِبَل الأمهات الغاضبات للإشارة إلى عقوبة مُؤَجَّلة.
استخدام العيون والفم للتعبير عن فكرةٍ ما أمر شائع في المحادثات اليومية، وكذلك الأمر بالنسبة للرائحة. المرأة المتزوجة حديثاً تسير محاطة بسحابة من العطر أينما ذهبت، مما يشير إلى حالتها الاجتماعية الجديدة. ويمكنك التعرُّف على المرأة المتزوجة من خلال نمط حنّائها، حيث تُحصر تغطية أطراف الأصابع على النساء المتزوجات، ولكن من الأنماط وكمية الحناء يمكنك أن تعرف ما إذا كانت حديثة الزواج أم عروساً، أو حتى امرأة غير متزوجة لكنها قريبة جداً من العروس، مثل الأخت على سبيل المثال.
هناك إشارات يدويَّة أخرى حديثة الاختراع، مثل أسلوب الإشارة لركوب الباصات. فقد اختَرَع "الكماسرة" -وهم مساعدو السائقين- لغة كاملة للتواصل تختلف من مكان لآخر حسب نقطة الانطلاق والوجهة. لكنها رمزية للغاية، فمثلًا، الإشارة المتكررة إلى الأسفل تعني أن الباص سيلتزم بهذا الطريق، دوران الإصبع يعني أن الباص متجه إلى دوار، الإشارة شرقًا تعني أن الباص متجه إلى بحري أو الخرطوم، الواقعتين شرق النيل، بينما الإشارة غربًا تعني أن الباص متجه إلى الخرطوم إذا كُنتَ تستقلّ الباص من أم درمان أو بحري. أما الإشارة إلى الأعلى، فتعني أنه لا توجد مقاعد فارغة، وأنك ستضطر للوقوف بجانب الباب، وهو حق محفوظ للرجال فقط. الإشارة الأكثر إحباطًا في هذا السياق هي عندما "تنمو" للكُمساري أيدٍ متعددة، فهذا يعني أن الباب نفسه ممتلئ، ولن يتوقف الباص لأي كائنٍ حي أو غير حي.
عندما تكون داخل الباص، يهز الكمساري قبضته المليئة بالنقود المعدنية ليُعلِمك بضرورة الدفع، وهو لا يُفرقِع أصابعه إلا عندما يحاول أحد الركاب التظاهر بعدم سماع صوت النقود. لإيقاف الباص، يمكنك فرقعة أصابعك، لكن السائق لن يتوقف إلا بإشارة الكمساري، والتي تكون عادةً صفارة. الباص سيتوقف في أي مكان تريده، حتى لو كان في وسط النهر.
وفي عوالم المواصلات، هناك نظام إشارات آخر معروف، وهو استخدام أبواق الموسيقى من قبل الباصات والشاحنات في الطرق السريعة بين المدن. يستخدم السائقون الألحان للإعلان عن وصولهم أو لطلب كوب من القهوة من ست الشاي أثناء اقترابهم من المحطة. كما يتواصلون مع بعضهم البعض أو يقومون بذلك للمتعة فقط.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

هناك نكتة قديمة عن طالب سوداني سافر إلى أوروبا منذ زمن بعيد، وكان يُخطئ في التعرُّف على أشخاص يظنّ أنّهم سودانيون بناءً على ملامحهم. وفي أحد الأيام، بينما كان يستقل قطار الأنفاق، صعد شخص تبدو عليه الملامح السودانية. كان الطالب قد فقد الأمل في العثور على شخص آخر من جنسيته، لكن الشخص جلسَ بجانبه، وعندما انحنى للجلوس أطلق صوت "أَحْ"، فاحتضنه الطالب على الفور.
تتحدث هذه النكتة عن الإيماءات غير اللفظية التي نقوم بها والتي تجعلنا مميزين، ولكنها أيضًا تُتِيح لنا فهم بعضنا البعض أو حتى إجراء محادثات كاملة دون أن نفتح أفواهنا.
يمكننا جميعاً التعرُّف على حركة ضَم أطراف الأصابع الخمسة معاً، التي غالباً ما تُنسب إلى المتحدثين الإيطاليين، باعتبارها حركة أكثر تهديداً وتُستخدم من قِبَل الأمهات الغاضبات للإشارة إلى عقوبة مُؤَجَّلة.
استخدام العيون والفم للتعبير عن فكرةٍ ما أمر شائع في المحادثات اليومية، وكذلك الأمر بالنسبة للرائحة. المرأة المتزوجة حديثاً تسير محاطة بسحابة من العطر أينما ذهبت، مما يشير إلى حالتها الاجتماعية الجديدة. ويمكنك التعرُّف على المرأة المتزوجة من خلال نمط حنّائها، حيث تُحصر تغطية أطراف الأصابع على النساء المتزوجات، ولكن من الأنماط وكمية الحناء يمكنك أن تعرف ما إذا كانت حديثة الزواج أم عروساً، أو حتى امرأة غير متزوجة لكنها قريبة جداً من العروس، مثل الأخت على سبيل المثال.
هناك إشارات يدويَّة أخرى حديثة الاختراع، مثل أسلوب الإشارة لركوب الباصات. فقد اختَرَع "الكماسرة" -وهم مساعدو السائقين- لغة كاملة للتواصل تختلف من مكان لآخر حسب نقطة الانطلاق والوجهة. لكنها رمزية للغاية، فمثلًا، الإشارة المتكررة إلى الأسفل تعني أن الباص سيلتزم بهذا الطريق، دوران الإصبع يعني أن الباص متجه إلى دوار، الإشارة شرقًا تعني أن الباص متجه إلى بحري أو الخرطوم، الواقعتين شرق النيل، بينما الإشارة غربًا تعني أن الباص متجه إلى الخرطوم إذا كُنتَ تستقلّ الباص من أم درمان أو بحري. أما الإشارة إلى الأعلى، فتعني أنه لا توجد مقاعد فارغة، وأنك ستضطر للوقوف بجانب الباب، وهو حق محفوظ للرجال فقط. الإشارة الأكثر إحباطًا في هذا السياق هي عندما "تنمو" للكُمساري أيدٍ متعددة، فهذا يعني أن الباب نفسه ممتلئ، ولن يتوقف الباص لأي كائنٍ حي أو غير حي.
عندما تكون داخل الباص، يهز الكمساري قبضته المليئة بالنقود المعدنية ليُعلِمك بضرورة الدفع، وهو لا يُفرقِع أصابعه إلا عندما يحاول أحد الركاب التظاهر بعدم سماع صوت النقود. لإيقاف الباص، يمكنك فرقعة أصابعك، لكن السائق لن يتوقف إلا بإشارة الكمساري، والتي تكون عادةً صفارة. الباص سيتوقف في أي مكان تريده، حتى لو كان في وسط النهر.
وفي عوالم المواصلات، هناك نظام إشارات آخر معروف، وهو استخدام أبواق الموسيقى من قبل الباصات والشاحنات في الطرق السريعة بين المدن. يستخدم السائقون الألحان للإعلان عن وصولهم أو لطلب كوب من القهوة من ست الشاي أثناء اقترابهم من المحطة. كما يتواصلون مع بعضهم البعض أو يقومون بذلك للمتعة فقط.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

لغة النحاس

لغة النحاس
تسمى مجموعة الطبول المخصصة لكل حاكم أو قبيلة بالنحاس، وكانت تُصنع من النحاس وتُغطى بجلد التيتل أو البقر أو الإبل.
- للطبول دلالات ثقافية ممتدّة من مملكة الفونج وحتى اليوم، فقد كانت تُستخدم كرمز قَبَلي وأداة للتواصل بين القبائل، وارتبطت بالكثير من الطقوس والمراسم، مثل حالات الاستدعاء العامة للحرب، وعند وفاة شخص عظيم، وأيضاً في حالات التشاور أو الاجتماع بالسلاطين.
- سُميت الإيقاعات المضروبة على النحاس بأسماء مختلفة مثل الدّرَق (إيقاع إثارة الحماس وإظهار المكانة الاجتماعية) ، وغيرها من الإيقاعات المتعارف عليها عبر الأجيال.
- استخدمت الدولة المهدية النحاس ضمن الوحدة الموسيقية للخليفة، وشملت جماعة النحاس، وجماعة الإمباية. وكان ذلك في العرضة والاحتفالات والمناسبات القومية المختلفة.
- فعّل الخليفة عبد الله منشور الإمام المهدي الذي كان ينص على عدم جواز ضرب النّحاس إلّا في حالتي الحرب والمأتم.
صورة الغلاف: قبيلة الجعليين تدق النحاس في معسكر ود حمد أثناء الاستعدادات النهائية للتقدم إلى جبهة أم درمان، تاريخ الصورة: ١٨٩٨، تصوير الجنرال السير ريجينالد وينجيت © أرشيف السودان بجامعة دورهام
تسمى مجموعة الطبول المخصصة لكل حاكم أو قبيلة بالنحاس، وكانت تُصنع من النحاس وتُغطى بجلد التيتل أو البقر أو الإبل.
- للطبول دلالات ثقافية ممتدّة من مملكة الفونج وحتى اليوم، فقد كانت تُستخدم كرمز قَبَلي وأداة للتواصل بين القبائل، وارتبطت بالكثير من الطقوس والمراسم، مثل حالات الاستدعاء العامة للحرب، وعند وفاة شخص عظيم، وأيضاً في حالات التشاور أو الاجتماع بالسلاطين.
- سُميت الإيقاعات المضروبة على النحاس بأسماء مختلفة مثل الدّرَق (إيقاع إثارة الحماس وإظهار المكانة الاجتماعية) ، وغيرها من الإيقاعات المتعارف عليها عبر الأجيال.
- استخدمت الدولة المهدية النحاس ضمن الوحدة الموسيقية للخليفة، وشملت جماعة النحاس، وجماعة الإمباية. وكان ذلك في العرضة والاحتفالات والمناسبات القومية المختلفة.
- فعّل الخليفة عبد الله منشور الإمام المهدي الذي كان ينص على عدم جواز ضرب النّحاس إلّا في حالتي الحرب والمأتم.
صورة الغلاف: قبيلة الجعليين تدق النحاس في معسكر ود حمد أثناء الاستعدادات النهائية للتقدم إلى جبهة أم درمان، تاريخ الصورة: ١٨٩٨، تصوير الجنرال السير ريجينالد وينجيت © أرشيف السودان بجامعة دورهام

تسمى مجموعة الطبول المخصصة لكل حاكم أو قبيلة بالنحاس، وكانت تُصنع من النحاس وتُغطى بجلد التيتل أو البقر أو الإبل.
- للطبول دلالات ثقافية ممتدّة من مملكة الفونج وحتى اليوم، فقد كانت تُستخدم كرمز قَبَلي وأداة للتواصل بين القبائل، وارتبطت بالكثير من الطقوس والمراسم، مثل حالات الاستدعاء العامة للحرب، وعند وفاة شخص عظيم، وأيضاً في حالات التشاور أو الاجتماع بالسلاطين.
- سُميت الإيقاعات المضروبة على النحاس بأسماء مختلفة مثل الدّرَق (إيقاع إثارة الحماس وإظهار المكانة الاجتماعية) ، وغيرها من الإيقاعات المتعارف عليها عبر الأجيال.
- استخدمت الدولة المهدية النحاس ضمن الوحدة الموسيقية للخليفة، وشملت جماعة النحاس، وجماعة الإمباية. وكان ذلك في العرضة والاحتفالات والمناسبات القومية المختلفة.
- فعّل الخليفة عبد الله منشور الإمام المهدي الذي كان ينص على عدم جواز ضرب النّحاس إلّا في حالتي الحرب والمأتم.
صورة الغلاف: قبيلة الجعليين تدق النحاس في معسكر ود حمد أثناء الاستعدادات النهائية للتقدم إلى جبهة أم درمان، تاريخ الصورة: ١٨٩٨، تصوير الجنرال السير ريجينالد وينجيت © أرشيف السودان بجامعة دورهام

نحاس السلطان علي دينار

نحاس السلطان علي دينار
أوائل القرن العشرين
هذا النحاس يرمز إلى سلطة سلطان دارفور. تم استخدامه لدعوة الناس للحضور في المناسبات خاصةُ المتعلقة بالحرب والطوارئ. كما تم استخدامه كأداة موسيقية. مصنوع من النحاس وجلد البقر.
مجموعة متحف بيت الخليفة
أوائل القرن العشرين
هذا النحاس يرمز إلى سلطة سلطان دارفور. تم استخدامه لدعوة الناس للحضور في المناسبات خاصةُ المتعلقة بالحرب والطوارئ. كما تم استخدامه كأداة موسيقية. مصنوع من النحاس وجلد البقر.
مجموعة متحف بيت الخليفة

أوائل القرن العشرين
هذا النحاس يرمز إلى سلطة سلطان دارفور. تم استخدامه لدعوة الناس للحضور في المناسبات خاصةُ المتعلقة بالحرب والطوارئ. كما تم استخدامه كأداة موسيقية. مصنوع من النحاس وجلد البقر.
مجموعة متحف بيت الخليفة

حوارٌ مع عوالم أخرى

حوارٌ مع عوالم أخرى
للشيوخ وأصحاب الكرامات مكانة مهمة في المجتمع السوداني، خصوصاً في المفاهيم الصوفية، كمثل الشيوخ من يتبعون الطرق الإسلامية للعلاج والرقية الشرعية، وهي تعتمد القرآن والسنة كمرجع للعلاج. السحر والشعوذة هي ممارسات محرمة في الدين الإسلامي، إلا أن هذا لا يعني أنه ليس هناك شيوخ يستخدمون السحر لأغراض أخرى، يطلق عليهم مصطلح الشيوخ الروحانيين. عادة ترتبط زيارة مثل هذه المزارات بطلبات درامية الطبع مثل جلب الحبيب، فك العوارض أو التحكم بقرار شخص، وقد تكون طلبات أكثر شراً مثل جلب الحظ السيء على شخص آخر، أو ما يسمى "بكتابة" شخص. على خلاف الشيوخ "الفقرا" وأصحاب الكرامات، يعتمد الشيوخ الروحانيين على قدرتهم على تواصل مع كائنات من عوالم أخرى، حيث يقوم الساحر بعقد اتفاق مع "خادم السحر" (جني/مارد/عفريت) على أن يُتِمَّ أمر بالنيابة عنه بعد تبادل منافع مع الساحر، وهو نوع من التواصل يعتبر محفوفاً بالمخاطر.
الجِنّ مفردها جِنِّيّ أو "جِنِّيَّة" وهو من الفعل جَنَّ (بفتح الجيم وتشديد النون وفتحها) بمعنى استَتر وغطَّى، وهم وبحسب مختلف الأديان والأساطير العربية القديمة مخلوقات تعيش في ذات العالم، ولكن لا يمكن رؤيتها عادة، وهي خارقة للطبيعة التي تدركها حواسنا، لها عقول وفهم، ويقال إنما سميت بذلك لأنها تتوارى عن الأنظار ولا تُرى. أجمع المسلمون على إقرار وجودها.
في السودان يعتقد البعض أن الاعتقاد بالجن والسحر هي عادة قديمة ترجع لعصور ما قبل نشأة الحضارة الكوشية. وفي التاريخ الحديث، يَعتقد سُكَّان جزيرة سواكن التاريخية الأثرية أن الجن يسكنها منذ عهد النبي سليمان، ومنه جاء الاسم "سواكن"، ونُسجت حولها الكثير من القصص والأساطير، فمن منّا لم يسمع عن قطط سواكن؟. وللجن وقبائل الجن الكثير من النصوص والدراسات الدينية، كما له ولعالم الغيب الكثير من الممارسات التراثية في الإرث السوداني، قد اندثر الكثير منها وما زال يمارسها البعض، وإن كان أغلب الممارسين لا يعلمون علاقتها بهذا النوع من المعتقدات.
كمثال للممارسات في الحماية من الجن ما يَتَمثَّل في صنع التمائم والأحجبة -جمع حجاب- وربط الخرز على الأطفال وحتى الماشية، هي معتقدات بأنها تحمي من الجن والأرواح الشريرة وكذلك مفهوم العالم السفلي. وما زالت تُمارس في أماكن مختلفة من السودان، مثلها مثل الحريرة، وهي عبارة عن خيوط من الحرير الخالص يُضفَر وتتخلَّله خُرزة زرقاء تُربط في معصم اليد في العادات والتقاليد السودانية المرتبطة بالزواج، الجرتق على الخصوص، والطهور. قد لا تكون الحريرة بنفس وضوح التمائم إلا أنها أيضاً ترتبط بمفهوم الحماية من الأرواح الشريرة والعين والحَسد والجن، وتقوم بالإشراف على صنعها وربطها النساء الكبار في السن؛ حيث يكنّ قريبات الزوج أو الزوجة أو الخالات والعمات والجدات، وأيضاً أم أو جدة الطفل عند الطهور (الختان).
وكتبت أستاذة أماني بشير، مديرة متحف شيكان، عن عادات منطقة الأبيض وكردفان في ما يخص خاتم الجنيه، وهو عبارة عن قطعة معدنية مرسومٌ على الوجه الأول صورة رجل والوجه الآخر قيمة لعملة الجنيه. يُرتَدى الجنيه كقطعة حلي أصل صنعها من الذهب الخالص، لكن توجد الفضة ومعادن أخرى ترتديها النساء بصورة أساسية للزينة، وتتمثّل معتقدات لبس خاتم الجنيه في الحفظ من الأرواح الشريرة، ولذلك ترتديه العروس لمدة أربعين يوم بعد الزواج، ويعتقد في تلك الفترة أنها تكون في أبهى جمالها وأن الأرواح الشريرة تكثُر من حولها، وأيضاً ترتديه المرأة النَفَسَاء في فترة النفاس لذات المعتقد، أيضاً يرتديه العريس لمدة سبعة أيام من زواجه. من هذا المنطلق وُضع لبس خاتم الجنيه للحماية من الطاقات السلبية التي يمكن أن تضرّ الإنسان.
بينما الأحجبة والحريرة والجنيه كلها تمائم تعني الحماية وقطع التواصل مع العوالم الأخرى، إلا أن هناك ممارسات أخرى مهمتها التواصل مع الجن مباشرة، لطرح أسئلة أو غيرها، أشهرها "رمي الوَدِع" و"الزَّار/الظّار". رمي الودع هو نوع من أنواع قراءة الطالع، وتُرمى فيه قواقع أو صدف البحر يختار منها سبع صدفات متشابهة وبشكل معروف، تحرك معاً داخل الكف وهي مغلقة ثم تُلقى على الأرض، لتقوم قارئة الطالع بترجمة الرسالة الناتجة من وضعية الصدفات بحسب مدى قربها أو بعدها عن بعضها، أو إن كانت مقلوبة على ظهرها أو على وجهها، فما يستقر عليه "الودع" في كل مرة له قراءة خاصة ربما تكون مؤكِّدة للقراءة السابقة أو مختلفة عنها. و عادة يبحث السائل عن إجابات عن أشخاص آخرين ومعرفة أسباب مشاكلهم، وليس شرطاً أن تكون متعلقة بالمستقبل بل قد تكون متعلقة بالماضي أو المستقبل أو مزيج منهما. ويعتقد في مقدرة قارئة الودع من التواصل مع عالم آخر وترجمة تلك الرسائل عبر استخدام الصَدَف. وذلك بعكس حالة الزار/الظار أو ما يعرف بالريح الأحمر، حيث تكون الزائرة هي "الممسوسة" وفي حاجة لتقديم طقس للجن وتلبي الكثير من الرغبات لتصبح أفضل.
يُعتقد أن الزار يأتي من أصول إفريقية، انتقل من الحبشة إلى السودان ومصر وهو طقس استحضار أرواح الأسلاف والأسياد والشيوخ وتحقيق طلباتهم أو تقمص أرواحهم بغرض شفاء المرضى ممن تتلبسهم الجن. يرى الكثير من الناس أن الزار طقس علاجي، له الفضل في علاج كثير من الحالات النفسية الهستيرية، كما هو طريقة للنساء في التعامل مع ضغوط حياتهن. ويتم عبر تحقيق طلبات الأسياد، كتخصيص طعام وموسيقى وأغانٍ وعطور وبخور وملابس وغيرها لهذا الطقس، وتحضر الطقس الكثير من النساء اللاتي يلعبن أدواراً مختلفة؛ مثل شيخة الزار ولها مساعدات ونائبة تتولى مراقبة الحفل وضبطه، وحبوبة الكانون المسؤولة من الطعام وغيرهن. وهناك اختلاف في أنواع احتفالات الزار تسمى خيوط التي تقام مع اختلاف الطقوس، حسب نوع أو جنس الجن صاحب المس، كخيط الزرق أو السود، وتكون "المزيورات" في خيط الزرق من قبائل غرب إفريقيا، مثل الهوسا والفلاتة وجنوب السودان، ويكون طعامهم وموسيقاهم وملابسهم بحسب عاداتهم الأصلية. وبصورة مشابهة خيط الحبش وخيط الخواجات وغيرهم.
بعيداً عن عالم الجن والسحر يفضل المسلمون طلب الحاجة من الله سبحانه وتعالى من غير وسيط، والتبرك بالكرامة وهي الصدقة، أيضاً تُسمى البركة وهي ممارسة اجتماعية تؤديها المجتمعات بنية التقرب والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى ورفع البلاء أو تخفيف المصائب أو الشكر على نعمة أو فرح أو استجابة دعوة. كرامة البليلة عبارة عن وجبة يتم إعدادها وتوزيعها للمحتاجين والمساكين، وارتبطت أعراف معينة بكرامة البليلة أهمها أن يتم طبخ البليلة في إناء أو قِدر مفتوح حيث يعتقد أن بوخ البليلة (البُخار) يصعد إلى السماء ويأخذ معه كل الشر والأمراض والبلاء، إضافة إلى الأدعية التي يتم ترديدها أثناء الطبخ والتوزيع، ومن الشائع أن دعوة الكرامة لا تُرد أو تُرفض وكل إنسان يصادف البليلة يجب أن يَحظى بنصيبٍ منها ولو القليل للتبرُّك، لذا أُطلق عليها اسم البركة، اعتقاداً منهم في أهميتها.
تظل رغبة البشر في التواصل مع عوالم أخرى غير مرئية أمر قديم ومشترك بين أغلب شعوب العالم، لكلٍّ منهم دلالات وأغراض.
صورة الغلاف: حولية الشيخ حمد النيل في أم درمان © يوسف الشيخ
للشيوخ وأصحاب الكرامات مكانة مهمة في المجتمع السوداني، خصوصاً في المفاهيم الصوفية، كمثل الشيوخ من يتبعون الطرق الإسلامية للعلاج والرقية الشرعية، وهي تعتمد القرآن والسنة كمرجع للعلاج. السحر والشعوذة هي ممارسات محرمة في الدين الإسلامي، إلا أن هذا لا يعني أنه ليس هناك شيوخ يستخدمون السحر لأغراض أخرى، يطلق عليهم مصطلح الشيوخ الروحانيين. عادة ترتبط زيارة مثل هذه المزارات بطلبات درامية الطبع مثل جلب الحبيب، فك العوارض أو التحكم بقرار شخص، وقد تكون طلبات أكثر شراً مثل جلب الحظ السيء على شخص آخر، أو ما يسمى "بكتابة" شخص. على خلاف الشيوخ "الفقرا" وأصحاب الكرامات، يعتمد الشيوخ الروحانيين على قدرتهم على تواصل مع كائنات من عوالم أخرى، حيث يقوم الساحر بعقد اتفاق مع "خادم السحر" (جني/مارد/عفريت) على أن يُتِمَّ أمر بالنيابة عنه بعد تبادل منافع مع الساحر، وهو نوع من التواصل يعتبر محفوفاً بالمخاطر.
الجِنّ مفردها جِنِّيّ أو "جِنِّيَّة" وهو من الفعل جَنَّ (بفتح الجيم وتشديد النون وفتحها) بمعنى استَتر وغطَّى، وهم وبحسب مختلف الأديان والأساطير العربية القديمة مخلوقات تعيش في ذات العالم، ولكن لا يمكن رؤيتها عادة، وهي خارقة للطبيعة التي تدركها حواسنا، لها عقول وفهم، ويقال إنما سميت بذلك لأنها تتوارى عن الأنظار ولا تُرى. أجمع المسلمون على إقرار وجودها.
في السودان يعتقد البعض أن الاعتقاد بالجن والسحر هي عادة قديمة ترجع لعصور ما قبل نشأة الحضارة الكوشية. وفي التاريخ الحديث، يَعتقد سُكَّان جزيرة سواكن التاريخية الأثرية أن الجن يسكنها منذ عهد النبي سليمان، ومنه جاء الاسم "سواكن"، ونُسجت حولها الكثير من القصص والأساطير، فمن منّا لم يسمع عن قطط سواكن؟. وللجن وقبائل الجن الكثير من النصوص والدراسات الدينية، كما له ولعالم الغيب الكثير من الممارسات التراثية في الإرث السوداني، قد اندثر الكثير منها وما زال يمارسها البعض، وإن كان أغلب الممارسين لا يعلمون علاقتها بهذا النوع من المعتقدات.
كمثال للممارسات في الحماية من الجن ما يَتَمثَّل في صنع التمائم والأحجبة -جمع حجاب- وربط الخرز على الأطفال وحتى الماشية، هي معتقدات بأنها تحمي من الجن والأرواح الشريرة وكذلك مفهوم العالم السفلي. وما زالت تُمارس في أماكن مختلفة من السودان، مثلها مثل الحريرة، وهي عبارة عن خيوط من الحرير الخالص يُضفَر وتتخلَّله خُرزة زرقاء تُربط في معصم اليد في العادات والتقاليد السودانية المرتبطة بالزواج، الجرتق على الخصوص، والطهور. قد لا تكون الحريرة بنفس وضوح التمائم إلا أنها أيضاً ترتبط بمفهوم الحماية من الأرواح الشريرة والعين والحَسد والجن، وتقوم بالإشراف على صنعها وربطها النساء الكبار في السن؛ حيث يكنّ قريبات الزوج أو الزوجة أو الخالات والعمات والجدات، وأيضاً أم أو جدة الطفل عند الطهور (الختان).
وكتبت أستاذة أماني بشير، مديرة متحف شيكان، عن عادات منطقة الأبيض وكردفان في ما يخص خاتم الجنيه، وهو عبارة عن قطعة معدنية مرسومٌ على الوجه الأول صورة رجل والوجه الآخر قيمة لعملة الجنيه. يُرتَدى الجنيه كقطعة حلي أصل صنعها من الذهب الخالص، لكن توجد الفضة ومعادن أخرى ترتديها النساء بصورة أساسية للزينة، وتتمثّل معتقدات لبس خاتم الجنيه في الحفظ من الأرواح الشريرة، ولذلك ترتديه العروس لمدة أربعين يوم بعد الزواج، ويعتقد في تلك الفترة أنها تكون في أبهى جمالها وأن الأرواح الشريرة تكثُر من حولها، وأيضاً ترتديه المرأة النَفَسَاء في فترة النفاس لذات المعتقد، أيضاً يرتديه العريس لمدة سبعة أيام من زواجه. من هذا المنطلق وُضع لبس خاتم الجنيه للحماية من الطاقات السلبية التي يمكن أن تضرّ الإنسان.
بينما الأحجبة والحريرة والجنيه كلها تمائم تعني الحماية وقطع التواصل مع العوالم الأخرى، إلا أن هناك ممارسات أخرى مهمتها التواصل مع الجن مباشرة، لطرح أسئلة أو غيرها، أشهرها "رمي الوَدِع" و"الزَّار/الظّار". رمي الودع هو نوع من أنواع قراءة الطالع، وتُرمى فيه قواقع أو صدف البحر يختار منها سبع صدفات متشابهة وبشكل معروف، تحرك معاً داخل الكف وهي مغلقة ثم تُلقى على الأرض، لتقوم قارئة الطالع بترجمة الرسالة الناتجة من وضعية الصدفات بحسب مدى قربها أو بعدها عن بعضها، أو إن كانت مقلوبة على ظهرها أو على وجهها، فما يستقر عليه "الودع" في كل مرة له قراءة خاصة ربما تكون مؤكِّدة للقراءة السابقة أو مختلفة عنها. و عادة يبحث السائل عن إجابات عن أشخاص آخرين ومعرفة أسباب مشاكلهم، وليس شرطاً أن تكون متعلقة بالمستقبل بل قد تكون متعلقة بالماضي أو المستقبل أو مزيج منهما. ويعتقد في مقدرة قارئة الودع من التواصل مع عالم آخر وترجمة تلك الرسائل عبر استخدام الصَدَف. وذلك بعكس حالة الزار/الظار أو ما يعرف بالريح الأحمر، حيث تكون الزائرة هي "الممسوسة" وفي حاجة لتقديم طقس للجن وتلبي الكثير من الرغبات لتصبح أفضل.
يُعتقد أن الزار يأتي من أصول إفريقية، انتقل من الحبشة إلى السودان ومصر وهو طقس استحضار أرواح الأسلاف والأسياد والشيوخ وتحقيق طلباتهم أو تقمص أرواحهم بغرض شفاء المرضى ممن تتلبسهم الجن. يرى الكثير من الناس أن الزار طقس علاجي، له الفضل في علاج كثير من الحالات النفسية الهستيرية، كما هو طريقة للنساء في التعامل مع ضغوط حياتهن. ويتم عبر تحقيق طلبات الأسياد، كتخصيص طعام وموسيقى وأغانٍ وعطور وبخور وملابس وغيرها لهذا الطقس، وتحضر الطقس الكثير من النساء اللاتي يلعبن أدواراً مختلفة؛ مثل شيخة الزار ولها مساعدات ونائبة تتولى مراقبة الحفل وضبطه، وحبوبة الكانون المسؤولة من الطعام وغيرهن. وهناك اختلاف في أنواع احتفالات الزار تسمى خيوط التي تقام مع اختلاف الطقوس، حسب نوع أو جنس الجن صاحب المس، كخيط الزرق أو السود، وتكون "المزيورات" في خيط الزرق من قبائل غرب إفريقيا، مثل الهوسا والفلاتة وجنوب السودان، ويكون طعامهم وموسيقاهم وملابسهم بحسب عاداتهم الأصلية. وبصورة مشابهة خيط الحبش وخيط الخواجات وغيرهم.
بعيداً عن عالم الجن والسحر يفضل المسلمون طلب الحاجة من الله سبحانه وتعالى من غير وسيط، والتبرك بالكرامة وهي الصدقة، أيضاً تُسمى البركة وهي ممارسة اجتماعية تؤديها المجتمعات بنية التقرب والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى ورفع البلاء أو تخفيف المصائب أو الشكر على نعمة أو فرح أو استجابة دعوة. كرامة البليلة عبارة عن وجبة يتم إعدادها وتوزيعها للمحتاجين والمساكين، وارتبطت أعراف معينة بكرامة البليلة أهمها أن يتم طبخ البليلة في إناء أو قِدر مفتوح حيث يعتقد أن بوخ البليلة (البُخار) يصعد إلى السماء ويأخذ معه كل الشر والأمراض والبلاء، إضافة إلى الأدعية التي يتم ترديدها أثناء الطبخ والتوزيع، ومن الشائع أن دعوة الكرامة لا تُرد أو تُرفض وكل إنسان يصادف البليلة يجب أن يَحظى بنصيبٍ منها ولو القليل للتبرُّك، لذا أُطلق عليها اسم البركة، اعتقاداً منهم في أهميتها.
تظل رغبة البشر في التواصل مع عوالم أخرى غير مرئية أمر قديم ومشترك بين أغلب شعوب العالم، لكلٍّ منهم دلالات وأغراض.
صورة الغلاف: حولية الشيخ حمد النيل في أم درمان © يوسف الشيخ

للشيوخ وأصحاب الكرامات مكانة مهمة في المجتمع السوداني، خصوصاً في المفاهيم الصوفية، كمثل الشيوخ من يتبعون الطرق الإسلامية للعلاج والرقية الشرعية، وهي تعتمد القرآن والسنة كمرجع للعلاج. السحر والشعوذة هي ممارسات محرمة في الدين الإسلامي، إلا أن هذا لا يعني أنه ليس هناك شيوخ يستخدمون السحر لأغراض أخرى، يطلق عليهم مصطلح الشيوخ الروحانيين. عادة ترتبط زيارة مثل هذه المزارات بطلبات درامية الطبع مثل جلب الحبيب، فك العوارض أو التحكم بقرار شخص، وقد تكون طلبات أكثر شراً مثل جلب الحظ السيء على شخص آخر، أو ما يسمى "بكتابة" شخص. على خلاف الشيوخ "الفقرا" وأصحاب الكرامات، يعتمد الشيوخ الروحانيين على قدرتهم على تواصل مع كائنات من عوالم أخرى، حيث يقوم الساحر بعقد اتفاق مع "خادم السحر" (جني/مارد/عفريت) على أن يُتِمَّ أمر بالنيابة عنه بعد تبادل منافع مع الساحر، وهو نوع من التواصل يعتبر محفوفاً بالمخاطر.
الجِنّ مفردها جِنِّيّ أو "جِنِّيَّة" وهو من الفعل جَنَّ (بفتح الجيم وتشديد النون وفتحها) بمعنى استَتر وغطَّى، وهم وبحسب مختلف الأديان والأساطير العربية القديمة مخلوقات تعيش في ذات العالم، ولكن لا يمكن رؤيتها عادة، وهي خارقة للطبيعة التي تدركها حواسنا، لها عقول وفهم، ويقال إنما سميت بذلك لأنها تتوارى عن الأنظار ولا تُرى. أجمع المسلمون على إقرار وجودها.
في السودان يعتقد البعض أن الاعتقاد بالجن والسحر هي عادة قديمة ترجع لعصور ما قبل نشأة الحضارة الكوشية. وفي التاريخ الحديث، يَعتقد سُكَّان جزيرة سواكن التاريخية الأثرية أن الجن يسكنها منذ عهد النبي سليمان، ومنه جاء الاسم "سواكن"، ونُسجت حولها الكثير من القصص والأساطير، فمن منّا لم يسمع عن قطط سواكن؟. وللجن وقبائل الجن الكثير من النصوص والدراسات الدينية، كما له ولعالم الغيب الكثير من الممارسات التراثية في الإرث السوداني، قد اندثر الكثير منها وما زال يمارسها البعض، وإن كان أغلب الممارسين لا يعلمون علاقتها بهذا النوع من المعتقدات.
كمثال للممارسات في الحماية من الجن ما يَتَمثَّل في صنع التمائم والأحجبة -جمع حجاب- وربط الخرز على الأطفال وحتى الماشية، هي معتقدات بأنها تحمي من الجن والأرواح الشريرة وكذلك مفهوم العالم السفلي. وما زالت تُمارس في أماكن مختلفة من السودان، مثلها مثل الحريرة، وهي عبارة عن خيوط من الحرير الخالص يُضفَر وتتخلَّله خُرزة زرقاء تُربط في معصم اليد في العادات والتقاليد السودانية المرتبطة بالزواج، الجرتق على الخصوص، والطهور. قد لا تكون الحريرة بنفس وضوح التمائم إلا أنها أيضاً ترتبط بمفهوم الحماية من الأرواح الشريرة والعين والحَسد والجن، وتقوم بالإشراف على صنعها وربطها النساء الكبار في السن؛ حيث يكنّ قريبات الزوج أو الزوجة أو الخالات والعمات والجدات، وأيضاً أم أو جدة الطفل عند الطهور (الختان).
وكتبت أستاذة أماني بشير، مديرة متحف شيكان، عن عادات منطقة الأبيض وكردفان في ما يخص خاتم الجنيه، وهو عبارة عن قطعة معدنية مرسومٌ على الوجه الأول صورة رجل والوجه الآخر قيمة لعملة الجنيه. يُرتَدى الجنيه كقطعة حلي أصل صنعها من الذهب الخالص، لكن توجد الفضة ومعادن أخرى ترتديها النساء بصورة أساسية للزينة، وتتمثّل معتقدات لبس خاتم الجنيه في الحفظ من الأرواح الشريرة، ولذلك ترتديه العروس لمدة أربعين يوم بعد الزواج، ويعتقد في تلك الفترة أنها تكون في أبهى جمالها وأن الأرواح الشريرة تكثُر من حولها، وأيضاً ترتديه المرأة النَفَسَاء في فترة النفاس لذات المعتقد، أيضاً يرتديه العريس لمدة سبعة أيام من زواجه. من هذا المنطلق وُضع لبس خاتم الجنيه للحماية من الطاقات السلبية التي يمكن أن تضرّ الإنسان.
بينما الأحجبة والحريرة والجنيه كلها تمائم تعني الحماية وقطع التواصل مع العوالم الأخرى، إلا أن هناك ممارسات أخرى مهمتها التواصل مع الجن مباشرة، لطرح أسئلة أو غيرها، أشهرها "رمي الوَدِع" و"الزَّار/الظّار". رمي الودع هو نوع من أنواع قراءة الطالع، وتُرمى فيه قواقع أو صدف البحر يختار منها سبع صدفات متشابهة وبشكل معروف، تحرك معاً داخل الكف وهي مغلقة ثم تُلقى على الأرض، لتقوم قارئة الطالع بترجمة الرسالة الناتجة من وضعية الصدفات بحسب مدى قربها أو بعدها عن بعضها، أو إن كانت مقلوبة على ظهرها أو على وجهها، فما يستقر عليه "الودع" في كل مرة له قراءة خاصة ربما تكون مؤكِّدة للقراءة السابقة أو مختلفة عنها. و عادة يبحث السائل عن إجابات عن أشخاص آخرين ومعرفة أسباب مشاكلهم، وليس شرطاً أن تكون متعلقة بالمستقبل بل قد تكون متعلقة بالماضي أو المستقبل أو مزيج منهما. ويعتقد في مقدرة قارئة الودع من التواصل مع عالم آخر وترجمة تلك الرسائل عبر استخدام الصَدَف. وذلك بعكس حالة الزار/الظار أو ما يعرف بالريح الأحمر، حيث تكون الزائرة هي "الممسوسة" وفي حاجة لتقديم طقس للجن وتلبي الكثير من الرغبات لتصبح أفضل.
يُعتقد أن الزار يأتي من أصول إفريقية، انتقل من الحبشة إلى السودان ومصر وهو طقس استحضار أرواح الأسلاف والأسياد والشيوخ وتحقيق طلباتهم أو تقمص أرواحهم بغرض شفاء المرضى ممن تتلبسهم الجن. يرى الكثير من الناس أن الزار طقس علاجي، له الفضل في علاج كثير من الحالات النفسية الهستيرية، كما هو طريقة للنساء في التعامل مع ضغوط حياتهن. ويتم عبر تحقيق طلبات الأسياد، كتخصيص طعام وموسيقى وأغانٍ وعطور وبخور وملابس وغيرها لهذا الطقس، وتحضر الطقس الكثير من النساء اللاتي يلعبن أدواراً مختلفة؛ مثل شيخة الزار ولها مساعدات ونائبة تتولى مراقبة الحفل وضبطه، وحبوبة الكانون المسؤولة من الطعام وغيرهن. وهناك اختلاف في أنواع احتفالات الزار تسمى خيوط التي تقام مع اختلاف الطقوس، حسب نوع أو جنس الجن صاحب المس، كخيط الزرق أو السود، وتكون "المزيورات" في خيط الزرق من قبائل غرب إفريقيا، مثل الهوسا والفلاتة وجنوب السودان، ويكون طعامهم وموسيقاهم وملابسهم بحسب عاداتهم الأصلية. وبصورة مشابهة خيط الحبش وخيط الخواجات وغيرهم.
بعيداً عن عالم الجن والسحر يفضل المسلمون طلب الحاجة من الله سبحانه وتعالى من غير وسيط، والتبرك بالكرامة وهي الصدقة، أيضاً تُسمى البركة وهي ممارسة اجتماعية تؤديها المجتمعات بنية التقرب والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى ورفع البلاء أو تخفيف المصائب أو الشكر على نعمة أو فرح أو استجابة دعوة. كرامة البليلة عبارة عن وجبة يتم إعدادها وتوزيعها للمحتاجين والمساكين، وارتبطت أعراف معينة بكرامة البليلة أهمها أن يتم طبخ البليلة في إناء أو قِدر مفتوح حيث يعتقد أن بوخ البليلة (البُخار) يصعد إلى السماء ويأخذ معه كل الشر والأمراض والبلاء، إضافة إلى الأدعية التي يتم ترديدها أثناء الطبخ والتوزيع، ومن الشائع أن دعوة الكرامة لا تُرد أو تُرفض وكل إنسان يصادف البليلة يجب أن يَحظى بنصيبٍ منها ولو القليل للتبرُّك، لذا أُطلق عليها اسم البركة، اعتقاداً منهم في أهميتها.
تظل رغبة البشر في التواصل مع عوالم أخرى غير مرئية أمر قديم ومشترك بين أغلب شعوب العالم، لكلٍّ منهم دلالات وأغراض.
صورة الغلاف: حولية الشيخ حمد النيل في أم درمان © يوسف الشيخ

بوق

بوق
بوق مركب يتكون من قرن ظَبْي مع جزء إضافي مصمم بالشمع. يأخذ الامتداد شكل أنبوب ضيق يتمدد في منتصف الطريق ليشكل وعاءًا بيضاويًا قبل تضييقه إلى أنبوب قصير. تم تزيين الوصلة بين القرن والشمع ببذور عين العفريت.
من تراث قبيلة النوبة
تاريخ الاستحواذ: ١٩٢٨
© أمناء المتحف البريطاني
بوق مركب يتكون من قرن ظَبْي مع جزء إضافي مصمم بالشمع. يأخذ الامتداد شكل أنبوب ضيق يتمدد في منتصف الطريق ليشكل وعاءًا بيضاويًا قبل تضييقه إلى أنبوب قصير. تم تزيين الوصلة بين القرن والشمع ببذور عين العفريت.
من تراث قبيلة النوبة
تاريخ الاستحواذ: ١٩٢٨
© أمناء المتحف البريطاني

بوق مركب يتكون من قرن ظَبْي مع جزء إضافي مصمم بالشمع. يأخذ الامتداد شكل أنبوب ضيق يتمدد في منتصف الطريق ليشكل وعاءًا بيضاويًا قبل تضييقه إلى أنبوب قصير. تم تزيين الوصلة بين القرن والشمع ببذور عين العفريت.
من تراث قبيلة النوبة
تاريخ الاستحواذ: ١٩٢٨
© أمناء المتحف البريطاني