المكان المبارك
بدأت عن غير قصد في مراقبة الناس من حولي وحاولت فهمهم وكيف أحبوا بلدهم لدرجة أنهم كانوا يتوقون إلى طينه.
/ الاجابات
أذكر عندما كنت في الجامعة، قالت لي زميلتي فجأةً ودون مقدّمات: (آخ نفسي في طين بحر )، كان شيء غريب بالنسبة لي آنذاك، فلقد كنت استكشف السودان والسودانيين لأول مرة فأنا "شهادة عربية" كما يقولون، كنت أعرف عن السودان فقط قريتي إشكيت جنوب قرية ١٣ في ولاية كسلا ولم أكن أعرف الخرطوم جيداً.
ولكن بعد أن قالت زميلتي تلك العبارة، بدأت لا شعوريّاً أراقب السودانيين وأحاول فهم طبيعتهم؛ كيف يحبون وطنهم بشغف يصل إلى حد اشتهاء طين أرضه، كنت أحسدهم على هذا الارتباط العميق بالسودان، وقد أصبح هذا الشعور دافعاً من دوافع تأسيسي لمشروع "شورتي: روح المكان"، الذي يسعى لتعريف السودانيين بالسودان وتنوعه الثقافي والبيئي والإثني، من خلال الفعاليات والرحلات الثقافية التي نستكشف فيها مكونات هذا الوطن من موسيقى، وتراث، وتاريخ.
كانت البداية في عام ٢٠١٦، ومنذ ذلك الحين، قمنا بتنظيم أكثر من ٥٤ فعالية داخل الخرطوم وخارجها، وزرنا أكثر من ٣٠ قرية ومدينة في ١١ ولاية. في كل قرية أو مدينة كنا نزورها كانت تضيف إلى مجتمع "شورتي" المزيد من الأعضاء حتى أصبحنا قرية صغيرة تمثل السودان لا تلتزم بحدود قرانا ومدننا بل تجعلنا أكثر ارتباطًا بتراثنا المختلف وأرض السودان ككل، ومع كل شخص جديد أقابله أصبح مفهومي عن الارتباط بالأرض يتشعب.
أذكر أنه في إحدى فعاليات شورتي تحدثت مع رجل من إحدى مناطق جبل مرة، أخبرني عن عادة قديمة في عهد آبائه، حيث كانوا يزرعون شجرة لكل مولود جديد، ويطلقون عليها اسم الطفل. وكأنهم بذلك يربطون أبناءهم بالأرض، ليغرسوا فيهم شعور الانتماء والارتباط بالجذور. شعرت حينها أن السودانيين لا يحبون أرضهم فقط، بل يحملون ارتباطًا خاصًا بأسلافهم الذين دفنوا فيها. وهذا ما يتجلى في تركيبتنا الاجتماعية والعائلية؛ حيث نُولي أهمية كبيرة لمباركات الأسلاف ودعواتهم.
ومن خلال رحلاتنا داخل السودان في شماله وشرقه وغربه وجنوبه وحتى وسطه وجدت أن أغلب المناطق أهلها وسكانها مرتبطين بأسلافهم جداً ودائماً ما يرغبون بشدة في مباركاتهم من بعد الله؛ ففي أولى رحلاتنا لمنطقة نوري تحديداً في جزيرة ترج مكان مسجد وضريح أولاد جابر، توجد هناك مجموعة من الأضرحة لأولاد جابر الذين يُعتبرون من أوائل من تعلموا على يد الشيخ غلام الدين بن عائد صاحب أول خلوة في دنقلا. ولكن ما كان ملفتاً للنظر ضريح شيخة ليس عليها قبة وإنما يحيطها سياج من حديد، وليس هذا الملفت إنما كان منظر سعف النخل المربوطة على السياج بصورة عشوائية، وعندما سألت عن سبب هذه العقد من سعف النخيل أخبرني دليلنا أن من يرغب في الزواج يأتي هنا ويربط سعفة ويدعو الله أن يتمّم له نصف دينه، تذكرت جسر العشاق في فرنسا حيث يعلّق العشاق الأقفال كرمز لارتباطهم.
وعندما اتجهنا شمالاً مع اللحن الجميل الذي يصدره سليل الفراديس، وهو قادم من الشلال السادس إلى الشلال الثالث، هناك تحديداً يتوسد أرض تمبس "أوكجي ننوندي"، وهي تعني الرجل النبيل أو الفارس كما أخبرونا، ولكن كترجمة حرفية تعني الذكر الفحل، يرقد هناك ذلك التمثال الذي تزوره الكثير من نساء ورجال المنطقة ليس فقط كوجهة سياحية، وإنما كمصدر للأمل لهم للحصول على الذرية، نعم، فذلك التمثال مجهول الهوية ارتبط منذ آلاف السنين بالذرية والنسل، وهناك روايات كثيرة حوله منها أنه يرمز للخصوبة وأنه مصدر أمل لمن يبحث عن الذرية، ولذلك عادة ما يوجد لديه الكثير من الزوار المحليين، فنحن السودانيين دائماً ما نجد في الإرث ملاذًا لنا عندما نشعر باليأس أو تمتلئ قلوبنا وأرواحنا بالحزن والهم.
عندما تقوم بزيارة موقع تمبس سوف تجد بعض النقوش على الأحجار الجرانيتية الرمادية، ويقال إن هذا المكان كان محجره، حيث تمت فيه صناعة أغلب أعمدة المعابد وبعدها كانت تُنقل عن طريق النيل على القوارب، ويقال إن أنشطة المحجر بدأت مع الأسرة الثامنة عشر. كما يقال إن تمثال أوكجنوندي إنه ربما يكون للملك تحتمس الثالث، حتى أن اسم المنطقة تمبس مُحرَّف من اسم تحتمس.
وفي ارتحالنا شرقاً، تحديداً مدينة كسلا بين أحضان جبل توتيل، وجدت على شبابيك مسجد السيد الحسن الكثير من رزم الشعر الموجودة بين لبنات الجدار، فهناك أدركت أنه حتى بعد الزواج وبعد أن يرزقهم الله الذرية كذلك ما زال يملأ قلب المريدين القلق من أن يكون النسل الجديد صاحب روح وقلب طيبين، لذلك يقومون بزيارة ضريح ومسجد السيد الحسن بعد حلق شعر أطفالهم، وبعد ذلك يحشون الشعر بين جدران المسجد مع دعوات صادقات من القلب أن يجعل الله نسلهم نسل خير.
إن قصة صاحب المقام قصة عجيبة، يقال إنه يُسمَّى بالشيخ أب جلابية، وذلك نسبة لواحدة من كراماته، حيث أنه كان لديه جلابية واحدة فقط، ودائماً تكون على مقاسه، منذ أن كان طفلاً كانت هذه الجلابية تكبر معه، وهنا عرفت الأم أن طفلها لن يكون شخصاً عادياً فهو ابن السيد محمد عثمان الميرغني مؤسس الطريقة الختمية في السودان.
من خلال رحلات "شورتي" أدركت أن السودانيين يجدون في إرثهم ملاذًا روحيًا، يربطهم بأرضهم وأسلافهم ويمنحهم القوة والأمل في مواجهة الحياة. كل مكان نزوره يحمل قصصًا وتراثًا يجعلنا نقدر هذا الوطن أكثر، ونشعر بالامتنان لهذا الإرث الذي يجمعنا.
صور الغلاف ومعرض الصور: مسجد وضريح السيد محمد الحسن أبو جلابية، ابن مؤسس الطريقة الختمية الصوفية © محمد عثمان، كسلا
أذكر عندما كنت في الجامعة، قالت لي زميلتي فجأةً ودون مقدّمات: (آخ نفسي في طين بحر )، كان شيء غريب بالنسبة لي آنذاك، فلقد كنت استكشف السودان والسودانيين لأول مرة فأنا "شهادة عربية" كما يقولون، كنت أعرف عن السودان فقط قريتي إشكيت جنوب قرية ١٣ في ولاية كسلا ولم أكن أعرف الخرطوم جيداً.
ولكن بعد أن قالت زميلتي تلك العبارة، بدأت لا شعوريّاً أراقب السودانيين وأحاول فهم طبيعتهم؛ كيف يحبون وطنهم بشغف يصل إلى حد اشتهاء طين أرضه، كنت أحسدهم على هذا الارتباط العميق بالسودان، وقد أصبح هذا الشعور دافعاً من دوافع تأسيسي لمشروع "شورتي: روح المكان"، الذي يسعى لتعريف السودانيين بالسودان وتنوعه الثقافي والبيئي والإثني، من خلال الفعاليات والرحلات الثقافية التي نستكشف فيها مكونات هذا الوطن من موسيقى، وتراث، وتاريخ.
كانت البداية في عام ٢٠١٦، ومنذ ذلك الحين، قمنا بتنظيم أكثر من ٥٤ فعالية داخل الخرطوم وخارجها، وزرنا أكثر من ٣٠ قرية ومدينة في ١١ ولاية. في كل قرية أو مدينة كنا نزورها كانت تضيف إلى مجتمع "شورتي" المزيد من الأعضاء حتى أصبحنا قرية صغيرة تمثل السودان لا تلتزم بحدود قرانا ومدننا بل تجعلنا أكثر ارتباطًا بتراثنا المختلف وأرض السودان ككل، ومع كل شخص جديد أقابله أصبح مفهومي عن الارتباط بالأرض يتشعب.
أذكر أنه في إحدى فعاليات شورتي تحدثت مع رجل من إحدى مناطق جبل مرة، أخبرني عن عادة قديمة في عهد آبائه، حيث كانوا يزرعون شجرة لكل مولود جديد، ويطلقون عليها اسم الطفل. وكأنهم بذلك يربطون أبناءهم بالأرض، ليغرسوا فيهم شعور الانتماء والارتباط بالجذور. شعرت حينها أن السودانيين لا يحبون أرضهم فقط، بل يحملون ارتباطًا خاصًا بأسلافهم الذين دفنوا فيها. وهذا ما يتجلى في تركيبتنا الاجتماعية والعائلية؛ حيث نُولي أهمية كبيرة لمباركات الأسلاف ودعواتهم.
ومن خلال رحلاتنا داخل السودان في شماله وشرقه وغربه وجنوبه وحتى وسطه وجدت أن أغلب المناطق أهلها وسكانها مرتبطين بأسلافهم جداً ودائماً ما يرغبون بشدة في مباركاتهم من بعد الله؛ ففي أولى رحلاتنا لمنطقة نوري تحديداً في جزيرة ترج مكان مسجد وضريح أولاد جابر، توجد هناك مجموعة من الأضرحة لأولاد جابر الذين يُعتبرون من أوائل من تعلموا على يد الشيخ غلام الدين بن عائد صاحب أول خلوة في دنقلا. ولكن ما كان ملفتاً للنظر ضريح شيخة ليس عليها قبة وإنما يحيطها سياج من حديد، وليس هذا الملفت إنما كان منظر سعف النخل المربوطة على السياج بصورة عشوائية، وعندما سألت عن سبب هذه العقد من سعف النخيل أخبرني دليلنا أن من يرغب في الزواج يأتي هنا ويربط سعفة ويدعو الله أن يتمّم له نصف دينه، تذكرت جسر العشاق في فرنسا حيث يعلّق العشاق الأقفال كرمز لارتباطهم.
وعندما اتجهنا شمالاً مع اللحن الجميل الذي يصدره سليل الفراديس، وهو قادم من الشلال السادس إلى الشلال الثالث، هناك تحديداً يتوسد أرض تمبس "أوكجي ننوندي"، وهي تعني الرجل النبيل أو الفارس كما أخبرونا، ولكن كترجمة حرفية تعني الذكر الفحل، يرقد هناك ذلك التمثال الذي تزوره الكثير من نساء ورجال المنطقة ليس فقط كوجهة سياحية، وإنما كمصدر للأمل لهم للحصول على الذرية، نعم، فذلك التمثال مجهول الهوية ارتبط منذ آلاف السنين بالذرية والنسل، وهناك روايات كثيرة حوله منها أنه يرمز للخصوبة وأنه مصدر أمل لمن يبحث عن الذرية، ولذلك عادة ما يوجد لديه الكثير من الزوار المحليين، فنحن السودانيين دائماً ما نجد في الإرث ملاذًا لنا عندما نشعر باليأس أو تمتلئ قلوبنا وأرواحنا بالحزن والهم.
عندما تقوم بزيارة موقع تمبس سوف تجد بعض النقوش على الأحجار الجرانيتية الرمادية، ويقال إن هذا المكان كان محجره، حيث تمت فيه صناعة أغلب أعمدة المعابد وبعدها كانت تُنقل عن طريق النيل على القوارب، ويقال إن أنشطة المحجر بدأت مع الأسرة الثامنة عشر. كما يقال إن تمثال أوكجنوندي إنه ربما يكون للملك تحتمس الثالث، حتى أن اسم المنطقة تمبس مُحرَّف من اسم تحتمس.
وفي ارتحالنا شرقاً، تحديداً مدينة كسلا بين أحضان جبل توتيل، وجدت على شبابيك مسجد السيد الحسن الكثير من رزم الشعر الموجودة بين لبنات الجدار، فهناك أدركت أنه حتى بعد الزواج وبعد أن يرزقهم الله الذرية كذلك ما زال يملأ قلب المريدين القلق من أن يكون النسل الجديد صاحب روح وقلب طيبين، لذلك يقومون بزيارة ضريح ومسجد السيد الحسن بعد حلق شعر أطفالهم، وبعد ذلك يحشون الشعر بين جدران المسجد مع دعوات صادقات من القلب أن يجعل الله نسلهم نسل خير.
إن قصة صاحب المقام قصة عجيبة، يقال إنه يُسمَّى بالشيخ أب جلابية، وذلك نسبة لواحدة من كراماته، حيث أنه كان لديه جلابية واحدة فقط، ودائماً تكون على مقاسه، منذ أن كان طفلاً كانت هذه الجلابية تكبر معه، وهنا عرفت الأم أن طفلها لن يكون شخصاً عادياً فهو ابن السيد محمد عثمان الميرغني مؤسس الطريقة الختمية في السودان.
من خلال رحلات "شورتي" أدركت أن السودانيين يجدون في إرثهم ملاذًا روحيًا، يربطهم بأرضهم وأسلافهم ويمنحهم القوة والأمل في مواجهة الحياة. كل مكان نزوره يحمل قصصًا وتراثًا يجعلنا نقدر هذا الوطن أكثر، ونشعر بالامتنان لهذا الإرث الذي يجمعنا.
صور الغلاف ومعرض الصور: مسجد وضريح السيد محمد الحسن أبو جلابية، ابن مؤسس الطريقة الختمية الصوفية © محمد عثمان، كسلا