البيت السوداني الذي شيدته الصوفية

إلى الوقت الراهن يؤكد ميدان المولد المشيد برؤية الصوفية على أنه من أكثر الأماكن تحررا وسماحة في الثقافة السودانية. وهو على المستوى المعماري يعد مكانا مفتوحا يشيد كيفما اتفق بخيام القماش المتنوعة.

اقرأ المزيد
معرض الصور
No items found.
Pointing at Speaker
نُشر بتاريخ
21/1/25
المؤلف:
يوسف حمد
المحرر:
سارة النقر
المحرر:
سارة النقر
مأمون التلب
المترجم:
المترجم:
هند عبد الباقي عبد القادر الزبير
النتيجة

  /  

العب مرة أخرى

  /   الاجابات


لقرون مضت عاش هذا البلد بوصفه خليطا من الأجناس، تشغله روح البداوة بكل ما تقتضيه البداوة من عصبية والتحام. كان ذلك حتى قبل أن يأخذ اسمه الخلدوني: السودان في مقابل البيضان.

تخللت ملامحه العامة روح التدين المسيحي، لكن هذا الأمر تغير تدريجيا لصالح ديانة أخرى، هي الإسلام الذي غزا أرواح الناس وفاض إلى مجالهم العمومي الكبير.

في المجال العمومي البصري، على سبيل المثال، تشكل ساحة المولد (ميدان المولد) ملمحا من ملامح المدن السودانية الحديثة، خاصة الكبرى منها، وهو مكان مقترح بواسطة الصوفية. وعلى سبيل المثال، لا تكتمل قراءة ديوان الأدب العربي في السودان دون المرور بهذا المكان الاحتفالي المتسامح المقدس:

"فهذا اليوم ميدان التصابي

به تحلو الصبابة للشجي

كأن به وجوه الناس بشرا رياض جادها صوب الولي."

(عبدالله عبد الرحمن الضرير)

إلى الوقت الراهن يؤكد ميدان المولد المشيد برؤية الصوفية على أنه من أكثر الأماكن تحررا وسماحة في الثقافة السودانية. وهو على المستوى المعماري يعد مكانا مفتوحا يشيد كيفما اتفق بخيام القماش المتنوعة.

بنهايات القرن الثالث عشر الميلادي وبداية القرن الرابع عشر دخل الدين الإسلامي إلى هذا البلد وكفت ممكلة المقرة عن اعتناق الديانة المسيحية، وتحولت، بالمقابل، إلى إمارات صغيرة ذات سمات عربية. وبحدود بدايات القرن السادس عشر تخلفت مملكة علوة المسيحية أيضا عن كونها مسيحية؛ وبذا استقرت الحدود الجنوبية للإسلام على طول الخط ١٣ درجة شمالا.

خلال ثلاثة قرون لاحقة، تمت السيطرة للإسلام، وكان هذا هو الوقت الذي أسست فيه العائلات الدينية الكبيرة نفسها، وانتشرت سمات هذا الدين الجديد في المجال العمومي للبلاد، وأصبحت زوايا الطرق الصوفية نواة لحضارة إسلامية بطريقة ما، كما ذكر المبشِّر الإنجليزي سبنسر تريمنغهام في كتاب مهم عن (تاريخ الإسلام في السودان). وفي الواقع، ما ميز تديُّن السودانيين على الدوام هو طابعه التصوفي، ويغلب عليه، بشكل أكثر دقة، مزاجه الحجازي والمغاربي.

بمرور الوقت، ترسخت في الوجدان مبادئ (أممية صوفية) جعلت من بغداد العراق مركزا لـ (القوم)، ومن الحجاز مركزاً لـ (الكون). وعلى هذا الأساس الجديد تشذبت القبلية الأولى، وأضحت الطريقة الصوفية قاسما مشتركا وعقدا اجتماعيا متينا.

المتتبع لخريطة التصوف في السودان يجد أن الطريقة القادرية دخلت إلى السودان عن طريق الشيخ، تاج الدين البهاري، الذي زار سلطنة سنار في عام ١٥٧٧م. أما الشيخ أحمد البشير الطيب (متوفي ١٨٢٣م) فقد أدخل الطريقة السمانية لتكون إلى جانب الطريقة القادرية والشاذلية.

انتشرت الطريقة السمانية في أواخر العهد التركي، وغدت طريقة جماهيرية واسعة الانتشار، ومن رحمها خرجت الثورة المهدية. في السياق نفسه وفد إلى السودان السيد محمد عثمان الميرغني الكبير، إذ أرسله أستاذه، أحمد بن إدريس في العام ١٨١٨ إلى السودان، فأسس الطريقة الختمية، وصارت طريقة كبيرة ذات تنظيم مركزي.

استقطبت الطريقة الميرغنية غالبية عظمى من أهل الشمال والشرق وكردفان، ولها امتدادات أخرى عميقة في دولة إرتريا الحالية ومصر وشبه الجزيرة العربية.

لم تحظ الطريقة القادرية بمركز واحد، وأنشأت أفرعا عديدة في أنحاء القطر، كان لها، بالمقابل، تأثيرها الواضح في الحياة الاجتماعية. أشهر فروعها (فرع العركيين) بحواضرهم العديدة في الجزيرة، و(فرع الكباشي) بشمال الخرطوم، لمؤسسه الشيخ إبراهيم الكباشي (متوفي ١٨٧٠)، وهو عركي النسب، عاصرَ الشيخ أحمد الجعلي مؤسس (فرع كدباس)، والشيخ العبيد ود بدر (متوفي ١٨٨٤) مؤسس (فرع البادراب) الذي تمدد في منطقة البطانة وأواسط السودان.

الطريقة التجانية، وهي منبثقة عن الطريقة الشاذلية والخلوتية، أدخلها إلى السودان الشيخ محمد الشنقيطي في العام ١٨٤٧م. اشتهر مركزها الأول في خلاوي (الغُبُش) إلى الغرب من مدينة بربر بولاية نهر النيل. وكانت هي الطريقة الرئيسة في سلطنة الفور. وانبثقت عن الطريقة الختمية الطريقة الإسماعيلية التي أسسها الشيخ إسماعل الولي (متوفي ١٨٦٣)، وكذلك أنتجت الطريقة الشاذلية الطريقة المجذوبية. وكذلك ذاع صيت الطريقة البرهانية في الخرطوم ومصر وألمانيا وبين مسلمي أوروبا.

هذه الطرق، التي تكاد تغطي كافة أنحاء السودان، تهيأت تاريخياً للاندغام فى القبائل من خلال اعتداد مريديها بولائهم الروحي لآل البيت.. ورويداً رويداً تلاشت الفوارق، فلا تكاد تميِّز بين ما هو قبلي وما هو طرقي روحي.

كان التصوف في البدء تصوفا عفويا، وكان بمثابة عقد اجتماعي مشترك بين الدولة والمجتمع. على سبيل المثال، كانت سلطنة سنار (١٥٠٤- ١٩٢١)، حقبة طويلة من التصوف العفوي واسع الانتشار، وقد أرخ له الشيخ محمد ود ضيف الله في كتاب مشهور هو (طبقات ود ضيف الله). لكن مع هذا السكون البادئ في مزاج المتصوفة السودانيين إلا أن الإمام محمد أحمد المهدي، على سبيل المثال، تمكن من تثوير الصوفية وأنتج منها دولة استمرت لمدة 13 سنة (١٨٨٥- ١٨٩٨).

بالعودة إلى الفضاء العمومي فوق خط ١٣ درجة شمالا. يرتاد الناس ساحة المولد لمدة ١٢ يوما في كل عام هجري، ضاجين بالطبول والتهاليل والأزياء ذات الألوان. وبذا، تعد ساحة المولد ساحة لاختبار التنوع في كل شيء: الناس وأنواعهم، والألوان والأصوات والأضواء والآراء والأفكار. إنها ساحة لشرعنة وجود الجميع في الفضاءات العامة والكل مشارك في صناعة هذا الفضاء، لأنه يصنع معنى حياتهم في اللحظة التي هم فيها. والقارئ لكتاب (المسيد) للطيب محمد الطيب يلاحظ فضاء عموميا آخر إلى جانب ميدان المولد، هو (المسيد)، ويقف أيضا على تأثير هذا المكان بوصفه مؤسسة "ذات قدرة باهرة على إزالة الحواجز العرقية والقبلية والجهوية".

صورة الغلاف © ساري عمر، احتفالات الصوفية بالمولد النبوي في مسجد «ميدان»الخليفة. أم درمان.

No items found.
نُشر بتاريخ
21/1/25
المؤلف:
يوسف حمد
Editor
سارة النقر
مأمون التلب
المحرر:
سارة النقر
مأمون التلب
المترجم:
Translator
هند عبد الباقي عبد القادر الزبير


لقرون مضت عاش هذا البلد بوصفه خليطا من الأجناس، تشغله روح البداوة بكل ما تقتضيه البداوة من عصبية والتحام. كان ذلك حتى قبل أن يأخذ اسمه الخلدوني: السودان في مقابل البيضان.

تخللت ملامحه العامة روح التدين المسيحي، لكن هذا الأمر تغير تدريجيا لصالح ديانة أخرى، هي الإسلام الذي غزا أرواح الناس وفاض إلى مجالهم العمومي الكبير.

في المجال العمومي البصري، على سبيل المثال، تشكل ساحة المولد (ميدان المولد) ملمحا من ملامح المدن السودانية الحديثة، خاصة الكبرى منها، وهو مكان مقترح بواسطة الصوفية. وعلى سبيل المثال، لا تكتمل قراءة ديوان الأدب العربي في السودان دون المرور بهذا المكان الاحتفالي المتسامح المقدس:

"فهذا اليوم ميدان التصابي

به تحلو الصبابة للشجي

كأن به وجوه الناس بشرا رياض جادها صوب الولي."

(عبدالله عبد الرحمن الضرير)

إلى الوقت الراهن يؤكد ميدان المولد المشيد برؤية الصوفية على أنه من أكثر الأماكن تحررا وسماحة في الثقافة السودانية. وهو على المستوى المعماري يعد مكانا مفتوحا يشيد كيفما اتفق بخيام القماش المتنوعة.

بنهايات القرن الثالث عشر الميلادي وبداية القرن الرابع عشر دخل الدين الإسلامي إلى هذا البلد وكفت ممكلة المقرة عن اعتناق الديانة المسيحية، وتحولت، بالمقابل، إلى إمارات صغيرة ذات سمات عربية. وبحدود بدايات القرن السادس عشر تخلفت مملكة علوة المسيحية أيضا عن كونها مسيحية؛ وبذا استقرت الحدود الجنوبية للإسلام على طول الخط ١٣ درجة شمالا.

خلال ثلاثة قرون لاحقة، تمت السيطرة للإسلام، وكان هذا هو الوقت الذي أسست فيه العائلات الدينية الكبيرة نفسها، وانتشرت سمات هذا الدين الجديد في المجال العمومي للبلاد، وأصبحت زوايا الطرق الصوفية نواة لحضارة إسلامية بطريقة ما، كما ذكر المبشِّر الإنجليزي سبنسر تريمنغهام في كتاب مهم عن (تاريخ الإسلام في السودان). وفي الواقع، ما ميز تديُّن السودانيين على الدوام هو طابعه التصوفي، ويغلب عليه، بشكل أكثر دقة، مزاجه الحجازي والمغاربي.

بمرور الوقت، ترسخت في الوجدان مبادئ (أممية صوفية) جعلت من بغداد العراق مركزا لـ (القوم)، ومن الحجاز مركزاً لـ (الكون). وعلى هذا الأساس الجديد تشذبت القبلية الأولى، وأضحت الطريقة الصوفية قاسما مشتركا وعقدا اجتماعيا متينا.

المتتبع لخريطة التصوف في السودان يجد أن الطريقة القادرية دخلت إلى السودان عن طريق الشيخ، تاج الدين البهاري، الذي زار سلطنة سنار في عام ١٥٧٧م. أما الشيخ أحمد البشير الطيب (متوفي ١٨٢٣م) فقد أدخل الطريقة السمانية لتكون إلى جانب الطريقة القادرية والشاذلية.

انتشرت الطريقة السمانية في أواخر العهد التركي، وغدت طريقة جماهيرية واسعة الانتشار، ومن رحمها خرجت الثورة المهدية. في السياق نفسه وفد إلى السودان السيد محمد عثمان الميرغني الكبير، إذ أرسله أستاذه، أحمد بن إدريس في العام ١٨١٨ إلى السودان، فأسس الطريقة الختمية، وصارت طريقة كبيرة ذات تنظيم مركزي.

استقطبت الطريقة الميرغنية غالبية عظمى من أهل الشمال والشرق وكردفان، ولها امتدادات أخرى عميقة في دولة إرتريا الحالية ومصر وشبه الجزيرة العربية.

لم تحظ الطريقة القادرية بمركز واحد، وأنشأت أفرعا عديدة في أنحاء القطر، كان لها، بالمقابل، تأثيرها الواضح في الحياة الاجتماعية. أشهر فروعها (فرع العركيين) بحواضرهم العديدة في الجزيرة، و(فرع الكباشي) بشمال الخرطوم، لمؤسسه الشيخ إبراهيم الكباشي (متوفي ١٨٧٠)، وهو عركي النسب، عاصرَ الشيخ أحمد الجعلي مؤسس (فرع كدباس)، والشيخ العبيد ود بدر (متوفي ١٨٨٤) مؤسس (فرع البادراب) الذي تمدد في منطقة البطانة وأواسط السودان.

الطريقة التجانية، وهي منبثقة عن الطريقة الشاذلية والخلوتية، أدخلها إلى السودان الشيخ محمد الشنقيطي في العام ١٨٤٧م. اشتهر مركزها الأول في خلاوي (الغُبُش) إلى الغرب من مدينة بربر بولاية نهر النيل. وكانت هي الطريقة الرئيسة في سلطنة الفور. وانبثقت عن الطريقة الختمية الطريقة الإسماعيلية التي أسسها الشيخ إسماعل الولي (متوفي ١٨٦٣)، وكذلك أنتجت الطريقة الشاذلية الطريقة المجذوبية. وكذلك ذاع صيت الطريقة البرهانية في الخرطوم ومصر وألمانيا وبين مسلمي أوروبا.

هذه الطرق، التي تكاد تغطي كافة أنحاء السودان، تهيأت تاريخياً للاندغام فى القبائل من خلال اعتداد مريديها بولائهم الروحي لآل البيت.. ورويداً رويداً تلاشت الفوارق، فلا تكاد تميِّز بين ما هو قبلي وما هو طرقي روحي.

كان التصوف في البدء تصوفا عفويا، وكان بمثابة عقد اجتماعي مشترك بين الدولة والمجتمع. على سبيل المثال، كانت سلطنة سنار (١٥٠٤- ١٩٢١)، حقبة طويلة من التصوف العفوي واسع الانتشار، وقد أرخ له الشيخ محمد ود ضيف الله في كتاب مشهور هو (طبقات ود ضيف الله). لكن مع هذا السكون البادئ في مزاج المتصوفة السودانيين إلا أن الإمام محمد أحمد المهدي، على سبيل المثال، تمكن من تثوير الصوفية وأنتج منها دولة استمرت لمدة 13 سنة (١٨٨٥- ١٨٩٨).

بالعودة إلى الفضاء العمومي فوق خط ١٣ درجة شمالا. يرتاد الناس ساحة المولد لمدة ١٢ يوما في كل عام هجري، ضاجين بالطبول والتهاليل والأزياء ذات الألوان. وبذا، تعد ساحة المولد ساحة لاختبار التنوع في كل شيء: الناس وأنواعهم، والألوان والأصوات والأضواء والآراء والأفكار. إنها ساحة لشرعنة وجود الجميع في الفضاءات العامة والكل مشارك في صناعة هذا الفضاء، لأنه يصنع معنى حياتهم في اللحظة التي هم فيها. والقارئ لكتاب (المسيد) للطيب محمد الطيب يلاحظ فضاء عموميا آخر إلى جانب ميدان المولد، هو (المسيد)، ويقف أيضا على تأثير هذا المكان بوصفه مؤسسة "ذات قدرة باهرة على إزالة الحواجز العرقية والقبلية والجهوية".

صورة الغلاف © ساري عمر، احتفالات الصوفية بالمولد النبوي في مسجد «ميدان»الخليفة. أم درمان.