اللغة كأرشيف للتراث
تُخترع اللغات وتُضاف إليها كل يوم كلمات وتعبيرات جديدة لمواكبة العصر والتوجهات الجديدة. ومع نمو أجزاء من اللغة، تموت أجزاء أخرى، وتأخذ معها أي ترميز ثقافي كانت تحمله.

قص الأتر

قص الأتر
[وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ]
الآية 11 من سورة القصص.
قصّ الأَتَر (الأَتَر) هي مهنة متوارثة منذ قديم الزمان لا يُعرف متى بدأ تاريخ ممارستها بالتحديد، ربما منذ فترات تاريخية موغلة في القدم، إلى أن أصبح قصّاص الأَتَر وظيفة مُعترف بها وموظفاً معتمداً لدى البوليس "الشرطة". فقد ارتبط قص الأَتَر بكشف حقيقة السرقات بأنواعها سواء سرقات منازل أو مؤسسات حكومية أو ماشية.
قصّاص الأَتَر هو شخص يتمتع بقوة الملاحظة وبمهارة عالية في معرفة أوصاف السارق، سواء كان طويلاً أم قصيراً، سميناً أم ضعيفاً، أو حتى إن كان به عيب خُلقي (أعرج أعور أو غيره) وحجم ومقاس الرجل. غالباً تكون هذه المهنة متوارثة، يعلّمها الآباء لأبنائهم، أو غير متوارثة نتيجة لفراسة وذكاء وقوة ملاحظة القصّاص.
القصّاص له اعتبار خاص ومهابة في المجتمع. عند اكتشاف سرقة ما وقبل استدعاء قصاص الأَتَر، يقوم أصحاب السرقة بالحفاظ على الأتَر بتغطيته بوعاء كبير للاحتفاظ به إلى حين حضور القصّاص، خاصة في القرى والمناطق شديدة الرياح.
من القصص المشهورة في قص الأَتر، الإعرابي الذي فقد جمله، صادفه قاصٕ للأتَر فسأله عدداً من الأسئلة: هل الجمل الذي تملكه أعور؟ فقال له نعم، فسأله هل الجمل أعرج؟ فقال له نعم، فسأله صاحب الجمل أين وجدته؟، فردَّ عليه: أنا لم أجده ولم أرَه، ولكن عرفته من أَتَره على الأرض، أعرج لأن أَتَره عميق في الأرض في جهة واحدة، وأعور لأنه كان يأكل الحشائش من اتجاه ويترك الآخر، فأمره أن يتبع الأَتر إلى أن وجد جمله.
أما مدينة الأبيض فقد كانت تعتمد على قصاص الأتَر في كشف السرقات حتى وقت قريب، حيث تم اكتشاف العديد من جرائم السرقة في مدينة الأبيض، ومنها سرقات غامضة عجزت الشرطة عن كشفها، فمعلومات قصاص الأَتَر تكون دقيقة على الرغم من تطور أسلوب الحرامية وطرقهم المختلفة في تضليل القصاص، مثلاً تغيير طريقة المشي أو قلب الحذاء أو غيره، ولازالت هذه المهنة مستمرة في القرى والأرياف حتى يومنا هذا.
تم كتابة هذه المقالة بواسطة أماني يوسف بشير بناءً على مقابلة شخصية مع الأستاذ/ يوسف بشير إدريس. صباح السبت 11/ يناير / 2025م*.
صورة الغلاف © أماني يوسف بشير
[وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ]
الآية 11 من سورة القصص.
قصّ الأَتَر (الأَتَر) هي مهنة متوارثة منذ قديم الزمان لا يُعرف متى بدأ تاريخ ممارستها بالتحديد، ربما منذ فترات تاريخية موغلة في القدم، إلى أن أصبح قصّاص الأَتَر وظيفة مُعترف بها وموظفاً معتمداً لدى البوليس "الشرطة". فقد ارتبط قص الأَتَر بكشف حقيقة السرقات بأنواعها سواء سرقات منازل أو مؤسسات حكومية أو ماشية.
قصّاص الأَتَر هو شخص يتمتع بقوة الملاحظة وبمهارة عالية في معرفة أوصاف السارق، سواء كان طويلاً أم قصيراً، سميناً أم ضعيفاً، أو حتى إن كان به عيب خُلقي (أعرج أعور أو غيره) وحجم ومقاس الرجل. غالباً تكون هذه المهنة متوارثة، يعلّمها الآباء لأبنائهم، أو غير متوارثة نتيجة لفراسة وذكاء وقوة ملاحظة القصّاص.
القصّاص له اعتبار خاص ومهابة في المجتمع. عند اكتشاف سرقة ما وقبل استدعاء قصاص الأَتَر، يقوم أصحاب السرقة بالحفاظ على الأتَر بتغطيته بوعاء كبير للاحتفاظ به إلى حين حضور القصّاص، خاصة في القرى والمناطق شديدة الرياح.
من القصص المشهورة في قص الأَتر، الإعرابي الذي فقد جمله، صادفه قاصٕ للأتَر فسأله عدداً من الأسئلة: هل الجمل الذي تملكه أعور؟ فقال له نعم، فسأله هل الجمل أعرج؟ فقال له نعم، فسأله صاحب الجمل أين وجدته؟، فردَّ عليه: أنا لم أجده ولم أرَه، ولكن عرفته من أَتَره على الأرض، أعرج لأن أَتَره عميق في الأرض في جهة واحدة، وأعور لأنه كان يأكل الحشائش من اتجاه ويترك الآخر، فأمره أن يتبع الأَتر إلى أن وجد جمله.
أما مدينة الأبيض فقد كانت تعتمد على قصاص الأتَر في كشف السرقات حتى وقت قريب، حيث تم اكتشاف العديد من جرائم السرقة في مدينة الأبيض، ومنها سرقات غامضة عجزت الشرطة عن كشفها، فمعلومات قصاص الأَتَر تكون دقيقة على الرغم من تطور أسلوب الحرامية وطرقهم المختلفة في تضليل القصاص، مثلاً تغيير طريقة المشي أو قلب الحذاء أو غيره، ولازالت هذه المهنة مستمرة في القرى والأرياف حتى يومنا هذا.
تم كتابة هذه المقالة بواسطة أماني يوسف بشير بناءً على مقابلة شخصية مع الأستاذ/ يوسف بشير إدريس. صباح السبت 11/ يناير / 2025م*.
صورة الغلاف © أماني يوسف بشير

[وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ]
الآية 11 من سورة القصص.
قصّ الأَتَر (الأَتَر) هي مهنة متوارثة منذ قديم الزمان لا يُعرف متى بدأ تاريخ ممارستها بالتحديد، ربما منذ فترات تاريخية موغلة في القدم، إلى أن أصبح قصّاص الأَتَر وظيفة مُعترف بها وموظفاً معتمداً لدى البوليس "الشرطة". فقد ارتبط قص الأَتَر بكشف حقيقة السرقات بأنواعها سواء سرقات منازل أو مؤسسات حكومية أو ماشية.
قصّاص الأَتَر هو شخص يتمتع بقوة الملاحظة وبمهارة عالية في معرفة أوصاف السارق، سواء كان طويلاً أم قصيراً، سميناً أم ضعيفاً، أو حتى إن كان به عيب خُلقي (أعرج أعور أو غيره) وحجم ومقاس الرجل. غالباً تكون هذه المهنة متوارثة، يعلّمها الآباء لأبنائهم، أو غير متوارثة نتيجة لفراسة وذكاء وقوة ملاحظة القصّاص.
القصّاص له اعتبار خاص ومهابة في المجتمع. عند اكتشاف سرقة ما وقبل استدعاء قصاص الأَتَر، يقوم أصحاب السرقة بالحفاظ على الأتَر بتغطيته بوعاء كبير للاحتفاظ به إلى حين حضور القصّاص، خاصة في القرى والمناطق شديدة الرياح.
من القصص المشهورة في قص الأَتر، الإعرابي الذي فقد جمله، صادفه قاصٕ للأتَر فسأله عدداً من الأسئلة: هل الجمل الذي تملكه أعور؟ فقال له نعم، فسأله هل الجمل أعرج؟ فقال له نعم، فسأله صاحب الجمل أين وجدته؟، فردَّ عليه: أنا لم أجده ولم أرَه، ولكن عرفته من أَتَره على الأرض، أعرج لأن أَتَره عميق في الأرض في جهة واحدة، وأعور لأنه كان يأكل الحشائش من اتجاه ويترك الآخر، فأمره أن يتبع الأَتر إلى أن وجد جمله.
أما مدينة الأبيض فقد كانت تعتمد على قصاص الأتَر في كشف السرقات حتى وقت قريب، حيث تم اكتشاف العديد من جرائم السرقة في مدينة الأبيض، ومنها سرقات غامضة عجزت الشرطة عن كشفها، فمعلومات قصاص الأَتَر تكون دقيقة على الرغم من تطور أسلوب الحرامية وطرقهم المختلفة في تضليل القصاص، مثلاً تغيير طريقة المشي أو قلب الحذاء أو غيره، ولازالت هذه المهنة مستمرة في القرى والأرياف حتى يومنا هذا.
تم كتابة هذه المقالة بواسطة أماني يوسف بشير بناءً على مقابلة شخصية مع الأستاذ/ يوسف بشير إدريس. صباح السبت 11/ يناير / 2025م*.
صورة الغلاف © أماني يوسف بشير

التهجِير النوبيّ واللُّغة

التهجِير النوبيّ واللُّغة
النوبيُّون هُم مَن في أقصى شمال السودان، مِن الحدود الفاصلة بين السودان ومصر حتّى منطقة الدبَّة جنوب دنقلا جنوباً. وفي اتفاقية مياه النيل بين الدولتين عام ١٩٥٩م، نَصَّت هذه الاتفاقية على تهجير من هُم في السودان من فرس (في نهاية مثلث وادي حلفا) إلى منطقة دال في مسافة طولية على ضفاف النيل شرقاً وغرباً -تُقدَّر بـ١٧٠ كيلو متراً- لتمكين مصر من بناء السد العالي في صعيد مصر، لأن المياه -خلف السد- ستَغمُر هذه المنطقة الممتدَّة.
كان الوفد الذي مَثَّلَ السودان على رأسه اللواء طلعت فريد. وعلى رأس مفاوضي مصر اللواء خالد محيي الدين، كلاهما من المجلس العسكري في كل بلد. كان الجنرال إبراهيم عبود، الحاكم العسكري في السودان، قد وَصَّى طلعت فريد بقوله: "الماء عندنا كثير، عندنا نيل ومطر. ما يقوله (عَمُّك) جمال هو الذي يسير١.
وسارَ ما قاله جمال عبد الناصر، الحاكم العسكري لمصر. تم تقسيم مياه النيل بين السودان ومصر على أساس أن نهر النيل يَتَشَكَّل في الخرطوم، ويسير شمالاً منها. وعلى هذا، صار لمصر٥٥.٥٪ من مياهه، وللسودان ۱۸٫٥٪ منها. رَفض ميرغني حمزة -وزير الريّ السوداني- وحَذَّر الحضور من مغبَّة انفراد مصر والسودان بأكثر مياه النيل، هناك دولٌ أخرى مُشَاطِئَة للنيل، ومن حقّها أنصبتها، هذه القسمة هي مشكلة المستقبل. لم يُسمَع له، وكان رفضه نبوءة، وهو ما يحدث الآن.
.jpg)
قَبِلَ السودان قيام السد العالي مقابل قسمة المياه وتَعلِيَة خزان الرصيرص، وقيام خزان جبل أولياء جنوب الخرطوم لصالح مصر، وتهجير النوبيين من فرس حتى دال في مدىً حدَّدَتهُ مصر، وهنا قَدَّمَ ميرغني حمزة استقالته.
كان المُهَجَّرُون أهلُ مدينة وادي حلفا وأحيائها جنوباً وشمالاً مع مثلث وادي حلفا، داخل مصر -التابع للسودان- بدأ التهجير في ١/٢٦/ ١٩٦٣م.
أولاً: أحياء وادي حلفا: فرس شرق وغرب، سَرَّه شَرق وغرب، دبيكَرا شرق وغرب، أرقين، إشكيت، دَبَروسه، بوهين، دغيم، سُلَن، فارقى.
ثانياً: أهل بطن الحجر جنوب وادي حلفا بـ٥٩ كيلو متراً، أَبكَى Abke، جِمَي، مِرْشِد، سَرَس، أُرُول آرتي، سَمْنَه، أَتِّير، دوشات، أَمْبِكُول Ambikol، تَنْجُوري، سونْقِي Songi، أكاشا، كُلُب Kulub، دال. كلهم يتواصلون باللغة النوبية ما عدا أهل أمبِكول٢.
تَحَدَّدَ للمُهَجَّرين الإسكان في سهل البطانة في شرق السودان في منطقة تُسَمَّى (سروبة الخادم). كان الإنجليز قد خَطَّطوا لقيام خزان خشم القربة منذ عام ١٩٤٥م، وضرورة جلب سكان للسهل المنخفض شماله. ومنذ عام ١٩٥٨م فكَّرت الحكومة السودانية العسكرية (١٩٥٨ - ١٩٦٤م) في من يكون الضحية. وطالما قرَّر الحاكمان العسكريَّان في السودان ومصر، فالضحية هؤلاء المُهَجَّرون الذين ستَخلُوا مناطقهم من السُكَّان.
كان عدد المُهَجَّرين ٥٢,٢٠٠ نسمة، بُنِيَت لهم ٢٦ قرية على عجل. أوَّل من هاجروا نَزَلَ عليهم مطرٌ لم يروا أو يتخيَّلوا مثلَه، وفي منطقتهم المنخفضة، سادَ الطين اللزج المانع للحركة حتى للسيارات. وقام مشروع حلفا الجديدة الزراعي، وبقي في (حلفا الجديدة) هذه العاملون في الخزان وهاجر إلى المشروع خلقٌ كثير للعمل فيه. وقام سوق بديل لسوق وادي حلفا القديم اعتُبِرَ من أكبر الأسواق في السودان.
كان للنوبيين المُهَجَّرين لغة واحدة يتواصلون بها هي اللغة النوبية في موضعهم القديم. القرى التي سكنوا فيها حملت أرقاماً (١)،(٢)،(٣).. إلخ. وكان أَوَّل ما أَسقَطُوا من لُغتهم أسماءَ قُرَاهم التي ذابَت في الأرقام، أسماء قُراهم كانت ذات دلالات تاريخيَّة٣.
مُلِئَت حلفا الجديدة ناساً حتى فاضَت، ظاهرة الإسقاط والاقتراض ظَهَرت في اللغة النوبية. أسماء ومفردات بالمئات كانت عن نهر النيل، بمراكبه ومعدّياته وأسماكه وجزره وزراعاته وأماكن زراعتها، النخيل والجبال والغناء وتفاصيل الحياة اليوميّة، عمل المرأة يوميّاً وعمل الرجل والصبي والبنات في طََحن الدقيق، أدواتهم في البيت والمزرعة دَخَلَت دائرة الإسقاط اللّغويّ، لا محل لاستخدامها.
في الاقتراض اللغوي كانت قد صُرِفَت لهم حوَّاشات (مزارع) صغيرة. آلاف من المفردات اقترضوها من البيئة الجديدة. اللغة النوبية نفسها صارت لغة البيت وحسب، لا موضع لها خارجه. صارت في سائد لُغَتهم مفردات: حوَّاشة، كنار، أب عشرين، خبير زراعي، مفتش، نمرة واحد، نمرة اثنين حتى نمرة عشرة في كلّ قرية، تفتيش، مؤسسة، حمار عبوري، فول، قطن، نضافة، عرب، اسبسقس (سقف المنزل منه)، جدول، بقر، مفتش، أنكوج، مَلُود Malod، طَرَّاد، تَرَكتَر، تُرعَة؛ مئات المفردات اقترضوها. وكان قد فُرضت عليهم زراعة الفول السوداني والقطن. وهي محصولات ما عرفوها من قبل.
الشباب غير المتعلم في حلفا الجديدة كانت أمامه وظائف مُحَدَّدة؛ العمل في الشرطة، الجيش، عُمّال حواشات، مراسلات، رعاة بقر. الغريب أن معظمهم اختاروا العمل كرعاة بقر لدخله اليومي من اللبن والمشاركة في ناتج المواليد منها. ويعني ذلك العمل مع البجا في بطونهم المختلفة، والملوه Mallo، والكجكسا Kajaksa (تشاد) والمَسْمَجَه (تشاد) والتاما Tama. والمُقَرَّر هنا تَعَلُّم (لغة) رعي الأبقار والعناية بها وثقافتها. وكان هذا جواز مرور الشاب. وقد انخرط فيه أكثر هؤلاء الشباب٤.
حلفا الجديدة منطقة تداخل لغوي، في عام ١٩٩٩م كانت دراسة: الباقون من النوبيين هناك، والبقية ما عدا العرب. كان عدد النوبيين ٣٩,٠٠٠ نسمة. هاجر ١٤,٢٠٠ منهم لكثرة الأمراض وغيرها. وعدد ساكني (الكَنَابِي) ٧٥,٠٠٠ نسمة. التداخل اللغوي صراع -غير واضح- على الحيازة على السوق اللغوي. اللغة صاحبة السوق -من حيث العدد وقوة الاقتصاد- في يدها- هي التي تسود٥.
متحف وادي حلفا كان قد هُجِّر إلى المتحف القومي بالخرطوم. وفي اجتماع في أسوان حضره المعنيّون بالأمر من النوبة المصرية ووادي حلفا، تم شراء الأرض بتمويل من اليونسكو، وشُرِعَ في بنائه، لكنّه توقف. كان ذلك عام ٢٠٠٨م. أعدَدنَا أنفسنا لجمع التراث المادي وغير المادي، وتعلَّمَ الشباب الإنجليزية لمخاطبة السُيَّاح في إطار (تعليم اللغة لأغراض خاصة).
في حلفا الجديدة نجد الآن ثنائية لغوية عند البعض، (عربي - نوبي)، وثلاثية لغوية (عربي - نوبي - لُغة زغاوة) مثلاً. واللغات في حلفا الجديدة هي: التاما، الملو، زغاوة، بجا، مساليت، لغات جبال النوبة، بني عامر، كَجَكْسَا، مَسْمَجَة، فور، بَرْتِي. وفي وادي حلفا ثنائية لغوية (عربي – نوبي).
مؤخراً بدأنا العمل المشترك مع النوبة المصرية لإقامة: (جماعات الحفاظ على اللغة النوبية وثقافاتها وترجمة آدابها)، وهو تجربة فاعلة، نوبية مصرية، ستنتقل إلى السودان٦.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي
صور المعرض لنص المقال مكتوب بخط ميرغني ديشاب
النوبيُّون هُم مَن في أقصى شمال السودان، مِن الحدود الفاصلة بين السودان ومصر حتّى منطقة الدبَّة جنوب دنقلا جنوباً. وفي اتفاقية مياه النيل بين الدولتين عام ١٩٥٩م، نَصَّت هذه الاتفاقية على تهجير من هُم في السودان من فرس (في نهاية مثلث وادي حلفا) إلى منطقة دال في مسافة طولية على ضفاف النيل شرقاً وغرباً -تُقدَّر بـ١٧٠ كيلو متراً- لتمكين مصر من بناء السد العالي في صعيد مصر، لأن المياه -خلف السد- ستَغمُر هذه المنطقة الممتدَّة.
كان الوفد الذي مَثَّلَ السودان على رأسه اللواء طلعت فريد. وعلى رأس مفاوضي مصر اللواء خالد محيي الدين، كلاهما من المجلس العسكري في كل بلد. كان الجنرال إبراهيم عبود، الحاكم العسكري في السودان، قد وَصَّى طلعت فريد بقوله: "الماء عندنا كثير، عندنا نيل ومطر. ما يقوله (عَمُّك) جمال هو الذي يسير١.
وسارَ ما قاله جمال عبد الناصر، الحاكم العسكري لمصر. تم تقسيم مياه النيل بين السودان ومصر على أساس أن نهر النيل يَتَشَكَّل في الخرطوم، ويسير شمالاً منها. وعلى هذا، صار لمصر٥٥.٥٪ من مياهه، وللسودان ۱۸٫٥٪ منها. رَفض ميرغني حمزة -وزير الريّ السوداني- وحَذَّر الحضور من مغبَّة انفراد مصر والسودان بأكثر مياه النيل، هناك دولٌ أخرى مُشَاطِئَة للنيل، ومن حقّها أنصبتها، هذه القسمة هي مشكلة المستقبل. لم يُسمَع له، وكان رفضه نبوءة، وهو ما يحدث الآن.
.jpg)
قَبِلَ السودان قيام السد العالي مقابل قسمة المياه وتَعلِيَة خزان الرصيرص، وقيام خزان جبل أولياء جنوب الخرطوم لصالح مصر، وتهجير النوبيين من فرس حتى دال في مدىً حدَّدَتهُ مصر، وهنا قَدَّمَ ميرغني حمزة استقالته.
كان المُهَجَّرُون أهلُ مدينة وادي حلفا وأحيائها جنوباً وشمالاً مع مثلث وادي حلفا، داخل مصر -التابع للسودان- بدأ التهجير في ١/٢٦/ ١٩٦٣م.
أولاً: أحياء وادي حلفا: فرس شرق وغرب، سَرَّه شَرق وغرب، دبيكَرا شرق وغرب، أرقين، إشكيت، دَبَروسه، بوهين، دغيم، سُلَن، فارقى.
ثانياً: أهل بطن الحجر جنوب وادي حلفا بـ٥٩ كيلو متراً، أَبكَى Abke، جِمَي، مِرْشِد، سَرَس، أُرُول آرتي، سَمْنَه، أَتِّير، دوشات، أَمْبِكُول Ambikol، تَنْجُوري، سونْقِي Songi، أكاشا، كُلُب Kulub، دال. كلهم يتواصلون باللغة النوبية ما عدا أهل أمبِكول٢.
تَحَدَّدَ للمُهَجَّرين الإسكان في سهل البطانة في شرق السودان في منطقة تُسَمَّى (سروبة الخادم). كان الإنجليز قد خَطَّطوا لقيام خزان خشم القربة منذ عام ١٩٤٥م، وضرورة جلب سكان للسهل المنخفض شماله. ومنذ عام ١٩٥٨م فكَّرت الحكومة السودانية العسكرية (١٩٥٨ - ١٩٦٤م) في من يكون الضحية. وطالما قرَّر الحاكمان العسكريَّان في السودان ومصر، فالضحية هؤلاء المُهَجَّرون الذين ستَخلُوا مناطقهم من السُكَّان.
كان عدد المُهَجَّرين ٥٢,٢٠٠ نسمة، بُنِيَت لهم ٢٦ قرية على عجل. أوَّل من هاجروا نَزَلَ عليهم مطرٌ لم يروا أو يتخيَّلوا مثلَه، وفي منطقتهم المنخفضة، سادَ الطين اللزج المانع للحركة حتى للسيارات. وقام مشروع حلفا الجديدة الزراعي، وبقي في (حلفا الجديدة) هذه العاملون في الخزان وهاجر إلى المشروع خلقٌ كثير للعمل فيه. وقام سوق بديل لسوق وادي حلفا القديم اعتُبِرَ من أكبر الأسواق في السودان.
كان للنوبيين المُهَجَّرين لغة واحدة يتواصلون بها هي اللغة النوبية في موضعهم القديم. القرى التي سكنوا فيها حملت أرقاماً (١)،(٢)،(٣).. إلخ. وكان أَوَّل ما أَسقَطُوا من لُغتهم أسماءَ قُرَاهم التي ذابَت في الأرقام، أسماء قُراهم كانت ذات دلالات تاريخيَّة٣.
مُلِئَت حلفا الجديدة ناساً حتى فاضَت، ظاهرة الإسقاط والاقتراض ظَهَرت في اللغة النوبية. أسماء ومفردات بالمئات كانت عن نهر النيل، بمراكبه ومعدّياته وأسماكه وجزره وزراعاته وأماكن زراعتها، النخيل والجبال والغناء وتفاصيل الحياة اليوميّة، عمل المرأة يوميّاً وعمل الرجل والصبي والبنات في طََحن الدقيق، أدواتهم في البيت والمزرعة دَخَلَت دائرة الإسقاط اللّغويّ، لا محل لاستخدامها.
في الاقتراض اللغوي كانت قد صُرِفَت لهم حوَّاشات (مزارع) صغيرة. آلاف من المفردات اقترضوها من البيئة الجديدة. اللغة النوبية نفسها صارت لغة البيت وحسب، لا موضع لها خارجه. صارت في سائد لُغَتهم مفردات: حوَّاشة، كنار، أب عشرين، خبير زراعي، مفتش، نمرة واحد، نمرة اثنين حتى نمرة عشرة في كلّ قرية، تفتيش، مؤسسة، حمار عبوري، فول، قطن، نضافة، عرب، اسبسقس (سقف المنزل منه)، جدول، بقر، مفتش، أنكوج، مَلُود Malod، طَرَّاد، تَرَكتَر، تُرعَة؛ مئات المفردات اقترضوها. وكان قد فُرضت عليهم زراعة الفول السوداني والقطن. وهي محصولات ما عرفوها من قبل.
الشباب غير المتعلم في حلفا الجديدة كانت أمامه وظائف مُحَدَّدة؛ العمل في الشرطة، الجيش، عُمّال حواشات، مراسلات، رعاة بقر. الغريب أن معظمهم اختاروا العمل كرعاة بقر لدخله اليومي من اللبن والمشاركة في ناتج المواليد منها. ويعني ذلك العمل مع البجا في بطونهم المختلفة، والملوه Mallo، والكجكسا Kajaksa (تشاد) والمَسْمَجَه (تشاد) والتاما Tama. والمُقَرَّر هنا تَعَلُّم (لغة) رعي الأبقار والعناية بها وثقافتها. وكان هذا جواز مرور الشاب. وقد انخرط فيه أكثر هؤلاء الشباب٤.
حلفا الجديدة منطقة تداخل لغوي، في عام ١٩٩٩م كانت دراسة: الباقون من النوبيين هناك، والبقية ما عدا العرب. كان عدد النوبيين ٣٩,٠٠٠ نسمة. هاجر ١٤,٢٠٠ منهم لكثرة الأمراض وغيرها. وعدد ساكني (الكَنَابِي) ٧٥,٠٠٠ نسمة. التداخل اللغوي صراع -غير واضح- على الحيازة على السوق اللغوي. اللغة صاحبة السوق -من حيث العدد وقوة الاقتصاد- في يدها- هي التي تسود٥.
متحف وادي حلفا كان قد هُجِّر إلى المتحف القومي بالخرطوم. وفي اجتماع في أسوان حضره المعنيّون بالأمر من النوبة المصرية ووادي حلفا، تم شراء الأرض بتمويل من اليونسكو، وشُرِعَ في بنائه، لكنّه توقف. كان ذلك عام ٢٠٠٨م. أعدَدنَا أنفسنا لجمع التراث المادي وغير المادي، وتعلَّمَ الشباب الإنجليزية لمخاطبة السُيَّاح في إطار (تعليم اللغة لأغراض خاصة).
في حلفا الجديدة نجد الآن ثنائية لغوية عند البعض، (عربي - نوبي)، وثلاثية لغوية (عربي - نوبي - لُغة زغاوة) مثلاً. واللغات في حلفا الجديدة هي: التاما، الملو، زغاوة، بجا، مساليت، لغات جبال النوبة، بني عامر، كَجَكْسَا، مَسْمَجَة، فور، بَرْتِي. وفي وادي حلفا ثنائية لغوية (عربي – نوبي).
مؤخراً بدأنا العمل المشترك مع النوبة المصرية لإقامة: (جماعات الحفاظ على اللغة النوبية وثقافاتها وترجمة آدابها)، وهو تجربة فاعلة، نوبية مصرية، ستنتقل إلى السودان٦.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي
صور المعرض لنص المقال مكتوب بخط ميرغني ديشاب

النوبيُّون هُم مَن في أقصى شمال السودان، مِن الحدود الفاصلة بين السودان ومصر حتّى منطقة الدبَّة جنوب دنقلا جنوباً. وفي اتفاقية مياه النيل بين الدولتين عام ١٩٥٩م، نَصَّت هذه الاتفاقية على تهجير من هُم في السودان من فرس (في نهاية مثلث وادي حلفا) إلى منطقة دال في مسافة طولية على ضفاف النيل شرقاً وغرباً -تُقدَّر بـ١٧٠ كيلو متراً- لتمكين مصر من بناء السد العالي في صعيد مصر، لأن المياه -خلف السد- ستَغمُر هذه المنطقة الممتدَّة.
كان الوفد الذي مَثَّلَ السودان على رأسه اللواء طلعت فريد. وعلى رأس مفاوضي مصر اللواء خالد محيي الدين، كلاهما من المجلس العسكري في كل بلد. كان الجنرال إبراهيم عبود، الحاكم العسكري في السودان، قد وَصَّى طلعت فريد بقوله: "الماء عندنا كثير، عندنا نيل ومطر. ما يقوله (عَمُّك) جمال هو الذي يسير١.
وسارَ ما قاله جمال عبد الناصر، الحاكم العسكري لمصر. تم تقسيم مياه النيل بين السودان ومصر على أساس أن نهر النيل يَتَشَكَّل في الخرطوم، ويسير شمالاً منها. وعلى هذا، صار لمصر٥٥.٥٪ من مياهه، وللسودان ۱۸٫٥٪ منها. رَفض ميرغني حمزة -وزير الريّ السوداني- وحَذَّر الحضور من مغبَّة انفراد مصر والسودان بأكثر مياه النيل، هناك دولٌ أخرى مُشَاطِئَة للنيل، ومن حقّها أنصبتها، هذه القسمة هي مشكلة المستقبل. لم يُسمَع له، وكان رفضه نبوءة، وهو ما يحدث الآن.
.jpg)
قَبِلَ السودان قيام السد العالي مقابل قسمة المياه وتَعلِيَة خزان الرصيرص، وقيام خزان جبل أولياء جنوب الخرطوم لصالح مصر، وتهجير النوبيين من فرس حتى دال في مدىً حدَّدَتهُ مصر، وهنا قَدَّمَ ميرغني حمزة استقالته.
كان المُهَجَّرُون أهلُ مدينة وادي حلفا وأحيائها جنوباً وشمالاً مع مثلث وادي حلفا، داخل مصر -التابع للسودان- بدأ التهجير في ١/٢٦/ ١٩٦٣م.
أولاً: أحياء وادي حلفا: فرس شرق وغرب، سَرَّه شَرق وغرب، دبيكَرا شرق وغرب، أرقين، إشكيت، دَبَروسه، بوهين، دغيم، سُلَن، فارقى.
ثانياً: أهل بطن الحجر جنوب وادي حلفا بـ٥٩ كيلو متراً، أَبكَى Abke، جِمَي، مِرْشِد، سَرَس، أُرُول آرتي، سَمْنَه، أَتِّير، دوشات، أَمْبِكُول Ambikol، تَنْجُوري، سونْقِي Songi، أكاشا، كُلُب Kulub، دال. كلهم يتواصلون باللغة النوبية ما عدا أهل أمبِكول٢.
تَحَدَّدَ للمُهَجَّرين الإسكان في سهل البطانة في شرق السودان في منطقة تُسَمَّى (سروبة الخادم). كان الإنجليز قد خَطَّطوا لقيام خزان خشم القربة منذ عام ١٩٤٥م، وضرورة جلب سكان للسهل المنخفض شماله. ومنذ عام ١٩٥٨م فكَّرت الحكومة السودانية العسكرية (١٩٥٨ - ١٩٦٤م) في من يكون الضحية. وطالما قرَّر الحاكمان العسكريَّان في السودان ومصر، فالضحية هؤلاء المُهَجَّرون الذين ستَخلُوا مناطقهم من السُكَّان.
كان عدد المُهَجَّرين ٥٢,٢٠٠ نسمة، بُنِيَت لهم ٢٦ قرية على عجل. أوَّل من هاجروا نَزَلَ عليهم مطرٌ لم يروا أو يتخيَّلوا مثلَه، وفي منطقتهم المنخفضة، سادَ الطين اللزج المانع للحركة حتى للسيارات. وقام مشروع حلفا الجديدة الزراعي، وبقي في (حلفا الجديدة) هذه العاملون في الخزان وهاجر إلى المشروع خلقٌ كثير للعمل فيه. وقام سوق بديل لسوق وادي حلفا القديم اعتُبِرَ من أكبر الأسواق في السودان.
كان للنوبيين المُهَجَّرين لغة واحدة يتواصلون بها هي اللغة النوبية في موضعهم القديم. القرى التي سكنوا فيها حملت أرقاماً (١)،(٢)،(٣).. إلخ. وكان أَوَّل ما أَسقَطُوا من لُغتهم أسماءَ قُرَاهم التي ذابَت في الأرقام، أسماء قُراهم كانت ذات دلالات تاريخيَّة٣.
مُلِئَت حلفا الجديدة ناساً حتى فاضَت، ظاهرة الإسقاط والاقتراض ظَهَرت في اللغة النوبية. أسماء ومفردات بالمئات كانت عن نهر النيل، بمراكبه ومعدّياته وأسماكه وجزره وزراعاته وأماكن زراعتها، النخيل والجبال والغناء وتفاصيل الحياة اليوميّة، عمل المرأة يوميّاً وعمل الرجل والصبي والبنات في طََحن الدقيق، أدواتهم في البيت والمزرعة دَخَلَت دائرة الإسقاط اللّغويّ، لا محل لاستخدامها.
في الاقتراض اللغوي كانت قد صُرِفَت لهم حوَّاشات (مزارع) صغيرة. آلاف من المفردات اقترضوها من البيئة الجديدة. اللغة النوبية نفسها صارت لغة البيت وحسب، لا موضع لها خارجه. صارت في سائد لُغَتهم مفردات: حوَّاشة، كنار، أب عشرين، خبير زراعي، مفتش، نمرة واحد، نمرة اثنين حتى نمرة عشرة في كلّ قرية، تفتيش، مؤسسة، حمار عبوري، فول، قطن، نضافة، عرب، اسبسقس (سقف المنزل منه)، جدول، بقر، مفتش، أنكوج، مَلُود Malod، طَرَّاد، تَرَكتَر، تُرعَة؛ مئات المفردات اقترضوها. وكان قد فُرضت عليهم زراعة الفول السوداني والقطن. وهي محصولات ما عرفوها من قبل.
الشباب غير المتعلم في حلفا الجديدة كانت أمامه وظائف مُحَدَّدة؛ العمل في الشرطة، الجيش، عُمّال حواشات، مراسلات، رعاة بقر. الغريب أن معظمهم اختاروا العمل كرعاة بقر لدخله اليومي من اللبن والمشاركة في ناتج المواليد منها. ويعني ذلك العمل مع البجا في بطونهم المختلفة، والملوه Mallo، والكجكسا Kajaksa (تشاد) والمَسْمَجَه (تشاد) والتاما Tama. والمُقَرَّر هنا تَعَلُّم (لغة) رعي الأبقار والعناية بها وثقافتها. وكان هذا جواز مرور الشاب. وقد انخرط فيه أكثر هؤلاء الشباب٤.
حلفا الجديدة منطقة تداخل لغوي، في عام ١٩٩٩م كانت دراسة: الباقون من النوبيين هناك، والبقية ما عدا العرب. كان عدد النوبيين ٣٩,٠٠٠ نسمة. هاجر ١٤,٢٠٠ منهم لكثرة الأمراض وغيرها. وعدد ساكني (الكَنَابِي) ٧٥,٠٠٠ نسمة. التداخل اللغوي صراع -غير واضح- على الحيازة على السوق اللغوي. اللغة صاحبة السوق -من حيث العدد وقوة الاقتصاد- في يدها- هي التي تسود٥.
متحف وادي حلفا كان قد هُجِّر إلى المتحف القومي بالخرطوم. وفي اجتماع في أسوان حضره المعنيّون بالأمر من النوبة المصرية ووادي حلفا، تم شراء الأرض بتمويل من اليونسكو، وشُرِعَ في بنائه، لكنّه توقف. كان ذلك عام ٢٠٠٨م. أعدَدنَا أنفسنا لجمع التراث المادي وغير المادي، وتعلَّمَ الشباب الإنجليزية لمخاطبة السُيَّاح في إطار (تعليم اللغة لأغراض خاصة).
في حلفا الجديدة نجد الآن ثنائية لغوية عند البعض، (عربي - نوبي)، وثلاثية لغوية (عربي - نوبي - لُغة زغاوة) مثلاً. واللغات في حلفا الجديدة هي: التاما، الملو، زغاوة، بجا، مساليت، لغات جبال النوبة، بني عامر، كَجَكْسَا، مَسْمَجَة، فور، بَرْتِي. وفي وادي حلفا ثنائية لغوية (عربي – نوبي).
مؤخراً بدأنا العمل المشترك مع النوبة المصرية لإقامة: (جماعات الحفاظ على اللغة النوبية وثقافاتها وترجمة آدابها)، وهو تجربة فاعلة، نوبية مصرية، ستنتقل إلى السودان٦.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي
صور المعرض لنص المقال مكتوب بخط ميرغني ديشاب

قائمة تشغيل لغات السودان

قائمة تشغيل لغات السودان
يزخر السودان بمشهد لغوي ثري، حيث تشير التقديرات إلى وجود أكثر من ١١٤ لغة يتم التحدث بها في جميع أنحاء البلاد. اللغة العربية هي اللغة الأكثر هيمنة، خاصة في المناطق الشمالية والوسطى. ولكن ما هي أفضل طريقة لاستكشاف التنوع اللغوي في السودان غير الموسيقى؟
قائمة الأغاني هذه عبارة عن مجموعة من الأغاني من جميع أنحاء السودان، تضم لغات محلية يتم التحدث بها في الشمال والشرق والغرب، وكذلك بين بعض القبائل في منطقة النيل الأزرق ومجتمعات الهوسا. نحتفي من خلال هذه المجموعة المختارة بالتنوع الموسيقي الذي يعكس التراث الثقافي واللغوي العميق للمجتمعات السودانية المتعددة.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي
يزخر السودان بمشهد لغوي ثري، حيث تشير التقديرات إلى وجود أكثر من ١١٤ لغة يتم التحدث بها في جميع أنحاء البلاد. اللغة العربية هي اللغة الأكثر هيمنة، خاصة في المناطق الشمالية والوسطى. ولكن ما هي أفضل طريقة لاستكشاف التنوع اللغوي في السودان غير الموسيقى؟
قائمة الأغاني هذه عبارة عن مجموعة من الأغاني من جميع أنحاء السودان، تضم لغات محلية يتم التحدث بها في الشمال والشرق والغرب، وكذلك بين بعض القبائل في منطقة النيل الأزرق ومجتمعات الهوسا. نحتفي من خلال هذه المجموعة المختارة بالتنوع الموسيقي الذي يعكس التراث الثقافي واللغوي العميق للمجتمعات السودانية المتعددة.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

يزخر السودان بمشهد لغوي ثري، حيث تشير التقديرات إلى وجود أكثر من ١١٤ لغة يتم التحدث بها في جميع أنحاء البلاد. اللغة العربية هي اللغة الأكثر هيمنة، خاصة في المناطق الشمالية والوسطى. ولكن ما هي أفضل طريقة لاستكشاف التنوع اللغوي في السودان غير الموسيقى؟
قائمة الأغاني هذه عبارة عن مجموعة من الأغاني من جميع أنحاء السودان، تضم لغات محلية يتم التحدث بها في الشمال والشرق والغرب، وكذلك بين بعض القبائل في منطقة النيل الأزرق ومجتمعات الهوسا. نحتفي من خلال هذه المجموعة المختارة بالتنوع الموسيقي الذي يعكس التراث الثقافي واللغوي العميق للمجتمعات السودانية المتعددة.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

الراندوك.. اللُّغة بِنت الرفض والمُقاوَمة

الراندوك.. اللُّغة بِنت الرفض والمُقاوَمة
قالت أليس: "لا أعلم ما تعنيه عندما تقول "عَظمَة". فابتسم همبتي دمبتي بازدراء مردداً: "بالطبع لا تعلمين معنى الكلمة، حتى أخبرك أنا بمعناها". أقصد أن ذلك جدال يسهل دحضه. اعترضت أليس قائلة: لكن "عظمة" لا تعني "جدال يسهل دحضه".
فأجابها همبتي دمبتي هازئاً: عندما أستخدم أنا كلمة ما، فإنها تعني تماماً ما أرغب في أن تعنيه، من دون زيادة أو نقصان.
فردت أليس: فالسؤال هنا هو إن كان باستطاعتك أن تجعل للكلمة أكثر من معنى.
فعقَّب همبتي دمبتي على ذلك قائلاً: السؤال هو عمّن لديه السلطة هنا. لا أكثر من ذلك.
(أليس في بلاد العجائب)
عطفاً على المقتطف أعلاه من (أليس في بلاد العجائب)، يمكن الإشارة إلى أن كل شيء يبدأ من إلى السلطة والسياسة، دون مفاضلة بينهما في الترتيب، ثم إلى الاقتصاد ثم إلى الحياة. ينطبق ذلك حتى على "اللغة" بوصفها الميدان الحيوي للصراع حول السيطرة والقدرة على تشكيل الخطاب والحياة، وبوصف اللغة أيضاً الملكة الرمزية الأهم لتفسير العالم من حولنا.
قبل ثلاثة عقود كان ميدان اللغة في السودان قد بدأ يشهد مستوىً من الصراع الخفيّ حول من لديه السلطة والفاعلية للسيطرة على الفضاء العمومي، حدث ذلك مع وصول جماعة الإخوان المسلمين للسلطة في البلاد عبر انقلاب عسكري.
في ذلك الوقت، أحكم الإسلاميُّون قبضتهم، وشرعوا في تغييرات متعدّدة طِبقًاً لخطَّة معروفة لديهم ومُعلنة للجمهور، يحويها الشعار البارز "صياغة الإنسان السوداني". شمل ذلك تغيُّرات سياسية واجتماعية واقتصادية، والكثير غير ذلك. لكن تغييراً خاصَّاً بدأ على مستوى اللغة وكذلك المفاهيم والدلالات الكامنة فيها بغرض إحكام القيود على المضمون والمعنى، وأيضاً القيود على العلاقات وعلى الأفراد.
في البدء، سيطر الإسلاميون على وسائل الإعلام الجماهيرية، وزحفوا من خلالها إلى الفضاء العمومي والخاص، ونشروا لغة مختلفة عن اللغة السائدة، مصبوغة بمسحة دينية للتعبيرات اللغوية الجديدة التي حلَّت محل تعبيرات سابقة كانت تُستخدم باعتياد للمعنى نفسه. بالنسبة للحُكَّام، كانت اللغة الرسمية في بدايتها تنحو صوب القاموس الديني لتستلف تعبيراتها، وبالطبع كان مُحرجاً لهم أن تطلّ بكثاقة مفردات مثل: "شرتيت. جاح، جُلك. كِسِّير تلج. كَتَمت. طَلَس. قنزب. لقُّوية. الطَارَة. جاوات".
في الواقع، لم يبدأ الصراع عبر اللغة دفعة واحدة، إنما بدأ رويداً رويداً؛ إذ نشأت لغة، أو لغات، موازية، وتخَلَّقت ببطء لتصل مراحل طَغَت فيها على اللغة الرسمية ذات المواصفات التي أرساها الإسلاميون الحاكمون، سنُسمِّي واحدة منها لغة الراندوك.
تربت هذه اللغة في المسارات البعيدة عن أعين الرقابة الرسمية، إلى أن بلَغَت أشدها وانتشرت بلا كابح في طرائق تعبير مفاجئة وصادمة في أول الأمر، ثم أصبحت ضمن تطوّرها لغة الشارع العام التي يتحدثها الناس. صحيح أنها لم تَمْنَح متحدِّيثها قدرةً على حلِّ مشكلات منطقية في الفكر، لكنها لَبَّت باقتدار حاجتهم للتواصل اليومي، ثم مضت إلى مراقٍ رفيعة حين حملت أدبيات الثورة السودانية السلمية التي اندلعت في ديسمبر ٢٠١٨، بكل ما للثورة من تمرد ورفض ودلالات سياسية، وكان لافتاً إبَّان الشكل الحركي للثورة أن يتفاعل الناس مع بيانات موجَّهة مكتوبة بلغة الراندوك. وهنا تم كسر الفرضية التي تزعم أن لغة الأقوياء هي التي تسيطر على الضعفاء.
في مرحلة ما من سيطرة الإخوان المسلمين، أصبحت هناك لغة تُعدُّ علامةً مسجلة لهم. وبدأ شكل من المقاومة يتبلور عن طريق الامتناع عن التحدث بطريقتهم، وعدم استخدام مصطلحاتهم أو مفرداتهم. كان ذلك أشبه برفض شامل لثقافتهم ككل، إلا أن تلك المقاومة ظلت متوارية وخافتة وسط تيار إعلامي وثقافي جارف، ولم تتطور سريعاً لحركة مقاومة معاكسة.
بدأ أول شكل للصراع اللغوي بالشماشة الذين امتلكوا لغتهم الخاصة، المستندة إلى كلمات انقَلَبت حروفها أحياناً، ومفردات تغيرت دلالتها، واصطلاحات تمّ سكّها في ملابسات لا يمكن تتبعها بدقة في مقالة قصيرة. في ما بعد، التقط الكثيرون لغة الشماشة وأجروا عليها تعديلات أوسع، صنعت لغة "الراندوك" التي تفاعلت مع الأيام واتَّسعت، وهي الآن موضوعة هذه المقالة القصيرة، برغم أن كلمة راندوك نفسها لا يمكن تتبع مسار سَكِّهَا بسهولة، لكن بطريقة ما يمكن النظر إليها باعتبارها ظاهرة دالَّة على وجود اللغة المضادة التي تتكلمها مجموعة معينة داخل المجتمع. وإذا كانت هناك فرصة للإشارة إلى عامل مساعد على هذا التوسع للغة الراندوك، فهو الضائقة الاقتصادية التي زعزعت كل شيء.
منذ البداية كان حتميَّاً تصادم المسارين؛ مسار الحُكَّام الجُدد وما يرغبون فيه من إعادة صياغة، ومسار عامة الناس المقهورين بكل السبل، التائقين للانفكاك. ولن نعدم الدليل الذي يؤهلنا للقول إن هذا التصادم كان ميدانه اللغة، وساهم بقوة في تقوية اللغة المقاومة.
تَمَثَّل هذا التصادم لعدة سنوات في عمليات إزاحة لغوية مارَستها السلطة الحاكمة بعد انفجار اللغة الجديدة في الشارع، بما هدَّد النموذج الذي تعمل عليه السلطة ضمن مشروعها. تحوَّل الاستخدام اليومي للغة إلى ميدان مقاومة في مواجهة السلطة ولغتها. وأخذت اللغة مكانها ضمن الحركة الكلية للصراع، وسأقول بعد قليل كلمات قليلة حول هذا الصراع.
بشكلٍ ما، انتصرت لغة الراندوك انتصاراً مشهوداً، وتسلَّلت إلى لغة الأكثرية وحتى إلى لغة المثقفين، صانعة لغة هجيناً، يصعب تتبعها أيضاً، لكنها تحظى برضا الفئات التي تتشاركها، بل إنها في انتصار كبير دخلت على اللغة الرسمية في مناسبات متكررة؛ لأنها حيوية، اجتماعية وقوية.
حين نكتب عن لغة الراندوك، سنقول كلمات همبتي دمبتي نفسها: عمّن لديه السلطة. لا أكثر من ذلك.. وربما نضيف: "كيف تُقَاوَم هذه السلطة"؟
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي
قالت أليس: "لا أعلم ما تعنيه عندما تقول "عَظمَة". فابتسم همبتي دمبتي بازدراء مردداً: "بالطبع لا تعلمين معنى الكلمة، حتى أخبرك أنا بمعناها". أقصد أن ذلك جدال يسهل دحضه. اعترضت أليس قائلة: لكن "عظمة" لا تعني "جدال يسهل دحضه".
فأجابها همبتي دمبتي هازئاً: عندما أستخدم أنا كلمة ما، فإنها تعني تماماً ما أرغب في أن تعنيه، من دون زيادة أو نقصان.
فردت أليس: فالسؤال هنا هو إن كان باستطاعتك أن تجعل للكلمة أكثر من معنى.
فعقَّب همبتي دمبتي على ذلك قائلاً: السؤال هو عمّن لديه السلطة هنا. لا أكثر من ذلك.
(أليس في بلاد العجائب)
عطفاً على المقتطف أعلاه من (أليس في بلاد العجائب)، يمكن الإشارة إلى أن كل شيء يبدأ من إلى السلطة والسياسة، دون مفاضلة بينهما في الترتيب، ثم إلى الاقتصاد ثم إلى الحياة. ينطبق ذلك حتى على "اللغة" بوصفها الميدان الحيوي للصراع حول السيطرة والقدرة على تشكيل الخطاب والحياة، وبوصف اللغة أيضاً الملكة الرمزية الأهم لتفسير العالم من حولنا.
قبل ثلاثة عقود كان ميدان اللغة في السودان قد بدأ يشهد مستوىً من الصراع الخفيّ حول من لديه السلطة والفاعلية للسيطرة على الفضاء العمومي، حدث ذلك مع وصول جماعة الإخوان المسلمين للسلطة في البلاد عبر انقلاب عسكري.
في ذلك الوقت، أحكم الإسلاميُّون قبضتهم، وشرعوا في تغييرات متعدّدة طِبقًاً لخطَّة معروفة لديهم ومُعلنة للجمهور، يحويها الشعار البارز "صياغة الإنسان السوداني". شمل ذلك تغيُّرات سياسية واجتماعية واقتصادية، والكثير غير ذلك. لكن تغييراً خاصَّاً بدأ على مستوى اللغة وكذلك المفاهيم والدلالات الكامنة فيها بغرض إحكام القيود على المضمون والمعنى، وأيضاً القيود على العلاقات وعلى الأفراد.
في البدء، سيطر الإسلاميون على وسائل الإعلام الجماهيرية، وزحفوا من خلالها إلى الفضاء العمومي والخاص، ونشروا لغة مختلفة عن اللغة السائدة، مصبوغة بمسحة دينية للتعبيرات اللغوية الجديدة التي حلَّت محل تعبيرات سابقة كانت تُستخدم باعتياد للمعنى نفسه. بالنسبة للحُكَّام، كانت اللغة الرسمية في بدايتها تنحو صوب القاموس الديني لتستلف تعبيراتها، وبالطبع كان مُحرجاً لهم أن تطلّ بكثاقة مفردات مثل: "شرتيت. جاح، جُلك. كِسِّير تلج. كَتَمت. طَلَس. قنزب. لقُّوية. الطَارَة. جاوات".
في الواقع، لم يبدأ الصراع عبر اللغة دفعة واحدة، إنما بدأ رويداً رويداً؛ إذ نشأت لغة، أو لغات، موازية، وتخَلَّقت ببطء لتصل مراحل طَغَت فيها على اللغة الرسمية ذات المواصفات التي أرساها الإسلاميون الحاكمون، سنُسمِّي واحدة منها لغة الراندوك.
تربت هذه اللغة في المسارات البعيدة عن أعين الرقابة الرسمية، إلى أن بلَغَت أشدها وانتشرت بلا كابح في طرائق تعبير مفاجئة وصادمة في أول الأمر، ثم أصبحت ضمن تطوّرها لغة الشارع العام التي يتحدثها الناس. صحيح أنها لم تَمْنَح متحدِّيثها قدرةً على حلِّ مشكلات منطقية في الفكر، لكنها لَبَّت باقتدار حاجتهم للتواصل اليومي، ثم مضت إلى مراقٍ رفيعة حين حملت أدبيات الثورة السودانية السلمية التي اندلعت في ديسمبر ٢٠١٨، بكل ما للثورة من تمرد ورفض ودلالات سياسية، وكان لافتاً إبَّان الشكل الحركي للثورة أن يتفاعل الناس مع بيانات موجَّهة مكتوبة بلغة الراندوك. وهنا تم كسر الفرضية التي تزعم أن لغة الأقوياء هي التي تسيطر على الضعفاء.
في مرحلة ما من سيطرة الإخوان المسلمين، أصبحت هناك لغة تُعدُّ علامةً مسجلة لهم. وبدأ شكل من المقاومة يتبلور عن طريق الامتناع عن التحدث بطريقتهم، وعدم استخدام مصطلحاتهم أو مفرداتهم. كان ذلك أشبه برفض شامل لثقافتهم ككل، إلا أن تلك المقاومة ظلت متوارية وخافتة وسط تيار إعلامي وثقافي جارف، ولم تتطور سريعاً لحركة مقاومة معاكسة.
بدأ أول شكل للصراع اللغوي بالشماشة الذين امتلكوا لغتهم الخاصة، المستندة إلى كلمات انقَلَبت حروفها أحياناً، ومفردات تغيرت دلالتها، واصطلاحات تمّ سكّها في ملابسات لا يمكن تتبعها بدقة في مقالة قصيرة. في ما بعد، التقط الكثيرون لغة الشماشة وأجروا عليها تعديلات أوسع، صنعت لغة "الراندوك" التي تفاعلت مع الأيام واتَّسعت، وهي الآن موضوعة هذه المقالة القصيرة، برغم أن كلمة راندوك نفسها لا يمكن تتبع مسار سَكِّهَا بسهولة، لكن بطريقة ما يمكن النظر إليها باعتبارها ظاهرة دالَّة على وجود اللغة المضادة التي تتكلمها مجموعة معينة داخل المجتمع. وإذا كانت هناك فرصة للإشارة إلى عامل مساعد على هذا التوسع للغة الراندوك، فهو الضائقة الاقتصادية التي زعزعت كل شيء.
منذ البداية كان حتميَّاً تصادم المسارين؛ مسار الحُكَّام الجُدد وما يرغبون فيه من إعادة صياغة، ومسار عامة الناس المقهورين بكل السبل، التائقين للانفكاك. ولن نعدم الدليل الذي يؤهلنا للقول إن هذا التصادم كان ميدانه اللغة، وساهم بقوة في تقوية اللغة المقاومة.
تَمَثَّل هذا التصادم لعدة سنوات في عمليات إزاحة لغوية مارَستها السلطة الحاكمة بعد انفجار اللغة الجديدة في الشارع، بما هدَّد النموذج الذي تعمل عليه السلطة ضمن مشروعها. تحوَّل الاستخدام اليومي للغة إلى ميدان مقاومة في مواجهة السلطة ولغتها. وأخذت اللغة مكانها ضمن الحركة الكلية للصراع، وسأقول بعد قليل كلمات قليلة حول هذا الصراع.
بشكلٍ ما، انتصرت لغة الراندوك انتصاراً مشهوداً، وتسلَّلت إلى لغة الأكثرية وحتى إلى لغة المثقفين، صانعة لغة هجيناً، يصعب تتبعها أيضاً، لكنها تحظى برضا الفئات التي تتشاركها، بل إنها في انتصار كبير دخلت على اللغة الرسمية في مناسبات متكررة؛ لأنها حيوية، اجتماعية وقوية.
حين نكتب عن لغة الراندوك، سنقول كلمات همبتي دمبتي نفسها: عمّن لديه السلطة. لا أكثر من ذلك.. وربما نضيف: "كيف تُقَاوَم هذه السلطة"؟
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

قالت أليس: "لا أعلم ما تعنيه عندما تقول "عَظمَة". فابتسم همبتي دمبتي بازدراء مردداً: "بالطبع لا تعلمين معنى الكلمة، حتى أخبرك أنا بمعناها". أقصد أن ذلك جدال يسهل دحضه. اعترضت أليس قائلة: لكن "عظمة" لا تعني "جدال يسهل دحضه".
فأجابها همبتي دمبتي هازئاً: عندما أستخدم أنا كلمة ما، فإنها تعني تماماً ما أرغب في أن تعنيه، من دون زيادة أو نقصان.
فردت أليس: فالسؤال هنا هو إن كان باستطاعتك أن تجعل للكلمة أكثر من معنى.
فعقَّب همبتي دمبتي على ذلك قائلاً: السؤال هو عمّن لديه السلطة هنا. لا أكثر من ذلك.
(أليس في بلاد العجائب)
عطفاً على المقتطف أعلاه من (أليس في بلاد العجائب)، يمكن الإشارة إلى أن كل شيء يبدأ من إلى السلطة والسياسة، دون مفاضلة بينهما في الترتيب، ثم إلى الاقتصاد ثم إلى الحياة. ينطبق ذلك حتى على "اللغة" بوصفها الميدان الحيوي للصراع حول السيطرة والقدرة على تشكيل الخطاب والحياة، وبوصف اللغة أيضاً الملكة الرمزية الأهم لتفسير العالم من حولنا.
قبل ثلاثة عقود كان ميدان اللغة في السودان قد بدأ يشهد مستوىً من الصراع الخفيّ حول من لديه السلطة والفاعلية للسيطرة على الفضاء العمومي، حدث ذلك مع وصول جماعة الإخوان المسلمين للسلطة في البلاد عبر انقلاب عسكري.
في ذلك الوقت، أحكم الإسلاميُّون قبضتهم، وشرعوا في تغييرات متعدّدة طِبقًاً لخطَّة معروفة لديهم ومُعلنة للجمهور، يحويها الشعار البارز "صياغة الإنسان السوداني". شمل ذلك تغيُّرات سياسية واجتماعية واقتصادية، والكثير غير ذلك. لكن تغييراً خاصَّاً بدأ على مستوى اللغة وكذلك المفاهيم والدلالات الكامنة فيها بغرض إحكام القيود على المضمون والمعنى، وأيضاً القيود على العلاقات وعلى الأفراد.
في البدء، سيطر الإسلاميون على وسائل الإعلام الجماهيرية، وزحفوا من خلالها إلى الفضاء العمومي والخاص، ونشروا لغة مختلفة عن اللغة السائدة، مصبوغة بمسحة دينية للتعبيرات اللغوية الجديدة التي حلَّت محل تعبيرات سابقة كانت تُستخدم باعتياد للمعنى نفسه. بالنسبة للحُكَّام، كانت اللغة الرسمية في بدايتها تنحو صوب القاموس الديني لتستلف تعبيراتها، وبالطبع كان مُحرجاً لهم أن تطلّ بكثاقة مفردات مثل: "شرتيت. جاح، جُلك. كِسِّير تلج. كَتَمت. طَلَس. قنزب. لقُّوية. الطَارَة. جاوات".
في الواقع، لم يبدأ الصراع عبر اللغة دفعة واحدة، إنما بدأ رويداً رويداً؛ إذ نشأت لغة، أو لغات، موازية، وتخَلَّقت ببطء لتصل مراحل طَغَت فيها على اللغة الرسمية ذات المواصفات التي أرساها الإسلاميون الحاكمون، سنُسمِّي واحدة منها لغة الراندوك.
تربت هذه اللغة في المسارات البعيدة عن أعين الرقابة الرسمية، إلى أن بلَغَت أشدها وانتشرت بلا كابح في طرائق تعبير مفاجئة وصادمة في أول الأمر، ثم أصبحت ضمن تطوّرها لغة الشارع العام التي يتحدثها الناس. صحيح أنها لم تَمْنَح متحدِّيثها قدرةً على حلِّ مشكلات منطقية في الفكر، لكنها لَبَّت باقتدار حاجتهم للتواصل اليومي، ثم مضت إلى مراقٍ رفيعة حين حملت أدبيات الثورة السودانية السلمية التي اندلعت في ديسمبر ٢٠١٨، بكل ما للثورة من تمرد ورفض ودلالات سياسية، وكان لافتاً إبَّان الشكل الحركي للثورة أن يتفاعل الناس مع بيانات موجَّهة مكتوبة بلغة الراندوك. وهنا تم كسر الفرضية التي تزعم أن لغة الأقوياء هي التي تسيطر على الضعفاء.
في مرحلة ما من سيطرة الإخوان المسلمين، أصبحت هناك لغة تُعدُّ علامةً مسجلة لهم. وبدأ شكل من المقاومة يتبلور عن طريق الامتناع عن التحدث بطريقتهم، وعدم استخدام مصطلحاتهم أو مفرداتهم. كان ذلك أشبه برفض شامل لثقافتهم ككل، إلا أن تلك المقاومة ظلت متوارية وخافتة وسط تيار إعلامي وثقافي جارف، ولم تتطور سريعاً لحركة مقاومة معاكسة.
بدأ أول شكل للصراع اللغوي بالشماشة الذين امتلكوا لغتهم الخاصة، المستندة إلى كلمات انقَلَبت حروفها أحياناً، ومفردات تغيرت دلالتها، واصطلاحات تمّ سكّها في ملابسات لا يمكن تتبعها بدقة في مقالة قصيرة. في ما بعد، التقط الكثيرون لغة الشماشة وأجروا عليها تعديلات أوسع، صنعت لغة "الراندوك" التي تفاعلت مع الأيام واتَّسعت، وهي الآن موضوعة هذه المقالة القصيرة، برغم أن كلمة راندوك نفسها لا يمكن تتبع مسار سَكِّهَا بسهولة، لكن بطريقة ما يمكن النظر إليها باعتبارها ظاهرة دالَّة على وجود اللغة المضادة التي تتكلمها مجموعة معينة داخل المجتمع. وإذا كانت هناك فرصة للإشارة إلى عامل مساعد على هذا التوسع للغة الراندوك، فهو الضائقة الاقتصادية التي زعزعت كل شيء.
منذ البداية كان حتميَّاً تصادم المسارين؛ مسار الحُكَّام الجُدد وما يرغبون فيه من إعادة صياغة، ومسار عامة الناس المقهورين بكل السبل، التائقين للانفكاك. ولن نعدم الدليل الذي يؤهلنا للقول إن هذا التصادم كان ميدانه اللغة، وساهم بقوة في تقوية اللغة المقاومة.
تَمَثَّل هذا التصادم لعدة سنوات في عمليات إزاحة لغوية مارَستها السلطة الحاكمة بعد انفجار اللغة الجديدة في الشارع، بما هدَّد النموذج الذي تعمل عليه السلطة ضمن مشروعها. تحوَّل الاستخدام اليومي للغة إلى ميدان مقاومة في مواجهة السلطة ولغتها. وأخذت اللغة مكانها ضمن الحركة الكلية للصراع، وسأقول بعد قليل كلمات قليلة حول هذا الصراع.
بشكلٍ ما، انتصرت لغة الراندوك انتصاراً مشهوداً، وتسلَّلت إلى لغة الأكثرية وحتى إلى لغة المثقفين، صانعة لغة هجيناً، يصعب تتبعها أيضاً، لكنها تحظى برضا الفئات التي تتشاركها، بل إنها في انتصار كبير دخلت على اللغة الرسمية في مناسبات متكررة؛ لأنها حيوية، اجتماعية وقوية.
حين نكتب عن لغة الراندوك، سنقول كلمات همبتي دمبتي نفسها: عمّن لديه السلطة. لا أكثر من ذلك.. وربما نضيف: "كيف تُقَاوَم هذه السلطة"؟
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

الإحساس بالألوان

الإحساس بالألوان
كسودانية أتحدث العربية، وكامرأة (أذكر هذه المقدمة فقط في حال وجدتها ذات صلة)، عشتُ دائماً في بلدان يغلب فيها التحدث بالعربية، سواء في السودان أو في الخليج العربي. كانت تصوري للغة قائمًا على مدى اختلاف اللهجات العربية، والاختلافات اللغوية بين العربية والإنجليزية، بما أني أعرف لغتين فقط. بالنسبة لي، جاءت هذه الاختلافات من الثقافة وتطور اللغة. على سبيل المثال، كلمتا landscape وskyline ليس لهما مكافئ دقيق في اللغة العربية، بل تُترجمان تقريبًا إلى "مشهد طبيعي" و"أفق"، والتي تعني أشياء متعددة مثل الأفق، الاحتمالات، والميل. وهناك أيضًا كلمات جديدة مثل "networking"، التي لها ترجمة حرفية (تشبيك) لكن لا أحد يستخدمها لأن الكلمة الإنجليزية أكثر شيوعًا. ما هو معقد وجميل في اللغة العربية هو أنه، مثل كلمة الأفق، قد تعني العديد من الأشياء الأخرى، ولكن يمكنك أيضًا أن تجد مليون كلمة لوصف الحب، على سبيل المثال.
اليوم، لم أعد أعيش في بلد يغلب فيه التحدث بالعربية، وأصبحت الإنجليزية هي اللغة التي أستخدمها يوميًا بشكل أساسي. ومع تعلمي المزيد عن ثقافات الآخرين واستخداماتهم للغة، اكتسبت منظورًا جديدًا لم أكن على دراية به من قبل. في أحد الأيام، عُرض عليّ قطعة من الكعك، أخذت قضمة واحدة، ولكن بسبب ثقلها لم أتمكن من تناول المزيد. في اللهجة السودانية لدينا كلمة لوصف هذا الإحساس، وهي "قَهَم" وعادة ما يُضاف لها بادئة أو لاحقة لتوضيح من مرّ بهذه التجربة. لا، الكلمة لا تعني الشبع أو الامتلاء، لأنك قد تكون قادرًا على تناول المزيد، لكن عدم القدرة يأتي من ثقل الطعام أو حلاوته الزائدة، أو حتى مجرد رؤيته.
عندما أعود إلى فهمي الجديد، ما وجدته مثيرًا للاهتمام ليس مجرد غياب كلمة إنجليزية مكافئة، بل أن أصدقائي لم يفهموا الشعور الذي كنت أصفه على الإطلاق. كان هذا منظورًا معاكسًا لمعرفتي السابقة. غياب الكلمات يزيل الإحساس المرتبط بها. معلومة ممتعة قبل أن أواصل: هذه الكلمة موجودة في الثقافة المكسيكية، ولكن عندما تُستخدم لوصف شخص ما، فإنها تعني أنه مليء بالمجاملات الزائفة أو غير المخلصة، بينما في السودانية تُستخدم لوصف شخص يضيق عليك بالتحدث كثيرًا، على سبيل المثال.
هذا الاكتشاف جعلني أشعر بالفضول تجاه كيفية تأثير اللغة على العواطف. بالطبع هناك جانب أن قدرتك على وصف مشاعرك بشكل أفضل يساعدك في فهمها، ولكن هذا يعني أنك يجب أن تكون قادرًا على التعرف على مشاعرك في المقام الأول. يصف جوناثان ريي في كتابه I See A Voice: A Philosophical History هذه العملية على أنها ذات اتجاهين، بمجرد حدوث شيء ما، تكون هناك تجربة داخلية "الإدراك" وتجربة خارجية "التعبير أو الفعل". ولكن نوع هذه التجارب يتأثر بأشياء مثل الخيال، التأمل، والوعي، بناءً على كيفية إدارتك لها كما يفعل قائد الأوركسترا. بالنسبة لي، هذا هو دور الثقافة؛ فالخيال حول شعور ما قد يتأثر بالثقافة المحيطة بك، وحقيقة أنك لا تملك كلمة لوصفه لا تعني أنك لا تشعر به. ربما يمكن فهم ذلك بشكل أفضل من خلال شيء نعتقد جميعًا أننا نفهمه بنفس الطريقة، مثل الألوان.
في الفيلم الوثائقي القصير من Vox بعنوان The surprising pattern behind color names around the world، يوصف كيف أن العديد من اللغات حول العالم لديها فقط ثلاثة أو أربعة ألوان: داكن، فاتح، أحمر، أخضر أو أصفر. على الرغم من وجود عدد لا حصر له من الألوان في العالم، تختار الثقافات المختلفة الألوان التي ستسميها. قبل أن يتوصل العلماء إلى هذا الفهم، كانوا يعتقدون أن الأشخاص الذين لغاتهم لديها أسماء ألوان محدودة يعانون من عمى الألوان!
إذا كنت سودانيًا، فقد تكون الفقرة السابقة قد أثارت لديك فكرة معينة، وهي كلمتا "أزرق" و"أبيض" في اللغة العربية، حيث تم استخدامهما تاريخيًا في السودان لوصف الفاتح والداكن. على سبيل المثال، النيل الأبيض والنيل الأزرق يأتيان من هذا الفهم. يتدفق النيل الأزرق من بحيرة تانا في جبال إثيوبيا بسرعة، حاملاً الكثير من الطمي، بينما يأتي النيل الأبيض من بحيرة فيكتوريا في أوغندا، وقد قطع مسافة طويلة، مما يجعله هادئًا وعريضًا ولا يحمل الطمي.
التوب الأبيض وتوب الزراق (التوب الأزرق) يحملان تسميات مشابهة. المادة الأساسية لصنع الأقمشة في أجزاء كبيرة من السودان هي القطن، ويمكن تتبع النسيج الحديث إلى القرن التاسع عشر. ومع ذلك، تم العثور على منسوجات قطنية أيضًا في حفريات مروي والنوبة السفلى، مما يشير إلى تاريخ أقدم. الملابس البيضاء منطقية مع مناخنا الحار، واسم الأبيض موجود منذ زمن بعيد، مثل اسم الأُبيض، عاصمة شمال كردفان، التي حصلت على اسمها من حمار أبيض. الأزرق، من ناحية أخرى، قد يكون محيرًا، حيث يشير التوب الأزرق عادة إلى توب أبيض مصبوغ بالنيلة. نبتة النيلة معروفة في السودان ومصر، وتُستخدم لوصف الظلام أو السواد، على الرغم من أنها تنتج قماشًا أزرق اللون.
يتجاوز ارتباك الألوان في اللهجة السودانية الأقمشة ليشمل الكائنات التي ترتديها وكيف نصف ألوان بعضنا البعض. الألوان الأربعة المعروفة "لألوان الناس" هي الأخضر، الأصفر، الأزرق، والأحمر. هناك كلمات مثل "حلبي" لوصف ذوي البشرة الفاتحة، وهي تعود إلى أصول واضحة، والأحمر يُستخدم أيضًا لوصف الأشخاص ذوي البشرة الفاتحة لأن بشرتهم تتحول إلى الأحمر في الحرارة. لكن كيف توصلنا إلى وصف الناس بالأخضر؟ من المثير للاهتمام أن هذا الوصف اللوني ليس ظاهرة سودانية فقط، بل معروف أيضًا في دول عربية أخرى مثل عمان والكويت. هناك تكهنات مختلفة حول كيفية حدوث ذلك، يفترض البعض أنه يأتي من حقيقة أن الأزرق يعني الداكن، والأصفر يعني الفاتح، وبالتالي الأخضر يعني بينهما. تفسير أحدث يرتبط بما يسمى undertones (درجات تحتية)، وهو مصطلح أصبح شائعًا مع ظهور ماركات المكياج للبشرة الداكنة في السنوات الأخيرة. يقول هذا التفسير إنه على الرغم من أن البشرة السوداء بنية اللون، لتفتيح أو تغميق المكياج، لا يتم خلطه مع الأبيض، بل مع ألوان تحتية. إذا كانت لديك تدرجات دافئة، يُخلط المكياج مع الأصفر، وإذا كانت لديك تدرجات باردة، يُخلط مع الأزرق.
بغض النظر عما إذا كان السودانيون في الماضي قد رأوا التدرجات اللونية أو ببساطة لم يكن لديهم الوقت لاختراع أسماء جديدة لألوان مختلفة، ما هو مؤكد هو أن اللغة والعواطف والإدراك مرتبطون بطرق عديدة تثير النقاش لعقود قادمة.
لوحة الغلاف من تصميم زينب جعفر
كسودانية أتحدث العربية، وكامرأة (أذكر هذه المقدمة فقط في حال وجدتها ذات صلة)، عشتُ دائماً في بلدان يغلب فيها التحدث بالعربية، سواء في السودان أو في الخليج العربي. كانت تصوري للغة قائمًا على مدى اختلاف اللهجات العربية، والاختلافات اللغوية بين العربية والإنجليزية، بما أني أعرف لغتين فقط. بالنسبة لي، جاءت هذه الاختلافات من الثقافة وتطور اللغة. على سبيل المثال، كلمتا landscape وskyline ليس لهما مكافئ دقيق في اللغة العربية، بل تُترجمان تقريبًا إلى "مشهد طبيعي" و"أفق"، والتي تعني أشياء متعددة مثل الأفق، الاحتمالات، والميل. وهناك أيضًا كلمات جديدة مثل "networking"، التي لها ترجمة حرفية (تشبيك) لكن لا أحد يستخدمها لأن الكلمة الإنجليزية أكثر شيوعًا. ما هو معقد وجميل في اللغة العربية هو أنه، مثل كلمة الأفق، قد تعني العديد من الأشياء الأخرى، ولكن يمكنك أيضًا أن تجد مليون كلمة لوصف الحب، على سبيل المثال.
اليوم، لم أعد أعيش في بلد يغلب فيه التحدث بالعربية، وأصبحت الإنجليزية هي اللغة التي أستخدمها يوميًا بشكل أساسي. ومع تعلمي المزيد عن ثقافات الآخرين واستخداماتهم للغة، اكتسبت منظورًا جديدًا لم أكن على دراية به من قبل. في أحد الأيام، عُرض عليّ قطعة من الكعك، أخذت قضمة واحدة، ولكن بسبب ثقلها لم أتمكن من تناول المزيد. في اللهجة السودانية لدينا كلمة لوصف هذا الإحساس، وهي "قَهَم" وعادة ما يُضاف لها بادئة أو لاحقة لتوضيح من مرّ بهذه التجربة. لا، الكلمة لا تعني الشبع أو الامتلاء، لأنك قد تكون قادرًا على تناول المزيد، لكن عدم القدرة يأتي من ثقل الطعام أو حلاوته الزائدة، أو حتى مجرد رؤيته.
عندما أعود إلى فهمي الجديد، ما وجدته مثيرًا للاهتمام ليس مجرد غياب كلمة إنجليزية مكافئة، بل أن أصدقائي لم يفهموا الشعور الذي كنت أصفه على الإطلاق. كان هذا منظورًا معاكسًا لمعرفتي السابقة. غياب الكلمات يزيل الإحساس المرتبط بها. معلومة ممتعة قبل أن أواصل: هذه الكلمة موجودة في الثقافة المكسيكية، ولكن عندما تُستخدم لوصف شخص ما، فإنها تعني أنه مليء بالمجاملات الزائفة أو غير المخلصة، بينما في السودانية تُستخدم لوصف شخص يضيق عليك بالتحدث كثيرًا، على سبيل المثال.
هذا الاكتشاف جعلني أشعر بالفضول تجاه كيفية تأثير اللغة على العواطف. بالطبع هناك جانب أن قدرتك على وصف مشاعرك بشكل أفضل يساعدك في فهمها، ولكن هذا يعني أنك يجب أن تكون قادرًا على التعرف على مشاعرك في المقام الأول. يصف جوناثان ريي في كتابه I See A Voice: A Philosophical History هذه العملية على أنها ذات اتجاهين، بمجرد حدوث شيء ما، تكون هناك تجربة داخلية "الإدراك" وتجربة خارجية "التعبير أو الفعل". ولكن نوع هذه التجارب يتأثر بأشياء مثل الخيال، التأمل، والوعي، بناءً على كيفية إدارتك لها كما يفعل قائد الأوركسترا. بالنسبة لي، هذا هو دور الثقافة؛ فالخيال حول شعور ما قد يتأثر بالثقافة المحيطة بك، وحقيقة أنك لا تملك كلمة لوصفه لا تعني أنك لا تشعر به. ربما يمكن فهم ذلك بشكل أفضل من خلال شيء نعتقد جميعًا أننا نفهمه بنفس الطريقة، مثل الألوان.
في الفيلم الوثائقي القصير من Vox بعنوان The surprising pattern behind color names around the world، يوصف كيف أن العديد من اللغات حول العالم لديها فقط ثلاثة أو أربعة ألوان: داكن، فاتح، أحمر، أخضر أو أصفر. على الرغم من وجود عدد لا حصر له من الألوان في العالم، تختار الثقافات المختلفة الألوان التي ستسميها. قبل أن يتوصل العلماء إلى هذا الفهم، كانوا يعتقدون أن الأشخاص الذين لغاتهم لديها أسماء ألوان محدودة يعانون من عمى الألوان!
إذا كنت سودانيًا، فقد تكون الفقرة السابقة قد أثارت لديك فكرة معينة، وهي كلمتا "أزرق" و"أبيض" في اللغة العربية، حيث تم استخدامهما تاريخيًا في السودان لوصف الفاتح والداكن. على سبيل المثال، النيل الأبيض والنيل الأزرق يأتيان من هذا الفهم. يتدفق النيل الأزرق من بحيرة تانا في جبال إثيوبيا بسرعة، حاملاً الكثير من الطمي، بينما يأتي النيل الأبيض من بحيرة فيكتوريا في أوغندا، وقد قطع مسافة طويلة، مما يجعله هادئًا وعريضًا ولا يحمل الطمي.
التوب الأبيض وتوب الزراق (التوب الأزرق) يحملان تسميات مشابهة. المادة الأساسية لصنع الأقمشة في أجزاء كبيرة من السودان هي القطن، ويمكن تتبع النسيج الحديث إلى القرن التاسع عشر. ومع ذلك، تم العثور على منسوجات قطنية أيضًا في حفريات مروي والنوبة السفلى، مما يشير إلى تاريخ أقدم. الملابس البيضاء منطقية مع مناخنا الحار، واسم الأبيض موجود منذ زمن بعيد، مثل اسم الأُبيض، عاصمة شمال كردفان، التي حصلت على اسمها من حمار أبيض. الأزرق، من ناحية أخرى، قد يكون محيرًا، حيث يشير التوب الأزرق عادة إلى توب أبيض مصبوغ بالنيلة. نبتة النيلة معروفة في السودان ومصر، وتُستخدم لوصف الظلام أو السواد، على الرغم من أنها تنتج قماشًا أزرق اللون.
يتجاوز ارتباك الألوان في اللهجة السودانية الأقمشة ليشمل الكائنات التي ترتديها وكيف نصف ألوان بعضنا البعض. الألوان الأربعة المعروفة "لألوان الناس" هي الأخضر، الأصفر، الأزرق، والأحمر. هناك كلمات مثل "حلبي" لوصف ذوي البشرة الفاتحة، وهي تعود إلى أصول واضحة، والأحمر يُستخدم أيضًا لوصف الأشخاص ذوي البشرة الفاتحة لأن بشرتهم تتحول إلى الأحمر في الحرارة. لكن كيف توصلنا إلى وصف الناس بالأخضر؟ من المثير للاهتمام أن هذا الوصف اللوني ليس ظاهرة سودانية فقط، بل معروف أيضًا في دول عربية أخرى مثل عمان والكويت. هناك تكهنات مختلفة حول كيفية حدوث ذلك، يفترض البعض أنه يأتي من حقيقة أن الأزرق يعني الداكن، والأصفر يعني الفاتح، وبالتالي الأخضر يعني بينهما. تفسير أحدث يرتبط بما يسمى undertones (درجات تحتية)، وهو مصطلح أصبح شائعًا مع ظهور ماركات المكياج للبشرة الداكنة في السنوات الأخيرة. يقول هذا التفسير إنه على الرغم من أن البشرة السوداء بنية اللون، لتفتيح أو تغميق المكياج، لا يتم خلطه مع الأبيض، بل مع ألوان تحتية. إذا كانت لديك تدرجات دافئة، يُخلط المكياج مع الأصفر، وإذا كانت لديك تدرجات باردة، يُخلط مع الأزرق.
بغض النظر عما إذا كان السودانيون في الماضي قد رأوا التدرجات اللونية أو ببساطة لم يكن لديهم الوقت لاختراع أسماء جديدة لألوان مختلفة، ما هو مؤكد هو أن اللغة والعواطف والإدراك مرتبطون بطرق عديدة تثير النقاش لعقود قادمة.
لوحة الغلاف من تصميم زينب جعفر

كسودانية أتحدث العربية، وكامرأة (أذكر هذه المقدمة فقط في حال وجدتها ذات صلة)، عشتُ دائماً في بلدان يغلب فيها التحدث بالعربية، سواء في السودان أو في الخليج العربي. كانت تصوري للغة قائمًا على مدى اختلاف اللهجات العربية، والاختلافات اللغوية بين العربية والإنجليزية، بما أني أعرف لغتين فقط. بالنسبة لي، جاءت هذه الاختلافات من الثقافة وتطور اللغة. على سبيل المثال، كلمتا landscape وskyline ليس لهما مكافئ دقيق في اللغة العربية، بل تُترجمان تقريبًا إلى "مشهد طبيعي" و"أفق"، والتي تعني أشياء متعددة مثل الأفق، الاحتمالات، والميل. وهناك أيضًا كلمات جديدة مثل "networking"، التي لها ترجمة حرفية (تشبيك) لكن لا أحد يستخدمها لأن الكلمة الإنجليزية أكثر شيوعًا. ما هو معقد وجميل في اللغة العربية هو أنه، مثل كلمة الأفق، قد تعني العديد من الأشياء الأخرى، ولكن يمكنك أيضًا أن تجد مليون كلمة لوصف الحب، على سبيل المثال.
اليوم، لم أعد أعيش في بلد يغلب فيه التحدث بالعربية، وأصبحت الإنجليزية هي اللغة التي أستخدمها يوميًا بشكل أساسي. ومع تعلمي المزيد عن ثقافات الآخرين واستخداماتهم للغة، اكتسبت منظورًا جديدًا لم أكن على دراية به من قبل. في أحد الأيام، عُرض عليّ قطعة من الكعك، أخذت قضمة واحدة، ولكن بسبب ثقلها لم أتمكن من تناول المزيد. في اللهجة السودانية لدينا كلمة لوصف هذا الإحساس، وهي "قَهَم" وعادة ما يُضاف لها بادئة أو لاحقة لتوضيح من مرّ بهذه التجربة. لا، الكلمة لا تعني الشبع أو الامتلاء، لأنك قد تكون قادرًا على تناول المزيد، لكن عدم القدرة يأتي من ثقل الطعام أو حلاوته الزائدة، أو حتى مجرد رؤيته.
عندما أعود إلى فهمي الجديد، ما وجدته مثيرًا للاهتمام ليس مجرد غياب كلمة إنجليزية مكافئة، بل أن أصدقائي لم يفهموا الشعور الذي كنت أصفه على الإطلاق. كان هذا منظورًا معاكسًا لمعرفتي السابقة. غياب الكلمات يزيل الإحساس المرتبط بها. معلومة ممتعة قبل أن أواصل: هذه الكلمة موجودة في الثقافة المكسيكية، ولكن عندما تُستخدم لوصف شخص ما، فإنها تعني أنه مليء بالمجاملات الزائفة أو غير المخلصة، بينما في السودانية تُستخدم لوصف شخص يضيق عليك بالتحدث كثيرًا، على سبيل المثال.
هذا الاكتشاف جعلني أشعر بالفضول تجاه كيفية تأثير اللغة على العواطف. بالطبع هناك جانب أن قدرتك على وصف مشاعرك بشكل أفضل يساعدك في فهمها، ولكن هذا يعني أنك يجب أن تكون قادرًا على التعرف على مشاعرك في المقام الأول. يصف جوناثان ريي في كتابه I See A Voice: A Philosophical History هذه العملية على أنها ذات اتجاهين، بمجرد حدوث شيء ما، تكون هناك تجربة داخلية "الإدراك" وتجربة خارجية "التعبير أو الفعل". ولكن نوع هذه التجارب يتأثر بأشياء مثل الخيال، التأمل، والوعي، بناءً على كيفية إدارتك لها كما يفعل قائد الأوركسترا. بالنسبة لي، هذا هو دور الثقافة؛ فالخيال حول شعور ما قد يتأثر بالثقافة المحيطة بك، وحقيقة أنك لا تملك كلمة لوصفه لا تعني أنك لا تشعر به. ربما يمكن فهم ذلك بشكل أفضل من خلال شيء نعتقد جميعًا أننا نفهمه بنفس الطريقة، مثل الألوان.
في الفيلم الوثائقي القصير من Vox بعنوان The surprising pattern behind color names around the world، يوصف كيف أن العديد من اللغات حول العالم لديها فقط ثلاثة أو أربعة ألوان: داكن، فاتح، أحمر، أخضر أو أصفر. على الرغم من وجود عدد لا حصر له من الألوان في العالم، تختار الثقافات المختلفة الألوان التي ستسميها. قبل أن يتوصل العلماء إلى هذا الفهم، كانوا يعتقدون أن الأشخاص الذين لغاتهم لديها أسماء ألوان محدودة يعانون من عمى الألوان!
إذا كنت سودانيًا، فقد تكون الفقرة السابقة قد أثارت لديك فكرة معينة، وهي كلمتا "أزرق" و"أبيض" في اللغة العربية، حيث تم استخدامهما تاريخيًا في السودان لوصف الفاتح والداكن. على سبيل المثال، النيل الأبيض والنيل الأزرق يأتيان من هذا الفهم. يتدفق النيل الأزرق من بحيرة تانا في جبال إثيوبيا بسرعة، حاملاً الكثير من الطمي، بينما يأتي النيل الأبيض من بحيرة فيكتوريا في أوغندا، وقد قطع مسافة طويلة، مما يجعله هادئًا وعريضًا ولا يحمل الطمي.
التوب الأبيض وتوب الزراق (التوب الأزرق) يحملان تسميات مشابهة. المادة الأساسية لصنع الأقمشة في أجزاء كبيرة من السودان هي القطن، ويمكن تتبع النسيج الحديث إلى القرن التاسع عشر. ومع ذلك، تم العثور على منسوجات قطنية أيضًا في حفريات مروي والنوبة السفلى، مما يشير إلى تاريخ أقدم. الملابس البيضاء منطقية مع مناخنا الحار، واسم الأبيض موجود منذ زمن بعيد، مثل اسم الأُبيض، عاصمة شمال كردفان، التي حصلت على اسمها من حمار أبيض. الأزرق، من ناحية أخرى، قد يكون محيرًا، حيث يشير التوب الأزرق عادة إلى توب أبيض مصبوغ بالنيلة. نبتة النيلة معروفة في السودان ومصر، وتُستخدم لوصف الظلام أو السواد، على الرغم من أنها تنتج قماشًا أزرق اللون.
يتجاوز ارتباك الألوان في اللهجة السودانية الأقمشة ليشمل الكائنات التي ترتديها وكيف نصف ألوان بعضنا البعض. الألوان الأربعة المعروفة "لألوان الناس" هي الأخضر، الأصفر، الأزرق، والأحمر. هناك كلمات مثل "حلبي" لوصف ذوي البشرة الفاتحة، وهي تعود إلى أصول واضحة، والأحمر يُستخدم أيضًا لوصف الأشخاص ذوي البشرة الفاتحة لأن بشرتهم تتحول إلى الأحمر في الحرارة. لكن كيف توصلنا إلى وصف الناس بالأخضر؟ من المثير للاهتمام أن هذا الوصف اللوني ليس ظاهرة سودانية فقط، بل معروف أيضًا في دول عربية أخرى مثل عمان والكويت. هناك تكهنات مختلفة حول كيفية حدوث ذلك، يفترض البعض أنه يأتي من حقيقة أن الأزرق يعني الداكن، والأصفر يعني الفاتح، وبالتالي الأخضر يعني بينهما. تفسير أحدث يرتبط بما يسمى undertones (درجات تحتية)، وهو مصطلح أصبح شائعًا مع ظهور ماركات المكياج للبشرة الداكنة في السنوات الأخيرة. يقول هذا التفسير إنه على الرغم من أن البشرة السوداء بنية اللون، لتفتيح أو تغميق المكياج، لا يتم خلطه مع الأبيض، بل مع ألوان تحتية. إذا كانت لديك تدرجات دافئة، يُخلط المكياج مع الأصفر، وإذا كانت لديك تدرجات باردة، يُخلط مع الأزرق.
بغض النظر عما إذا كان السودانيون في الماضي قد رأوا التدرجات اللونية أو ببساطة لم يكن لديهم الوقت لاختراع أسماء جديدة لألوان مختلفة، ما هو مؤكد هو أن اللغة والعواطف والإدراك مرتبطون بطرق عديدة تثير النقاش لعقود قادمة.
لوحة الغلاف من تصميم زينب جعفر

اللغة والتراث

اللغة والتراث
تمثل اللغة الوسيط الأساسي للتعبير بين المجتمعات عن كل من هويتها وتراثها الثقافي. الأهم من ذلك هي وسيلتهم لتناقل معارفهم المحلية والقيم الثقافية والاجتماعية والذاكرة الجماعية. كما تدخل اللغة في كل أشكال التعبير الشفهي للتراث. في هذه الحلقة القصيرة من خُرْطُوم بودكاست نتناول موضوع اللغة كمستودع للتراث والثقافة المحلية والمعرفة الأصلية. تم إنتاج الموسم الثاني من خُرْطُوم بودكاست كجزء من حملة #تراثنا_سودانا والممولة من قبل مشروع صون تراث السودان الحي.
الحلقة القصيرة اللغة والتراث من خرطوم بودكاست متاحة الآن على كل منصات الاستماع.
المتحدث في حلقة اللغة والتراث هو سانديوس كودى، كاتب، ومحاضر بجامعة الخرطوم ومهتم بالفنون والثقافة. كما يظهر تسجيل مقطع لمحمد الأمين من فيلم فرقة الأمل من إنتاج حملة ناس شغالة وستوديوهات كولوسيوم. محمد الأمين أستاذ موسيقى، ومؤسس مركز اومكر للدراسات، المهتم بتوثيق تراث البجا ولغة البداويت بشرق السودان.
تمثل اللغة الوسيط الأساسي للتعبير بين المجتمعات عن كل من هويتها وتراثها الثقافي. الأهم من ذلك هي وسيلتهم لتناقل معارفهم المحلية والقيم الثقافية والاجتماعية والذاكرة الجماعية. كما تدخل اللغة في كل أشكال التعبير الشفهي للتراث. في هذه الحلقة القصيرة من خُرْطُوم بودكاست نتناول موضوع اللغة كمستودع للتراث والثقافة المحلية والمعرفة الأصلية. تم إنتاج الموسم الثاني من خُرْطُوم بودكاست كجزء من حملة #تراثنا_سودانا والممولة من قبل مشروع صون تراث السودان الحي.
الحلقة القصيرة اللغة والتراث من خرطوم بودكاست متاحة الآن على كل منصات الاستماع.
المتحدث في حلقة اللغة والتراث هو سانديوس كودى، كاتب، ومحاضر بجامعة الخرطوم ومهتم بالفنون والثقافة. كما يظهر تسجيل مقطع لمحمد الأمين من فيلم فرقة الأمل من إنتاج حملة ناس شغالة وستوديوهات كولوسيوم. محمد الأمين أستاذ موسيقى، ومؤسس مركز اومكر للدراسات، المهتم بتوثيق تراث البجا ولغة البداويت بشرق السودان.

تمثل اللغة الوسيط الأساسي للتعبير بين المجتمعات عن كل من هويتها وتراثها الثقافي. الأهم من ذلك هي وسيلتهم لتناقل معارفهم المحلية والقيم الثقافية والاجتماعية والذاكرة الجماعية. كما تدخل اللغة في كل أشكال التعبير الشفهي للتراث. في هذه الحلقة القصيرة من خُرْطُوم بودكاست نتناول موضوع اللغة كمستودع للتراث والثقافة المحلية والمعرفة الأصلية. تم إنتاج الموسم الثاني من خُرْطُوم بودكاست كجزء من حملة #تراثنا_سودانا والممولة من قبل مشروع صون تراث السودان الحي.
الحلقة القصيرة اللغة والتراث من خرطوم بودكاست متاحة الآن على كل منصات الاستماع.
المتحدث في حلقة اللغة والتراث هو سانديوس كودى، كاتب، ومحاضر بجامعة الخرطوم ومهتم بالفنون والثقافة. كما يظهر تسجيل مقطع لمحمد الأمين من فيلم فرقة الأمل من إنتاج حملة ناس شغالة وستوديوهات كولوسيوم. محمد الأمين أستاذ موسيقى، ومؤسس مركز اومكر للدراسات، المهتم بتوثيق تراث البجا ولغة البداويت بشرق السودان.
اللغة كأرشيف للتراث
تُخترع اللغات وتُضاف إليها كل يوم كلمات وتعبيرات جديدة لمواكبة العصر والتوجهات الجديدة. ومع نمو أجزاء من اللغة، تموت أجزاء أخرى، وتأخذ معها أي ترميز ثقافي كانت تحمله.

قص الأتر

قص الأتر
[وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ]
الآية 11 من سورة القصص.
قصّ الأَتَر (الأَتَر) هي مهنة متوارثة منذ قديم الزمان لا يُعرف متى بدأ تاريخ ممارستها بالتحديد، ربما منذ فترات تاريخية موغلة في القدم، إلى أن أصبح قصّاص الأَتَر وظيفة مُعترف بها وموظفاً معتمداً لدى البوليس "الشرطة". فقد ارتبط قص الأَتَر بكشف حقيقة السرقات بأنواعها سواء سرقات منازل أو مؤسسات حكومية أو ماشية.
قصّاص الأَتَر هو شخص يتمتع بقوة الملاحظة وبمهارة عالية في معرفة أوصاف السارق، سواء كان طويلاً أم قصيراً، سميناً أم ضعيفاً، أو حتى إن كان به عيب خُلقي (أعرج أعور أو غيره) وحجم ومقاس الرجل. غالباً تكون هذه المهنة متوارثة، يعلّمها الآباء لأبنائهم، أو غير متوارثة نتيجة لفراسة وذكاء وقوة ملاحظة القصّاص.
القصّاص له اعتبار خاص ومهابة في المجتمع. عند اكتشاف سرقة ما وقبل استدعاء قصاص الأَتَر، يقوم أصحاب السرقة بالحفاظ على الأتَر بتغطيته بوعاء كبير للاحتفاظ به إلى حين حضور القصّاص، خاصة في القرى والمناطق شديدة الرياح.
من القصص المشهورة في قص الأَتر، الإعرابي الذي فقد جمله، صادفه قاصٕ للأتَر فسأله عدداً من الأسئلة: هل الجمل الذي تملكه أعور؟ فقال له نعم، فسأله هل الجمل أعرج؟ فقال له نعم، فسأله صاحب الجمل أين وجدته؟، فردَّ عليه: أنا لم أجده ولم أرَه، ولكن عرفته من أَتَره على الأرض، أعرج لأن أَتَره عميق في الأرض في جهة واحدة، وأعور لأنه كان يأكل الحشائش من اتجاه ويترك الآخر، فأمره أن يتبع الأَتر إلى أن وجد جمله.
أما مدينة الأبيض فقد كانت تعتمد على قصاص الأتَر في كشف السرقات حتى وقت قريب، حيث تم اكتشاف العديد من جرائم السرقة في مدينة الأبيض، ومنها سرقات غامضة عجزت الشرطة عن كشفها، فمعلومات قصاص الأَتَر تكون دقيقة على الرغم من تطور أسلوب الحرامية وطرقهم المختلفة في تضليل القصاص، مثلاً تغيير طريقة المشي أو قلب الحذاء أو غيره، ولازالت هذه المهنة مستمرة في القرى والأرياف حتى يومنا هذا.
تم كتابة هذه المقالة بواسطة أماني يوسف بشير بناءً على مقابلة شخصية مع الأستاذ/ يوسف بشير إدريس. صباح السبت 11/ يناير / 2025م*.
صورة الغلاف © أماني يوسف بشير
[وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ]
الآية 11 من سورة القصص.
قصّ الأَتَر (الأَتَر) هي مهنة متوارثة منذ قديم الزمان لا يُعرف متى بدأ تاريخ ممارستها بالتحديد، ربما منذ فترات تاريخية موغلة في القدم، إلى أن أصبح قصّاص الأَتَر وظيفة مُعترف بها وموظفاً معتمداً لدى البوليس "الشرطة". فقد ارتبط قص الأَتَر بكشف حقيقة السرقات بأنواعها سواء سرقات منازل أو مؤسسات حكومية أو ماشية.
قصّاص الأَتَر هو شخص يتمتع بقوة الملاحظة وبمهارة عالية في معرفة أوصاف السارق، سواء كان طويلاً أم قصيراً، سميناً أم ضعيفاً، أو حتى إن كان به عيب خُلقي (أعرج أعور أو غيره) وحجم ومقاس الرجل. غالباً تكون هذه المهنة متوارثة، يعلّمها الآباء لأبنائهم، أو غير متوارثة نتيجة لفراسة وذكاء وقوة ملاحظة القصّاص.
القصّاص له اعتبار خاص ومهابة في المجتمع. عند اكتشاف سرقة ما وقبل استدعاء قصاص الأَتَر، يقوم أصحاب السرقة بالحفاظ على الأتَر بتغطيته بوعاء كبير للاحتفاظ به إلى حين حضور القصّاص، خاصة في القرى والمناطق شديدة الرياح.
من القصص المشهورة في قص الأَتر، الإعرابي الذي فقد جمله، صادفه قاصٕ للأتَر فسأله عدداً من الأسئلة: هل الجمل الذي تملكه أعور؟ فقال له نعم، فسأله هل الجمل أعرج؟ فقال له نعم، فسأله صاحب الجمل أين وجدته؟، فردَّ عليه: أنا لم أجده ولم أرَه، ولكن عرفته من أَتَره على الأرض، أعرج لأن أَتَره عميق في الأرض في جهة واحدة، وأعور لأنه كان يأكل الحشائش من اتجاه ويترك الآخر، فأمره أن يتبع الأَتر إلى أن وجد جمله.
أما مدينة الأبيض فقد كانت تعتمد على قصاص الأتَر في كشف السرقات حتى وقت قريب، حيث تم اكتشاف العديد من جرائم السرقة في مدينة الأبيض، ومنها سرقات غامضة عجزت الشرطة عن كشفها، فمعلومات قصاص الأَتَر تكون دقيقة على الرغم من تطور أسلوب الحرامية وطرقهم المختلفة في تضليل القصاص، مثلاً تغيير طريقة المشي أو قلب الحذاء أو غيره، ولازالت هذه المهنة مستمرة في القرى والأرياف حتى يومنا هذا.
تم كتابة هذه المقالة بواسطة أماني يوسف بشير بناءً على مقابلة شخصية مع الأستاذ/ يوسف بشير إدريس. صباح السبت 11/ يناير / 2025م*.
صورة الغلاف © أماني يوسف بشير

[وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ]
الآية 11 من سورة القصص.
قصّ الأَتَر (الأَتَر) هي مهنة متوارثة منذ قديم الزمان لا يُعرف متى بدأ تاريخ ممارستها بالتحديد، ربما منذ فترات تاريخية موغلة في القدم، إلى أن أصبح قصّاص الأَتَر وظيفة مُعترف بها وموظفاً معتمداً لدى البوليس "الشرطة". فقد ارتبط قص الأَتَر بكشف حقيقة السرقات بأنواعها سواء سرقات منازل أو مؤسسات حكومية أو ماشية.
قصّاص الأَتَر هو شخص يتمتع بقوة الملاحظة وبمهارة عالية في معرفة أوصاف السارق، سواء كان طويلاً أم قصيراً، سميناً أم ضعيفاً، أو حتى إن كان به عيب خُلقي (أعرج أعور أو غيره) وحجم ومقاس الرجل. غالباً تكون هذه المهنة متوارثة، يعلّمها الآباء لأبنائهم، أو غير متوارثة نتيجة لفراسة وذكاء وقوة ملاحظة القصّاص.
القصّاص له اعتبار خاص ومهابة في المجتمع. عند اكتشاف سرقة ما وقبل استدعاء قصاص الأَتَر، يقوم أصحاب السرقة بالحفاظ على الأتَر بتغطيته بوعاء كبير للاحتفاظ به إلى حين حضور القصّاص، خاصة في القرى والمناطق شديدة الرياح.
من القصص المشهورة في قص الأَتر، الإعرابي الذي فقد جمله، صادفه قاصٕ للأتَر فسأله عدداً من الأسئلة: هل الجمل الذي تملكه أعور؟ فقال له نعم، فسأله هل الجمل أعرج؟ فقال له نعم، فسأله صاحب الجمل أين وجدته؟، فردَّ عليه: أنا لم أجده ولم أرَه، ولكن عرفته من أَتَره على الأرض، أعرج لأن أَتَره عميق في الأرض في جهة واحدة، وأعور لأنه كان يأكل الحشائش من اتجاه ويترك الآخر، فأمره أن يتبع الأَتر إلى أن وجد جمله.
أما مدينة الأبيض فقد كانت تعتمد على قصاص الأتَر في كشف السرقات حتى وقت قريب، حيث تم اكتشاف العديد من جرائم السرقة في مدينة الأبيض، ومنها سرقات غامضة عجزت الشرطة عن كشفها، فمعلومات قصاص الأَتَر تكون دقيقة على الرغم من تطور أسلوب الحرامية وطرقهم المختلفة في تضليل القصاص، مثلاً تغيير طريقة المشي أو قلب الحذاء أو غيره، ولازالت هذه المهنة مستمرة في القرى والأرياف حتى يومنا هذا.
تم كتابة هذه المقالة بواسطة أماني يوسف بشير بناءً على مقابلة شخصية مع الأستاذ/ يوسف بشير إدريس. صباح السبت 11/ يناير / 2025م*.
صورة الغلاف © أماني يوسف بشير

التهجِير النوبيّ واللُّغة

التهجِير النوبيّ واللُّغة
النوبيُّون هُم مَن في أقصى شمال السودان، مِن الحدود الفاصلة بين السودان ومصر حتّى منطقة الدبَّة جنوب دنقلا جنوباً. وفي اتفاقية مياه النيل بين الدولتين عام ١٩٥٩م، نَصَّت هذه الاتفاقية على تهجير من هُم في السودان من فرس (في نهاية مثلث وادي حلفا) إلى منطقة دال في مسافة طولية على ضفاف النيل شرقاً وغرباً -تُقدَّر بـ١٧٠ كيلو متراً- لتمكين مصر من بناء السد العالي في صعيد مصر، لأن المياه -خلف السد- ستَغمُر هذه المنطقة الممتدَّة.
كان الوفد الذي مَثَّلَ السودان على رأسه اللواء طلعت فريد. وعلى رأس مفاوضي مصر اللواء خالد محيي الدين، كلاهما من المجلس العسكري في كل بلد. كان الجنرال إبراهيم عبود، الحاكم العسكري في السودان، قد وَصَّى طلعت فريد بقوله: "الماء عندنا كثير، عندنا نيل ومطر. ما يقوله (عَمُّك) جمال هو الذي يسير١.
وسارَ ما قاله جمال عبد الناصر، الحاكم العسكري لمصر. تم تقسيم مياه النيل بين السودان ومصر على أساس أن نهر النيل يَتَشَكَّل في الخرطوم، ويسير شمالاً منها. وعلى هذا، صار لمصر٥٥.٥٪ من مياهه، وللسودان ۱۸٫٥٪ منها. رَفض ميرغني حمزة -وزير الريّ السوداني- وحَذَّر الحضور من مغبَّة انفراد مصر والسودان بأكثر مياه النيل، هناك دولٌ أخرى مُشَاطِئَة للنيل، ومن حقّها أنصبتها، هذه القسمة هي مشكلة المستقبل. لم يُسمَع له، وكان رفضه نبوءة، وهو ما يحدث الآن.
.jpg)
قَبِلَ السودان قيام السد العالي مقابل قسمة المياه وتَعلِيَة خزان الرصيرص، وقيام خزان جبل أولياء جنوب الخرطوم لصالح مصر، وتهجير النوبيين من فرس حتى دال في مدىً حدَّدَتهُ مصر، وهنا قَدَّمَ ميرغني حمزة استقالته.
كان المُهَجَّرُون أهلُ مدينة وادي حلفا وأحيائها جنوباً وشمالاً مع مثلث وادي حلفا، داخل مصر -التابع للسودان- بدأ التهجير في ١/٢٦/ ١٩٦٣م.
أولاً: أحياء وادي حلفا: فرس شرق وغرب، سَرَّه شَرق وغرب، دبيكَرا شرق وغرب، أرقين، إشكيت، دَبَروسه، بوهين، دغيم، سُلَن، فارقى.
ثانياً: أهل بطن الحجر جنوب وادي حلفا بـ٥٩ كيلو متراً، أَبكَى Abke، جِمَي، مِرْشِد، سَرَس، أُرُول آرتي، سَمْنَه، أَتِّير، دوشات، أَمْبِكُول Ambikol، تَنْجُوري، سونْقِي Songi، أكاشا، كُلُب Kulub، دال. كلهم يتواصلون باللغة النوبية ما عدا أهل أمبِكول٢.
تَحَدَّدَ للمُهَجَّرين الإسكان في سهل البطانة في شرق السودان في منطقة تُسَمَّى (سروبة الخادم). كان الإنجليز قد خَطَّطوا لقيام خزان خشم القربة منذ عام ١٩٤٥م، وضرورة جلب سكان للسهل المنخفض شماله. ومنذ عام ١٩٥٨م فكَّرت الحكومة السودانية العسكرية (١٩٥٨ - ١٩٦٤م) في من يكون الضحية. وطالما قرَّر الحاكمان العسكريَّان في السودان ومصر، فالضحية هؤلاء المُهَجَّرون الذين ستَخلُوا مناطقهم من السُكَّان.
كان عدد المُهَجَّرين ٥٢,٢٠٠ نسمة، بُنِيَت لهم ٢٦ قرية على عجل. أوَّل من هاجروا نَزَلَ عليهم مطرٌ لم يروا أو يتخيَّلوا مثلَه، وفي منطقتهم المنخفضة، سادَ الطين اللزج المانع للحركة حتى للسيارات. وقام مشروع حلفا الجديدة الزراعي، وبقي في (حلفا الجديدة) هذه العاملون في الخزان وهاجر إلى المشروع خلقٌ كثير للعمل فيه. وقام سوق بديل لسوق وادي حلفا القديم اعتُبِرَ من أكبر الأسواق في السودان.
كان للنوبيين المُهَجَّرين لغة واحدة يتواصلون بها هي اللغة النوبية في موضعهم القديم. القرى التي سكنوا فيها حملت أرقاماً (١)،(٢)،(٣).. إلخ. وكان أَوَّل ما أَسقَطُوا من لُغتهم أسماءَ قُرَاهم التي ذابَت في الأرقام، أسماء قُراهم كانت ذات دلالات تاريخيَّة٣.
مُلِئَت حلفا الجديدة ناساً حتى فاضَت، ظاهرة الإسقاط والاقتراض ظَهَرت في اللغة النوبية. أسماء ومفردات بالمئات كانت عن نهر النيل، بمراكبه ومعدّياته وأسماكه وجزره وزراعاته وأماكن زراعتها، النخيل والجبال والغناء وتفاصيل الحياة اليوميّة، عمل المرأة يوميّاً وعمل الرجل والصبي والبنات في طََحن الدقيق، أدواتهم في البيت والمزرعة دَخَلَت دائرة الإسقاط اللّغويّ، لا محل لاستخدامها.
في الاقتراض اللغوي كانت قد صُرِفَت لهم حوَّاشات (مزارع) صغيرة. آلاف من المفردات اقترضوها من البيئة الجديدة. اللغة النوبية نفسها صارت لغة البيت وحسب، لا موضع لها خارجه. صارت في سائد لُغَتهم مفردات: حوَّاشة، كنار، أب عشرين، خبير زراعي، مفتش، نمرة واحد، نمرة اثنين حتى نمرة عشرة في كلّ قرية، تفتيش، مؤسسة، حمار عبوري، فول، قطن، نضافة، عرب، اسبسقس (سقف المنزل منه)، جدول، بقر، مفتش، أنكوج، مَلُود Malod، طَرَّاد، تَرَكتَر، تُرعَة؛ مئات المفردات اقترضوها. وكان قد فُرضت عليهم زراعة الفول السوداني والقطن. وهي محصولات ما عرفوها من قبل.
الشباب غير المتعلم في حلفا الجديدة كانت أمامه وظائف مُحَدَّدة؛ العمل في الشرطة، الجيش، عُمّال حواشات، مراسلات، رعاة بقر. الغريب أن معظمهم اختاروا العمل كرعاة بقر لدخله اليومي من اللبن والمشاركة في ناتج المواليد منها. ويعني ذلك العمل مع البجا في بطونهم المختلفة، والملوه Mallo، والكجكسا Kajaksa (تشاد) والمَسْمَجَه (تشاد) والتاما Tama. والمُقَرَّر هنا تَعَلُّم (لغة) رعي الأبقار والعناية بها وثقافتها. وكان هذا جواز مرور الشاب. وقد انخرط فيه أكثر هؤلاء الشباب٤.
حلفا الجديدة منطقة تداخل لغوي، في عام ١٩٩٩م كانت دراسة: الباقون من النوبيين هناك، والبقية ما عدا العرب. كان عدد النوبيين ٣٩,٠٠٠ نسمة. هاجر ١٤,٢٠٠ منهم لكثرة الأمراض وغيرها. وعدد ساكني (الكَنَابِي) ٧٥,٠٠٠ نسمة. التداخل اللغوي صراع -غير واضح- على الحيازة على السوق اللغوي. اللغة صاحبة السوق -من حيث العدد وقوة الاقتصاد- في يدها- هي التي تسود٥.
متحف وادي حلفا كان قد هُجِّر إلى المتحف القومي بالخرطوم. وفي اجتماع في أسوان حضره المعنيّون بالأمر من النوبة المصرية ووادي حلفا، تم شراء الأرض بتمويل من اليونسكو، وشُرِعَ في بنائه، لكنّه توقف. كان ذلك عام ٢٠٠٨م. أعدَدنَا أنفسنا لجمع التراث المادي وغير المادي، وتعلَّمَ الشباب الإنجليزية لمخاطبة السُيَّاح في إطار (تعليم اللغة لأغراض خاصة).
في حلفا الجديدة نجد الآن ثنائية لغوية عند البعض، (عربي - نوبي)، وثلاثية لغوية (عربي - نوبي - لُغة زغاوة) مثلاً. واللغات في حلفا الجديدة هي: التاما، الملو، زغاوة، بجا، مساليت، لغات جبال النوبة، بني عامر، كَجَكْسَا، مَسْمَجَة، فور، بَرْتِي. وفي وادي حلفا ثنائية لغوية (عربي – نوبي).
مؤخراً بدأنا العمل المشترك مع النوبة المصرية لإقامة: (جماعات الحفاظ على اللغة النوبية وثقافاتها وترجمة آدابها)، وهو تجربة فاعلة، نوبية مصرية، ستنتقل إلى السودان٦.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي
صور المعرض لنص المقال مكتوب بخط ميرغني ديشاب
النوبيُّون هُم مَن في أقصى شمال السودان، مِن الحدود الفاصلة بين السودان ومصر حتّى منطقة الدبَّة جنوب دنقلا جنوباً. وفي اتفاقية مياه النيل بين الدولتين عام ١٩٥٩م، نَصَّت هذه الاتفاقية على تهجير من هُم في السودان من فرس (في نهاية مثلث وادي حلفا) إلى منطقة دال في مسافة طولية على ضفاف النيل شرقاً وغرباً -تُقدَّر بـ١٧٠ كيلو متراً- لتمكين مصر من بناء السد العالي في صعيد مصر، لأن المياه -خلف السد- ستَغمُر هذه المنطقة الممتدَّة.
كان الوفد الذي مَثَّلَ السودان على رأسه اللواء طلعت فريد. وعلى رأس مفاوضي مصر اللواء خالد محيي الدين، كلاهما من المجلس العسكري في كل بلد. كان الجنرال إبراهيم عبود، الحاكم العسكري في السودان، قد وَصَّى طلعت فريد بقوله: "الماء عندنا كثير، عندنا نيل ومطر. ما يقوله (عَمُّك) جمال هو الذي يسير١.
وسارَ ما قاله جمال عبد الناصر، الحاكم العسكري لمصر. تم تقسيم مياه النيل بين السودان ومصر على أساس أن نهر النيل يَتَشَكَّل في الخرطوم، ويسير شمالاً منها. وعلى هذا، صار لمصر٥٥.٥٪ من مياهه، وللسودان ۱۸٫٥٪ منها. رَفض ميرغني حمزة -وزير الريّ السوداني- وحَذَّر الحضور من مغبَّة انفراد مصر والسودان بأكثر مياه النيل، هناك دولٌ أخرى مُشَاطِئَة للنيل، ومن حقّها أنصبتها، هذه القسمة هي مشكلة المستقبل. لم يُسمَع له، وكان رفضه نبوءة، وهو ما يحدث الآن.
.jpg)
قَبِلَ السودان قيام السد العالي مقابل قسمة المياه وتَعلِيَة خزان الرصيرص، وقيام خزان جبل أولياء جنوب الخرطوم لصالح مصر، وتهجير النوبيين من فرس حتى دال في مدىً حدَّدَتهُ مصر، وهنا قَدَّمَ ميرغني حمزة استقالته.
كان المُهَجَّرُون أهلُ مدينة وادي حلفا وأحيائها جنوباً وشمالاً مع مثلث وادي حلفا، داخل مصر -التابع للسودان- بدأ التهجير في ١/٢٦/ ١٩٦٣م.
أولاً: أحياء وادي حلفا: فرس شرق وغرب، سَرَّه شَرق وغرب، دبيكَرا شرق وغرب، أرقين، إشكيت، دَبَروسه، بوهين، دغيم، سُلَن، فارقى.
ثانياً: أهل بطن الحجر جنوب وادي حلفا بـ٥٩ كيلو متراً، أَبكَى Abke، جِمَي، مِرْشِد، سَرَس، أُرُول آرتي، سَمْنَه، أَتِّير، دوشات، أَمْبِكُول Ambikol، تَنْجُوري، سونْقِي Songi، أكاشا، كُلُب Kulub، دال. كلهم يتواصلون باللغة النوبية ما عدا أهل أمبِكول٢.
تَحَدَّدَ للمُهَجَّرين الإسكان في سهل البطانة في شرق السودان في منطقة تُسَمَّى (سروبة الخادم). كان الإنجليز قد خَطَّطوا لقيام خزان خشم القربة منذ عام ١٩٤٥م، وضرورة جلب سكان للسهل المنخفض شماله. ومنذ عام ١٩٥٨م فكَّرت الحكومة السودانية العسكرية (١٩٥٨ - ١٩٦٤م) في من يكون الضحية. وطالما قرَّر الحاكمان العسكريَّان في السودان ومصر، فالضحية هؤلاء المُهَجَّرون الذين ستَخلُوا مناطقهم من السُكَّان.
كان عدد المُهَجَّرين ٥٢,٢٠٠ نسمة، بُنِيَت لهم ٢٦ قرية على عجل. أوَّل من هاجروا نَزَلَ عليهم مطرٌ لم يروا أو يتخيَّلوا مثلَه، وفي منطقتهم المنخفضة، سادَ الطين اللزج المانع للحركة حتى للسيارات. وقام مشروع حلفا الجديدة الزراعي، وبقي في (حلفا الجديدة) هذه العاملون في الخزان وهاجر إلى المشروع خلقٌ كثير للعمل فيه. وقام سوق بديل لسوق وادي حلفا القديم اعتُبِرَ من أكبر الأسواق في السودان.
كان للنوبيين المُهَجَّرين لغة واحدة يتواصلون بها هي اللغة النوبية في موضعهم القديم. القرى التي سكنوا فيها حملت أرقاماً (١)،(٢)،(٣).. إلخ. وكان أَوَّل ما أَسقَطُوا من لُغتهم أسماءَ قُرَاهم التي ذابَت في الأرقام، أسماء قُراهم كانت ذات دلالات تاريخيَّة٣.
مُلِئَت حلفا الجديدة ناساً حتى فاضَت، ظاهرة الإسقاط والاقتراض ظَهَرت في اللغة النوبية. أسماء ومفردات بالمئات كانت عن نهر النيل، بمراكبه ومعدّياته وأسماكه وجزره وزراعاته وأماكن زراعتها، النخيل والجبال والغناء وتفاصيل الحياة اليوميّة، عمل المرأة يوميّاً وعمل الرجل والصبي والبنات في طََحن الدقيق، أدواتهم في البيت والمزرعة دَخَلَت دائرة الإسقاط اللّغويّ، لا محل لاستخدامها.
في الاقتراض اللغوي كانت قد صُرِفَت لهم حوَّاشات (مزارع) صغيرة. آلاف من المفردات اقترضوها من البيئة الجديدة. اللغة النوبية نفسها صارت لغة البيت وحسب، لا موضع لها خارجه. صارت في سائد لُغَتهم مفردات: حوَّاشة، كنار، أب عشرين، خبير زراعي، مفتش، نمرة واحد، نمرة اثنين حتى نمرة عشرة في كلّ قرية، تفتيش، مؤسسة، حمار عبوري، فول، قطن، نضافة، عرب، اسبسقس (سقف المنزل منه)، جدول، بقر، مفتش، أنكوج، مَلُود Malod، طَرَّاد، تَرَكتَر، تُرعَة؛ مئات المفردات اقترضوها. وكان قد فُرضت عليهم زراعة الفول السوداني والقطن. وهي محصولات ما عرفوها من قبل.
الشباب غير المتعلم في حلفا الجديدة كانت أمامه وظائف مُحَدَّدة؛ العمل في الشرطة، الجيش، عُمّال حواشات، مراسلات، رعاة بقر. الغريب أن معظمهم اختاروا العمل كرعاة بقر لدخله اليومي من اللبن والمشاركة في ناتج المواليد منها. ويعني ذلك العمل مع البجا في بطونهم المختلفة، والملوه Mallo، والكجكسا Kajaksa (تشاد) والمَسْمَجَه (تشاد) والتاما Tama. والمُقَرَّر هنا تَعَلُّم (لغة) رعي الأبقار والعناية بها وثقافتها. وكان هذا جواز مرور الشاب. وقد انخرط فيه أكثر هؤلاء الشباب٤.
حلفا الجديدة منطقة تداخل لغوي، في عام ١٩٩٩م كانت دراسة: الباقون من النوبيين هناك، والبقية ما عدا العرب. كان عدد النوبيين ٣٩,٠٠٠ نسمة. هاجر ١٤,٢٠٠ منهم لكثرة الأمراض وغيرها. وعدد ساكني (الكَنَابِي) ٧٥,٠٠٠ نسمة. التداخل اللغوي صراع -غير واضح- على الحيازة على السوق اللغوي. اللغة صاحبة السوق -من حيث العدد وقوة الاقتصاد- في يدها- هي التي تسود٥.
متحف وادي حلفا كان قد هُجِّر إلى المتحف القومي بالخرطوم. وفي اجتماع في أسوان حضره المعنيّون بالأمر من النوبة المصرية ووادي حلفا، تم شراء الأرض بتمويل من اليونسكو، وشُرِعَ في بنائه، لكنّه توقف. كان ذلك عام ٢٠٠٨م. أعدَدنَا أنفسنا لجمع التراث المادي وغير المادي، وتعلَّمَ الشباب الإنجليزية لمخاطبة السُيَّاح في إطار (تعليم اللغة لأغراض خاصة).
في حلفا الجديدة نجد الآن ثنائية لغوية عند البعض، (عربي - نوبي)، وثلاثية لغوية (عربي - نوبي - لُغة زغاوة) مثلاً. واللغات في حلفا الجديدة هي: التاما، الملو، زغاوة، بجا، مساليت، لغات جبال النوبة، بني عامر، كَجَكْسَا، مَسْمَجَة، فور، بَرْتِي. وفي وادي حلفا ثنائية لغوية (عربي – نوبي).
مؤخراً بدأنا العمل المشترك مع النوبة المصرية لإقامة: (جماعات الحفاظ على اللغة النوبية وثقافاتها وترجمة آدابها)، وهو تجربة فاعلة، نوبية مصرية، ستنتقل إلى السودان٦.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي
صور المعرض لنص المقال مكتوب بخط ميرغني ديشاب

النوبيُّون هُم مَن في أقصى شمال السودان، مِن الحدود الفاصلة بين السودان ومصر حتّى منطقة الدبَّة جنوب دنقلا جنوباً. وفي اتفاقية مياه النيل بين الدولتين عام ١٩٥٩م، نَصَّت هذه الاتفاقية على تهجير من هُم في السودان من فرس (في نهاية مثلث وادي حلفا) إلى منطقة دال في مسافة طولية على ضفاف النيل شرقاً وغرباً -تُقدَّر بـ١٧٠ كيلو متراً- لتمكين مصر من بناء السد العالي في صعيد مصر، لأن المياه -خلف السد- ستَغمُر هذه المنطقة الممتدَّة.
كان الوفد الذي مَثَّلَ السودان على رأسه اللواء طلعت فريد. وعلى رأس مفاوضي مصر اللواء خالد محيي الدين، كلاهما من المجلس العسكري في كل بلد. كان الجنرال إبراهيم عبود، الحاكم العسكري في السودان، قد وَصَّى طلعت فريد بقوله: "الماء عندنا كثير، عندنا نيل ومطر. ما يقوله (عَمُّك) جمال هو الذي يسير١.
وسارَ ما قاله جمال عبد الناصر، الحاكم العسكري لمصر. تم تقسيم مياه النيل بين السودان ومصر على أساس أن نهر النيل يَتَشَكَّل في الخرطوم، ويسير شمالاً منها. وعلى هذا، صار لمصر٥٥.٥٪ من مياهه، وللسودان ۱۸٫٥٪ منها. رَفض ميرغني حمزة -وزير الريّ السوداني- وحَذَّر الحضور من مغبَّة انفراد مصر والسودان بأكثر مياه النيل، هناك دولٌ أخرى مُشَاطِئَة للنيل، ومن حقّها أنصبتها، هذه القسمة هي مشكلة المستقبل. لم يُسمَع له، وكان رفضه نبوءة، وهو ما يحدث الآن.
.jpg)
قَبِلَ السودان قيام السد العالي مقابل قسمة المياه وتَعلِيَة خزان الرصيرص، وقيام خزان جبل أولياء جنوب الخرطوم لصالح مصر، وتهجير النوبيين من فرس حتى دال في مدىً حدَّدَتهُ مصر، وهنا قَدَّمَ ميرغني حمزة استقالته.
كان المُهَجَّرُون أهلُ مدينة وادي حلفا وأحيائها جنوباً وشمالاً مع مثلث وادي حلفا، داخل مصر -التابع للسودان- بدأ التهجير في ١/٢٦/ ١٩٦٣م.
أولاً: أحياء وادي حلفا: فرس شرق وغرب، سَرَّه شَرق وغرب، دبيكَرا شرق وغرب، أرقين، إشكيت، دَبَروسه، بوهين، دغيم، سُلَن، فارقى.
ثانياً: أهل بطن الحجر جنوب وادي حلفا بـ٥٩ كيلو متراً، أَبكَى Abke، جِمَي، مِرْشِد، سَرَس، أُرُول آرتي، سَمْنَه، أَتِّير، دوشات، أَمْبِكُول Ambikol، تَنْجُوري، سونْقِي Songi، أكاشا، كُلُب Kulub، دال. كلهم يتواصلون باللغة النوبية ما عدا أهل أمبِكول٢.
تَحَدَّدَ للمُهَجَّرين الإسكان في سهل البطانة في شرق السودان في منطقة تُسَمَّى (سروبة الخادم). كان الإنجليز قد خَطَّطوا لقيام خزان خشم القربة منذ عام ١٩٤٥م، وضرورة جلب سكان للسهل المنخفض شماله. ومنذ عام ١٩٥٨م فكَّرت الحكومة السودانية العسكرية (١٩٥٨ - ١٩٦٤م) في من يكون الضحية. وطالما قرَّر الحاكمان العسكريَّان في السودان ومصر، فالضحية هؤلاء المُهَجَّرون الذين ستَخلُوا مناطقهم من السُكَّان.
كان عدد المُهَجَّرين ٥٢,٢٠٠ نسمة، بُنِيَت لهم ٢٦ قرية على عجل. أوَّل من هاجروا نَزَلَ عليهم مطرٌ لم يروا أو يتخيَّلوا مثلَه، وفي منطقتهم المنخفضة، سادَ الطين اللزج المانع للحركة حتى للسيارات. وقام مشروع حلفا الجديدة الزراعي، وبقي في (حلفا الجديدة) هذه العاملون في الخزان وهاجر إلى المشروع خلقٌ كثير للعمل فيه. وقام سوق بديل لسوق وادي حلفا القديم اعتُبِرَ من أكبر الأسواق في السودان.
كان للنوبيين المُهَجَّرين لغة واحدة يتواصلون بها هي اللغة النوبية في موضعهم القديم. القرى التي سكنوا فيها حملت أرقاماً (١)،(٢)،(٣).. إلخ. وكان أَوَّل ما أَسقَطُوا من لُغتهم أسماءَ قُرَاهم التي ذابَت في الأرقام، أسماء قُراهم كانت ذات دلالات تاريخيَّة٣.
مُلِئَت حلفا الجديدة ناساً حتى فاضَت، ظاهرة الإسقاط والاقتراض ظَهَرت في اللغة النوبية. أسماء ومفردات بالمئات كانت عن نهر النيل، بمراكبه ومعدّياته وأسماكه وجزره وزراعاته وأماكن زراعتها، النخيل والجبال والغناء وتفاصيل الحياة اليوميّة، عمل المرأة يوميّاً وعمل الرجل والصبي والبنات في طََحن الدقيق، أدواتهم في البيت والمزرعة دَخَلَت دائرة الإسقاط اللّغويّ، لا محل لاستخدامها.
في الاقتراض اللغوي كانت قد صُرِفَت لهم حوَّاشات (مزارع) صغيرة. آلاف من المفردات اقترضوها من البيئة الجديدة. اللغة النوبية نفسها صارت لغة البيت وحسب، لا موضع لها خارجه. صارت في سائد لُغَتهم مفردات: حوَّاشة، كنار، أب عشرين، خبير زراعي، مفتش، نمرة واحد، نمرة اثنين حتى نمرة عشرة في كلّ قرية، تفتيش، مؤسسة، حمار عبوري، فول، قطن، نضافة، عرب، اسبسقس (سقف المنزل منه)، جدول، بقر، مفتش، أنكوج، مَلُود Malod، طَرَّاد، تَرَكتَر، تُرعَة؛ مئات المفردات اقترضوها. وكان قد فُرضت عليهم زراعة الفول السوداني والقطن. وهي محصولات ما عرفوها من قبل.
الشباب غير المتعلم في حلفا الجديدة كانت أمامه وظائف مُحَدَّدة؛ العمل في الشرطة، الجيش، عُمّال حواشات، مراسلات، رعاة بقر. الغريب أن معظمهم اختاروا العمل كرعاة بقر لدخله اليومي من اللبن والمشاركة في ناتج المواليد منها. ويعني ذلك العمل مع البجا في بطونهم المختلفة، والملوه Mallo، والكجكسا Kajaksa (تشاد) والمَسْمَجَه (تشاد) والتاما Tama. والمُقَرَّر هنا تَعَلُّم (لغة) رعي الأبقار والعناية بها وثقافتها. وكان هذا جواز مرور الشاب. وقد انخرط فيه أكثر هؤلاء الشباب٤.
حلفا الجديدة منطقة تداخل لغوي، في عام ١٩٩٩م كانت دراسة: الباقون من النوبيين هناك، والبقية ما عدا العرب. كان عدد النوبيين ٣٩,٠٠٠ نسمة. هاجر ١٤,٢٠٠ منهم لكثرة الأمراض وغيرها. وعدد ساكني (الكَنَابِي) ٧٥,٠٠٠ نسمة. التداخل اللغوي صراع -غير واضح- على الحيازة على السوق اللغوي. اللغة صاحبة السوق -من حيث العدد وقوة الاقتصاد- في يدها- هي التي تسود٥.
متحف وادي حلفا كان قد هُجِّر إلى المتحف القومي بالخرطوم. وفي اجتماع في أسوان حضره المعنيّون بالأمر من النوبة المصرية ووادي حلفا، تم شراء الأرض بتمويل من اليونسكو، وشُرِعَ في بنائه، لكنّه توقف. كان ذلك عام ٢٠٠٨م. أعدَدنَا أنفسنا لجمع التراث المادي وغير المادي، وتعلَّمَ الشباب الإنجليزية لمخاطبة السُيَّاح في إطار (تعليم اللغة لأغراض خاصة).
في حلفا الجديدة نجد الآن ثنائية لغوية عند البعض، (عربي - نوبي)، وثلاثية لغوية (عربي - نوبي - لُغة زغاوة) مثلاً. واللغات في حلفا الجديدة هي: التاما، الملو، زغاوة، بجا، مساليت، لغات جبال النوبة، بني عامر، كَجَكْسَا، مَسْمَجَة، فور، بَرْتِي. وفي وادي حلفا ثنائية لغوية (عربي – نوبي).
مؤخراً بدأنا العمل المشترك مع النوبة المصرية لإقامة: (جماعات الحفاظ على اللغة النوبية وثقافاتها وترجمة آدابها)، وهو تجربة فاعلة، نوبية مصرية، ستنتقل إلى السودان٦.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي
صور المعرض لنص المقال مكتوب بخط ميرغني ديشاب

قائمة تشغيل لغات السودان

قائمة تشغيل لغات السودان
يزخر السودان بمشهد لغوي ثري، حيث تشير التقديرات إلى وجود أكثر من ١١٤ لغة يتم التحدث بها في جميع أنحاء البلاد. اللغة العربية هي اللغة الأكثر هيمنة، خاصة في المناطق الشمالية والوسطى. ولكن ما هي أفضل طريقة لاستكشاف التنوع اللغوي في السودان غير الموسيقى؟
قائمة الأغاني هذه عبارة عن مجموعة من الأغاني من جميع أنحاء السودان، تضم لغات محلية يتم التحدث بها في الشمال والشرق والغرب، وكذلك بين بعض القبائل في منطقة النيل الأزرق ومجتمعات الهوسا. نحتفي من خلال هذه المجموعة المختارة بالتنوع الموسيقي الذي يعكس التراث الثقافي واللغوي العميق للمجتمعات السودانية المتعددة.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي
يزخر السودان بمشهد لغوي ثري، حيث تشير التقديرات إلى وجود أكثر من ١١٤ لغة يتم التحدث بها في جميع أنحاء البلاد. اللغة العربية هي اللغة الأكثر هيمنة، خاصة في المناطق الشمالية والوسطى. ولكن ما هي أفضل طريقة لاستكشاف التنوع اللغوي في السودان غير الموسيقى؟
قائمة الأغاني هذه عبارة عن مجموعة من الأغاني من جميع أنحاء السودان، تضم لغات محلية يتم التحدث بها في الشمال والشرق والغرب، وكذلك بين بعض القبائل في منطقة النيل الأزرق ومجتمعات الهوسا. نحتفي من خلال هذه المجموعة المختارة بالتنوع الموسيقي الذي يعكس التراث الثقافي واللغوي العميق للمجتمعات السودانية المتعددة.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

يزخر السودان بمشهد لغوي ثري، حيث تشير التقديرات إلى وجود أكثر من ١١٤ لغة يتم التحدث بها في جميع أنحاء البلاد. اللغة العربية هي اللغة الأكثر هيمنة، خاصة في المناطق الشمالية والوسطى. ولكن ما هي أفضل طريقة لاستكشاف التنوع اللغوي في السودان غير الموسيقى؟
قائمة الأغاني هذه عبارة عن مجموعة من الأغاني من جميع أنحاء السودان، تضم لغات محلية يتم التحدث بها في الشمال والشرق والغرب، وكذلك بين بعض القبائل في منطقة النيل الأزرق ومجتمعات الهوسا. نحتفي من خلال هذه المجموعة المختارة بالتنوع الموسيقي الذي يعكس التراث الثقافي واللغوي العميق للمجتمعات السودانية المتعددة.
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

الراندوك.. اللُّغة بِنت الرفض والمُقاوَمة

الراندوك.. اللُّغة بِنت الرفض والمُقاوَمة
قالت أليس: "لا أعلم ما تعنيه عندما تقول "عَظمَة". فابتسم همبتي دمبتي بازدراء مردداً: "بالطبع لا تعلمين معنى الكلمة، حتى أخبرك أنا بمعناها". أقصد أن ذلك جدال يسهل دحضه. اعترضت أليس قائلة: لكن "عظمة" لا تعني "جدال يسهل دحضه".
فأجابها همبتي دمبتي هازئاً: عندما أستخدم أنا كلمة ما، فإنها تعني تماماً ما أرغب في أن تعنيه، من دون زيادة أو نقصان.
فردت أليس: فالسؤال هنا هو إن كان باستطاعتك أن تجعل للكلمة أكثر من معنى.
فعقَّب همبتي دمبتي على ذلك قائلاً: السؤال هو عمّن لديه السلطة هنا. لا أكثر من ذلك.
(أليس في بلاد العجائب)
عطفاً على المقتطف أعلاه من (أليس في بلاد العجائب)، يمكن الإشارة إلى أن كل شيء يبدأ من إلى السلطة والسياسة، دون مفاضلة بينهما في الترتيب، ثم إلى الاقتصاد ثم إلى الحياة. ينطبق ذلك حتى على "اللغة" بوصفها الميدان الحيوي للصراع حول السيطرة والقدرة على تشكيل الخطاب والحياة، وبوصف اللغة أيضاً الملكة الرمزية الأهم لتفسير العالم من حولنا.
قبل ثلاثة عقود كان ميدان اللغة في السودان قد بدأ يشهد مستوىً من الصراع الخفيّ حول من لديه السلطة والفاعلية للسيطرة على الفضاء العمومي، حدث ذلك مع وصول جماعة الإخوان المسلمين للسلطة في البلاد عبر انقلاب عسكري.
في ذلك الوقت، أحكم الإسلاميُّون قبضتهم، وشرعوا في تغييرات متعدّدة طِبقًاً لخطَّة معروفة لديهم ومُعلنة للجمهور، يحويها الشعار البارز "صياغة الإنسان السوداني". شمل ذلك تغيُّرات سياسية واجتماعية واقتصادية، والكثير غير ذلك. لكن تغييراً خاصَّاً بدأ على مستوى اللغة وكذلك المفاهيم والدلالات الكامنة فيها بغرض إحكام القيود على المضمون والمعنى، وأيضاً القيود على العلاقات وعلى الأفراد.
في البدء، سيطر الإسلاميون على وسائل الإعلام الجماهيرية، وزحفوا من خلالها إلى الفضاء العمومي والخاص، ونشروا لغة مختلفة عن اللغة السائدة، مصبوغة بمسحة دينية للتعبيرات اللغوية الجديدة التي حلَّت محل تعبيرات سابقة كانت تُستخدم باعتياد للمعنى نفسه. بالنسبة للحُكَّام، كانت اللغة الرسمية في بدايتها تنحو صوب القاموس الديني لتستلف تعبيراتها، وبالطبع كان مُحرجاً لهم أن تطلّ بكثاقة مفردات مثل: "شرتيت. جاح، جُلك. كِسِّير تلج. كَتَمت. طَلَس. قنزب. لقُّوية. الطَارَة. جاوات".
في الواقع، لم يبدأ الصراع عبر اللغة دفعة واحدة، إنما بدأ رويداً رويداً؛ إذ نشأت لغة، أو لغات، موازية، وتخَلَّقت ببطء لتصل مراحل طَغَت فيها على اللغة الرسمية ذات المواصفات التي أرساها الإسلاميون الحاكمون، سنُسمِّي واحدة منها لغة الراندوك.
تربت هذه اللغة في المسارات البعيدة عن أعين الرقابة الرسمية، إلى أن بلَغَت أشدها وانتشرت بلا كابح في طرائق تعبير مفاجئة وصادمة في أول الأمر، ثم أصبحت ضمن تطوّرها لغة الشارع العام التي يتحدثها الناس. صحيح أنها لم تَمْنَح متحدِّيثها قدرةً على حلِّ مشكلات منطقية في الفكر، لكنها لَبَّت باقتدار حاجتهم للتواصل اليومي، ثم مضت إلى مراقٍ رفيعة حين حملت أدبيات الثورة السودانية السلمية التي اندلعت في ديسمبر ٢٠١٨، بكل ما للثورة من تمرد ورفض ودلالات سياسية، وكان لافتاً إبَّان الشكل الحركي للثورة أن يتفاعل الناس مع بيانات موجَّهة مكتوبة بلغة الراندوك. وهنا تم كسر الفرضية التي تزعم أن لغة الأقوياء هي التي تسيطر على الضعفاء.
في مرحلة ما من سيطرة الإخوان المسلمين، أصبحت هناك لغة تُعدُّ علامةً مسجلة لهم. وبدأ شكل من المقاومة يتبلور عن طريق الامتناع عن التحدث بطريقتهم، وعدم استخدام مصطلحاتهم أو مفرداتهم. كان ذلك أشبه برفض شامل لثقافتهم ككل، إلا أن تلك المقاومة ظلت متوارية وخافتة وسط تيار إعلامي وثقافي جارف، ولم تتطور سريعاً لحركة مقاومة معاكسة.
بدأ أول شكل للصراع اللغوي بالشماشة الذين امتلكوا لغتهم الخاصة، المستندة إلى كلمات انقَلَبت حروفها أحياناً، ومفردات تغيرت دلالتها، واصطلاحات تمّ سكّها في ملابسات لا يمكن تتبعها بدقة في مقالة قصيرة. في ما بعد، التقط الكثيرون لغة الشماشة وأجروا عليها تعديلات أوسع، صنعت لغة "الراندوك" التي تفاعلت مع الأيام واتَّسعت، وهي الآن موضوعة هذه المقالة القصيرة، برغم أن كلمة راندوك نفسها لا يمكن تتبع مسار سَكِّهَا بسهولة، لكن بطريقة ما يمكن النظر إليها باعتبارها ظاهرة دالَّة على وجود اللغة المضادة التي تتكلمها مجموعة معينة داخل المجتمع. وإذا كانت هناك فرصة للإشارة إلى عامل مساعد على هذا التوسع للغة الراندوك، فهو الضائقة الاقتصادية التي زعزعت كل شيء.
منذ البداية كان حتميَّاً تصادم المسارين؛ مسار الحُكَّام الجُدد وما يرغبون فيه من إعادة صياغة، ومسار عامة الناس المقهورين بكل السبل، التائقين للانفكاك. ولن نعدم الدليل الذي يؤهلنا للقول إن هذا التصادم كان ميدانه اللغة، وساهم بقوة في تقوية اللغة المقاومة.
تَمَثَّل هذا التصادم لعدة سنوات في عمليات إزاحة لغوية مارَستها السلطة الحاكمة بعد انفجار اللغة الجديدة في الشارع، بما هدَّد النموذج الذي تعمل عليه السلطة ضمن مشروعها. تحوَّل الاستخدام اليومي للغة إلى ميدان مقاومة في مواجهة السلطة ولغتها. وأخذت اللغة مكانها ضمن الحركة الكلية للصراع، وسأقول بعد قليل كلمات قليلة حول هذا الصراع.
بشكلٍ ما، انتصرت لغة الراندوك انتصاراً مشهوداً، وتسلَّلت إلى لغة الأكثرية وحتى إلى لغة المثقفين، صانعة لغة هجيناً، يصعب تتبعها أيضاً، لكنها تحظى برضا الفئات التي تتشاركها، بل إنها في انتصار كبير دخلت على اللغة الرسمية في مناسبات متكررة؛ لأنها حيوية، اجتماعية وقوية.
حين نكتب عن لغة الراندوك، سنقول كلمات همبتي دمبتي نفسها: عمّن لديه السلطة. لا أكثر من ذلك.. وربما نضيف: "كيف تُقَاوَم هذه السلطة"؟
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي
قالت أليس: "لا أعلم ما تعنيه عندما تقول "عَظمَة". فابتسم همبتي دمبتي بازدراء مردداً: "بالطبع لا تعلمين معنى الكلمة، حتى أخبرك أنا بمعناها". أقصد أن ذلك جدال يسهل دحضه. اعترضت أليس قائلة: لكن "عظمة" لا تعني "جدال يسهل دحضه".
فأجابها همبتي دمبتي هازئاً: عندما أستخدم أنا كلمة ما، فإنها تعني تماماً ما أرغب في أن تعنيه، من دون زيادة أو نقصان.
فردت أليس: فالسؤال هنا هو إن كان باستطاعتك أن تجعل للكلمة أكثر من معنى.
فعقَّب همبتي دمبتي على ذلك قائلاً: السؤال هو عمّن لديه السلطة هنا. لا أكثر من ذلك.
(أليس في بلاد العجائب)
عطفاً على المقتطف أعلاه من (أليس في بلاد العجائب)، يمكن الإشارة إلى أن كل شيء يبدأ من إلى السلطة والسياسة، دون مفاضلة بينهما في الترتيب، ثم إلى الاقتصاد ثم إلى الحياة. ينطبق ذلك حتى على "اللغة" بوصفها الميدان الحيوي للصراع حول السيطرة والقدرة على تشكيل الخطاب والحياة، وبوصف اللغة أيضاً الملكة الرمزية الأهم لتفسير العالم من حولنا.
قبل ثلاثة عقود كان ميدان اللغة في السودان قد بدأ يشهد مستوىً من الصراع الخفيّ حول من لديه السلطة والفاعلية للسيطرة على الفضاء العمومي، حدث ذلك مع وصول جماعة الإخوان المسلمين للسلطة في البلاد عبر انقلاب عسكري.
في ذلك الوقت، أحكم الإسلاميُّون قبضتهم، وشرعوا في تغييرات متعدّدة طِبقًاً لخطَّة معروفة لديهم ومُعلنة للجمهور، يحويها الشعار البارز "صياغة الإنسان السوداني". شمل ذلك تغيُّرات سياسية واجتماعية واقتصادية، والكثير غير ذلك. لكن تغييراً خاصَّاً بدأ على مستوى اللغة وكذلك المفاهيم والدلالات الكامنة فيها بغرض إحكام القيود على المضمون والمعنى، وأيضاً القيود على العلاقات وعلى الأفراد.
في البدء، سيطر الإسلاميون على وسائل الإعلام الجماهيرية، وزحفوا من خلالها إلى الفضاء العمومي والخاص، ونشروا لغة مختلفة عن اللغة السائدة، مصبوغة بمسحة دينية للتعبيرات اللغوية الجديدة التي حلَّت محل تعبيرات سابقة كانت تُستخدم باعتياد للمعنى نفسه. بالنسبة للحُكَّام، كانت اللغة الرسمية في بدايتها تنحو صوب القاموس الديني لتستلف تعبيراتها، وبالطبع كان مُحرجاً لهم أن تطلّ بكثاقة مفردات مثل: "شرتيت. جاح، جُلك. كِسِّير تلج. كَتَمت. طَلَس. قنزب. لقُّوية. الطَارَة. جاوات".
في الواقع، لم يبدأ الصراع عبر اللغة دفعة واحدة، إنما بدأ رويداً رويداً؛ إذ نشأت لغة، أو لغات، موازية، وتخَلَّقت ببطء لتصل مراحل طَغَت فيها على اللغة الرسمية ذات المواصفات التي أرساها الإسلاميون الحاكمون، سنُسمِّي واحدة منها لغة الراندوك.
تربت هذه اللغة في المسارات البعيدة عن أعين الرقابة الرسمية، إلى أن بلَغَت أشدها وانتشرت بلا كابح في طرائق تعبير مفاجئة وصادمة في أول الأمر، ثم أصبحت ضمن تطوّرها لغة الشارع العام التي يتحدثها الناس. صحيح أنها لم تَمْنَح متحدِّيثها قدرةً على حلِّ مشكلات منطقية في الفكر، لكنها لَبَّت باقتدار حاجتهم للتواصل اليومي، ثم مضت إلى مراقٍ رفيعة حين حملت أدبيات الثورة السودانية السلمية التي اندلعت في ديسمبر ٢٠١٨، بكل ما للثورة من تمرد ورفض ودلالات سياسية، وكان لافتاً إبَّان الشكل الحركي للثورة أن يتفاعل الناس مع بيانات موجَّهة مكتوبة بلغة الراندوك. وهنا تم كسر الفرضية التي تزعم أن لغة الأقوياء هي التي تسيطر على الضعفاء.
في مرحلة ما من سيطرة الإخوان المسلمين، أصبحت هناك لغة تُعدُّ علامةً مسجلة لهم. وبدأ شكل من المقاومة يتبلور عن طريق الامتناع عن التحدث بطريقتهم، وعدم استخدام مصطلحاتهم أو مفرداتهم. كان ذلك أشبه برفض شامل لثقافتهم ككل، إلا أن تلك المقاومة ظلت متوارية وخافتة وسط تيار إعلامي وثقافي جارف، ولم تتطور سريعاً لحركة مقاومة معاكسة.
بدأ أول شكل للصراع اللغوي بالشماشة الذين امتلكوا لغتهم الخاصة، المستندة إلى كلمات انقَلَبت حروفها أحياناً، ومفردات تغيرت دلالتها، واصطلاحات تمّ سكّها في ملابسات لا يمكن تتبعها بدقة في مقالة قصيرة. في ما بعد، التقط الكثيرون لغة الشماشة وأجروا عليها تعديلات أوسع، صنعت لغة "الراندوك" التي تفاعلت مع الأيام واتَّسعت، وهي الآن موضوعة هذه المقالة القصيرة، برغم أن كلمة راندوك نفسها لا يمكن تتبع مسار سَكِّهَا بسهولة، لكن بطريقة ما يمكن النظر إليها باعتبارها ظاهرة دالَّة على وجود اللغة المضادة التي تتكلمها مجموعة معينة داخل المجتمع. وإذا كانت هناك فرصة للإشارة إلى عامل مساعد على هذا التوسع للغة الراندوك، فهو الضائقة الاقتصادية التي زعزعت كل شيء.
منذ البداية كان حتميَّاً تصادم المسارين؛ مسار الحُكَّام الجُدد وما يرغبون فيه من إعادة صياغة، ومسار عامة الناس المقهورين بكل السبل، التائقين للانفكاك. ولن نعدم الدليل الذي يؤهلنا للقول إن هذا التصادم كان ميدانه اللغة، وساهم بقوة في تقوية اللغة المقاومة.
تَمَثَّل هذا التصادم لعدة سنوات في عمليات إزاحة لغوية مارَستها السلطة الحاكمة بعد انفجار اللغة الجديدة في الشارع، بما هدَّد النموذج الذي تعمل عليه السلطة ضمن مشروعها. تحوَّل الاستخدام اليومي للغة إلى ميدان مقاومة في مواجهة السلطة ولغتها. وأخذت اللغة مكانها ضمن الحركة الكلية للصراع، وسأقول بعد قليل كلمات قليلة حول هذا الصراع.
بشكلٍ ما، انتصرت لغة الراندوك انتصاراً مشهوداً، وتسلَّلت إلى لغة الأكثرية وحتى إلى لغة المثقفين، صانعة لغة هجيناً، يصعب تتبعها أيضاً، لكنها تحظى برضا الفئات التي تتشاركها، بل إنها في انتصار كبير دخلت على اللغة الرسمية في مناسبات متكررة؛ لأنها حيوية، اجتماعية وقوية.
حين نكتب عن لغة الراندوك، سنقول كلمات همبتي دمبتي نفسها: عمّن لديه السلطة. لا أكثر من ذلك.. وربما نضيف: "كيف تُقَاوَم هذه السلطة"؟
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

قالت أليس: "لا أعلم ما تعنيه عندما تقول "عَظمَة". فابتسم همبتي دمبتي بازدراء مردداً: "بالطبع لا تعلمين معنى الكلمة، حتى أخبرك أنا بمعناها". أقصد أن ذلك جدال يسهل دحضه. اعترضت أليس قائلة: لكن "عظمة" لا تعني "جدال يسهل دحضه".
فأجابها همبتي دمبتي هازئاً: عندما أستخدم أنا كلمة ما، فإنها تعني تماماً ما أرغب في أن تعنيه، من دون زيادة أو نقصان.
فردت أليس: فالسؤال هنا هو إن كان باستطاعتك أن تجعل للكلمة أكثر من معنى.
فعقَّب همبتي دمبتي على ذلك قائلاً: السؤال هو عمّن لديه السلطة هنا. لا أكثر من ذلك.
(أليس في بلاد العجائب)
عطفاً على المقتطف أعلاه من (أليس في بلاد العجائب)، يمكن الإشارة إلى أن كل شيء يبدأ من إلى السلطة والسياسة، دون مفاضلة بينهما في الترتيب، ثم إلى الاقتصاد ثم إلى الحياة. ينطبق ذلك حتى على "اللغة" بوصفها الميدان الحيوي للصراع حول السيطرة والقدرة على تشكيل الخطاب والحياة، وبوصف اللغة أيضاً الملكة الرمزية الأهم لتفسير العالم من حولنا.
قبل ثلاثة عقود كان ميدان اللغة في السودان قد بدأ يشهد مستوىً من الصراع الخفيّ حول من لديه السلطة والفاعلية للسيطرة على الفضاء العمومي، حدث ذلك مع وصول جماعة الإخوان المسلمين للسلطة في البلاد عبر انقلاب عسكري.
في ذلك الوقت، أحكم الإسلاميُّون قبضتهم، وشرعوا في تغييرات متعدّدة طِبقًاً لخطَّة معروفة لديهم ومُعلنة للجمهور، يحويها الشعار البارز "صياغة الإنسان السوداني". شمل ذلك تغيُّرات سياسية واجتماعية واقتصادية، والكثير غير ذلك. لكن تغييراً خاصَّاً بدأ على مستوى اللغة وكذلك المفاهيم والدلالات الكامنة فيها بغرض إحكام القيود على المضمون والمعنى، وأيضاً القيود على العلاقات وعلى الأفراد.
في البدء، سيطر الإسلاميون على وسائل الإعلام الجماهيرية، وزحفوا من خلالها إلى الفضاء العمومي والخاص، ونشروا لغة مختلفة عن اللغة السائدة، مصبوغة بمسحة دينية للتعبيرات اللغوية الجديدة التي حلَّت محل تعبيرات سابقة كانت تُستخدم باعتياد للمعنى نفسه. بالنسبة للحُكَّام، كانت اللغة الرسمية في بدايتها تنحو صوب القاموس الديني لتستلف تعبيراتها، وبالطبع كان مُحرجاً لهم أن تطلّ بكثاقة مفردات مثل: "شرتيت. جاح، جُلك. كِسِّير تلج. كَتَمت. طَلَس. قنزب. لقُّوية. الطَارَة. جاوات".
في الواقع، لم يبدأ الصراع عبر اللغة دفعة واحدة، إنما بدأ رويداً رويداً؛ إذ نشأت لغة، أو لغات، موازية، وتخَلَّقت ببطء لتصل مراحل طَغَت فيها على اللغة الرسمية ذات المواصفات التي أرساها الإسلاميون الحاكمون، سنُسمِّي واحدة منها لغة الراندوك.
تربت هذه اللغة في المسارات البعيدة عن أعين الرقابة الرسمية، إلى أن بلَغَت أشدها وانتشرت بلا كابح في طرائق تعبير مفاجئة وصادمة في أول الأمر، ثم أصبحت ضمن تطوّرها لغة الشارع العام التي يتحدثها الناس. صحيح أنها لم تَمْنَح متحدِّيثها قدرةً على حلِّ مشكلات منطقية في الفكر، لكنها لَبَّت باقتدار حاجتهم للتواصل اليومي، ثم مضت إلى مراقٍ رفيعة حين حملت أدبيات الثورة السودانية السلمية التي اندلعت في ديسمبر ٢٠١٨، بكل ما للثورة من تمرد ورفض ودلالات سياسية، وكان لافتاً إبَّان الشكل الحركي للثورة أن يتفاعل الناس مع بيانات موجَّهة مكتوبة بلغة الراندوك. وهنا تم كسر الفرضية التي تزعم أن لغة الأقوياء هي التي تسيطر على الضعفاء.
في مرحلة ما من سيطرة الإخوان المسلمين، أصبحت هناك لغة تُعدُّ علامةً مسجلة لهم. وبدأ شكل من المقاومة يتبلور عن طريق الامتناع عن التحدث بطريقتهم، وعدم استخدام مصطلحاتهم أو مفرداتهم. كان ذلك أشبه برفض شامل لثقافتهم ككل، إلا أن تلك المقاومة ظلت متوارية وخافتة وسط تيار إعلامي وثقافي جارف، ولم تتطور سريعاً لحركة مقاومة معاكسة.
بدأ أول شكل للصراع اللغوي بالشماشة الذين امتلكوا لغتهم الخاصة، المستندة إلى كلمات انقَلَبت حروفها أحياناً، ومفردات تغيرت دلالتها، واصطلاحات تمّ سكّها في ملابسات لا يمكن تتبعها بدقة في مقالة قصيرة. في ما بعد، التقط الكثيرون لغة الشماشة وأجروا عليها تعديلات أوسع، صنعت لغة "الراندوك" التي تفاعلت مع الأيام واتَّسعت، وهي الآن موضوعة هذه المقالة القصيرة، برغم أن كلمة راندوك نفسها لا يمكن تتبع مسار سَكِّهَا بسهولة، لكن بطريقة ما يمكن النظر إليها باعتبارها ظاهرة دالَّة على وجود اللغة المضادة التي تتكلمها مجموعة معينة داخل المجتمع. وإذا كانت هناك فرصة للإشارة إلى عامل مساعد على هذا التوسع للغة الراندوك، فهو الضائقة الاقتصادية التي زعزعت كل شيء.
منذ البداية كان حتميَّاً تصادم المسارين؛ مسار الحُكَّام الجُدد وما يرغبون فيه من إعادة صياغة، ومسار عامة الناس المقهورين بكل السبل، التائقين للانفكاك. ولن نعدم الدليل الذي يؤهلنا للقول إن هذا التصادم كان ميدانه اللغة، وساهم بقوة في تقوية اللغة المقاومة.
تَمَثَّل هذا التصادم لعدة سنوات في عمليات إزاحة لغوية مارَستها السلطة الحاكمة بعد انفجار اللغة الجديدة في الشارع، بما هدَّد النموذج الذي تعمل عليه السلطة ضمن مشروعها. تحوَّل الاستخدام اليومي للغة إلى ميدان مقاومة في مواجهة السلطة ولغتها. وأخذت اللغة مكانها ضمن الحركة الكلية للصراع، وسأقول بعد قليل كلمات قليلة حول هذا الصراع.
بشكلٍ ما، انتصرت لغة الراندوك انتصاراً مشهوداً، وتسلَّلت إلى لغة الأكثرية وحتى إلى لغة المثقفين، صانعة لغة هجيناً، يصعب تتبعها أيضاً، لكنها تحظى برضا الفئات التي تتشاركها، بل إنها في انتصار كبير دخلت على اللغة الرسمية في مناسبات متكررة؛ لأنها حيوية، اجتماعية وقوية.
حين نكتب عن لغة الراندوك، سنقول كلمات همبتي دمبتي نفسها: عمّن لديه السلطة. لا أكثر من ذلك.. وربما نضيف: "كيف تُقَاوَم هذه السلطة"؟
لوحة الغلاف من تصميم هند عبد الباقي

الإحساس بالألوان

الإحساس بالألوان
كسودانية أتحدث العربية، وكامرأة (أذكر هذه المقدمة فقط في حال وجدتها ذات صلة)، عشتُ دائماً في بلدان يغلب فيها التحدث بالعربية، سواء في السودان أو في الخليج العربي. كانت تصوري للغة قائمًا على مدى اختلاف اللهجات العربية، والاختلافات اللغوية بين العربية والإنجليزية، بما أني أعرف لغتين فقط. بالنسبة لي، جاءت هذه الاختلافات من الثقافة وتطور اللغة. على سبيل المثال، كلمتا landscape وskyline ليس لهما مكافئ دقيق في اللغة العربية، بل تُترجمان تقريبًا إلى "مشهد طبيعي" و"أفق"، والتي تعني أشياء متعددة مثل الأفق، الاحتمالات، والميل. وهناك أيضًا كلمات جديدة مثل "networking"، التي لها ترجمة حرفية (تشبيك) لكن لا أحد يستخدمها لأن الكلمة الإنجليزية أكثر شيوعًا. ما هو معقد وجميل في اللغة العربية هو أنه، مثل كلمة الأفق، قد تعني العديد من الأشياء الأخرى، ولكن يمكنك أيضًا أن تجد مليون كلمة لوصف الحب، على سبيل المثال.
اليوم، لم أعد أعيش في بلد يغلب فيه التحدث بالعربية، وأصبحت الإنجليزية هي اللغة التي أستخدمها يوميًا بشكل أساسي. ومع تعلمي المزيد عن ثقافات الآخرين واستخداماتهم للغة، اكتسبت منظورًا جديدًا لم أكن على دراية به من قبل. في أحد الأيام، عُرض عليّ قطعة من الكعك، أخذت قضمة واحدة، ولكن بسبب ثقلها لم أتمكن من تناول المزيد. في اللهجة السودانية لدينا كلمة لوصف هذا الإحساس، وهي "قَهَم" وعادة ما يُضاف لها بادئة أو لاحقة لتوضيح من مرّ بهذه التجربة. لا، الكلمة لا تعني الشبع أو الامتلاء، لأنك قد تكون قادرًا على تناول المزيد، لكن عدم القدرة يأتي من ثقل الطعام أو حلاوته الزائدة، أو حتى مجرد رؤيته.
عندما أعود إلى فهمي الجديد، ما وجدته مثيرًا للاهتمام ليس مجرد غياب كلمة إنجليزية مكافئة، بل أن أصدقائي لم يفهموا الشعور الذي كنت أصفه على الإطلاق. كان هذا منظورًا معاكسًا لمعرفتي السابقة. غياب الكلمات يزيل الإحساس المرتبط بها. معلومة ممتعة قبل أن أواصل: هذه الكلمة موجودة في الثقافة المكسيكية، ولكن عندما تُستخدم لوصف شخص ما، فإنها تعني أنه مليء بالمجاملات الزائفة أو غير المخلصة، بينما في السودانية تُستخدم لوصف شخص يضيق عليك بالتحدث كثيرًا، على سبيل المثال.
هذا الاكتشاف جعلني أشعر بالفضول تجاه كيفية تأثير اللغة على العواطف. بالطبع هناك جانب أن قدرتك على وصف مشاعرك بشكل أفضل يساعدك في فهمها، ولكن هذا يعني أنك يجب أن تكون قادرًا على التعرف على مشاعرك في المقام الأول. يصف جوناثان ريي في كتابه I See A Voice: A Philosophical History هذه العملية على أنها ذات اتجاهين، بمجرد حدوث شيء ما، تكون هناك تجربة داخلية "الإدراك" وتجربة خارجية "التعبير أو الفعل". ولكن نوع هذه التجارب يتأثر بأشياء مثل الخيال، التأمل، والوعي، بناءً على كيفية إدارتك لها كما يفعل قائد الأوركسترا. بالنسبة لي، هذا هو دور الثقافة؛ فالخيال حول شعور ما قد يتأثر بالثقافة المحيطة بك، وحقيقة أنك لا تملك كلمة لوصفه لا تعني أنك لا تشعر به. ربما يمكن فهم ذلك بشكل أفضل من خلال شيء نعتقد جميعًا أننا نفهمه بنفس الطريقة، مثل الألوان.
في الفيلم الوثائقي القصير من Vox بعنوان The surprising pattern behind color names around the world، يوصف كيف أن العديد من اللغات حول العالم لديها فقط ثلاثة أو أربعة ألوان: داكن، فاتح، أحمر، أخضر أو أصفر. على الرغم من وجود عدد لا حصر له من الألوان في العالم، تختار الثقافات المختلفة الألوان التي ستسميها. قبل أن يتوصل العلماء إلى هذا الفهم، كانوا يعتقدون أن الأشخاص الذين لغاتهم لديها أسماء ألوان محدودة يعانون من عمى الألوان!
إذا كنت سودانيًا، فقد تكون الفقرة السابقة قد أثارت لديك فكرة معينة، وهي كلمتا "أزرق" و"أبيض" في اللغة العربية، حيث تم استخدامهما تاريخيًا في السودان لوصف الفاتح والداكن. على سبيل المثال، النيل الأبيض والنيل الأزرق يأتيان من هذا الفهم. يتدفق النيل الأزرق من بحيرة تانا في جبال إثيوبيا بسرعة، حاملاً الكثير من الطمي، بينما يأتي النيل الأبيض من بحيرة فيكتوريا في أوغندا، وقد قطع مسافة طويلة، مما يجعله هادئًا وعريضًا ولا يحمل الطمي.
التوب الأبيض وتوب الزراق (التوب الأزرق) يحملان تسميات مشابهة. المادة الأساسية لصنع الأقمشة في أجزاء كبيرة من السودان هي القطن، ويمكن تتبع النسيج الحديث إلى القرن التاسع عشر. ومع ذلك، تم العثور على منسوجات قطنية أيضًا في حفريات مروي والنوبة السفلى، مما يشير إلى تاريخ أقدم. الملابس البيضاء منطقية مع مناخنا الحار، واسم الأبيض موجود منذ زمن بعيد، مثل اسم الأُبيض، عاصمة شمال كردفان، التي حصلت على اسمها من حمار أبيض. الأزرق، من ناحية أخرى، قد يكون محيرًا، حيث يشير التوب الأزرق عادة إلى توب أبيض مصبوغ بالنيلة. نبتة النيلة معروفة في السودان ومصر، وتُستخدم لوصف الظلام أو السواد، على الرغم من أنها تنتج قماشًا أزرق اللون.
يتجاوز ارتباك الألوان في اللهجة السودانية الأقمشة ليشمل الكائنات التي ترتديها وكيف نصف ألوان بعضنا البعض. الألوان الأربعة المعروفة "لألوان الناس" هي الأخضر، الأصفر، الأزرق، والأحمر. هناك كلمات مثل "حلبي" لوصف ذوي البشرة الفاتحة، وهي تعود إلى أصول واضحة، والأحمر يُستخدم أيضًا لوصف الأشخاص ذوي البشرة الفاتحة لأن بشرتهم تتحول إلى الأحمر في الحرارة. لكن كيف توصلنا إلى وصف الناس بالأخضر؟ من المثير للاهتمام أن هذا الوصف اللوني ليس ظاهرة سودانية فقط، بل معروف أيضًا في دول عربية أخرى مثل عمان والكويت. هناك تكهنات مختلفة حول كيفية حدوث ذلك، يفترض البعض أنه يأتي من حقيقة أن الأزرق يعني الداكن، والأصفر يعني الفاتح، وبالتالي الأخضر يعني بينهما. تفسير أحدث يرتبط بما يسمى undertones (درجات تحتية)، وهو مصطلح أصبح شائعًا مع ظهور ماركات المكياج للبشرة الداكنة في السنوات الأخيرة. يقول هذا التفسير إنه على الرغم من أن البشرة السوداء بنية اللون، لتفتيح أو تغميق المكياج، لا يتم خلطه مع الأبيض، بل مع ألوان تحتية. إذا كانت لديك تدرجات دافئة، يُخلط المكياج مع الأصفر، وإذا كانت لديك تدرجات باردة، يُخلط مع الأزرق.
بغض النظر عما إذا كان السودانيون في الماضي قد رأوا التدرجات اللونية أو ببساطة لم يكن لديهم الوقت لاختراع أسماء جديدة لألوان مختلفة، ما هو مؤكد هو أن اللغة والعواطف والإدراك مرتبطون بطرق عديدة تثير النقاش لعقود قادمة.
لوحة الغلاف من تصميم زينب جعفر
كسودانية أتحدث العربية، وكامرأة (أذكر هذه المقدمة فقط في حال وجدتها ذات صلة)، عشتُ دائماً في بلدان يغلب فيها التحدث بالعربية، سواء في السودان أو في الخليج العربي. كانت تصوري للغة قائمًا على مدى اختلاف اللهجات العربية، والاختلافات اللغوية بين العربية والإنجليزية، بما أني أعرف لغتين فقط. بالنسبة لي، جاءت هذه الاختلافات من الثقافة وتطور اللغة. على سبيل المثال، كلمتا landscape وskyline ليس لهما مكافئ دقيق في اللغة العربية، بل تُترجمان تقريبًا إلى "مشهد طبيعي" و"أفق"، والتي تعني أشياء متعددة مثل الأفق، الاحتمالات، والميل. وهناك أيضًا كلمات جديدة مثل "networking"، التي لها ترجمة حرفية (تشبيك) لكن لا أحد يستخدمها لأن الكلمة الإنجليزية أكثر شيوعًا. ما هو معقد وجميل في اللغة العربية هو أنه، مثل كلمة الأفق، قد تعني العديد من الأشياء الأخرى، ولكن يمكنك أيضًا أن تجد مليون كلمة لوصف الحب، على سبيل المثال.
اليوم، لم أعد أعيش في بلد يغلب فيه التحدث بالعربية، وأصبحت الإنجليزية هي اللغة التي أستخدمها يوميًا بشكل أساسي. ومع تعلمي المزيد عن ثقافات الآخرين واستخداماتهم للغة، اكتسبت منظورًا جديدًا لم أكن على دراية به من قبل. في أحد الأيام، عُرض عليّ قطعة من الكعك، أخذت قضمة واحدة، ولكن بسبب ثقلها لم أتمكن من تناول المزيد. في اللهجة السودانية لدينا كلمة لوصف هذا الإحساس، وهي "قَهَم" وعادة ما يُضاف لها بادئة أو لاحقة لتوضيح من مرّ بهذه التجربة. لا، الكلمة لا تعني الشبع أو الامتلاء، لأنك قد تكون قادرًا على تناول المزيد، لكن عدم القدرة يأتي من ثقل الطعام أو حلاوته الزائدة، أو حتى مجرد رؤيته.
عندما أعود إلى فهمي الجديد، ما وجدته مثيرًا للاهتمام ليس مجرد غياب كلمة إنجليزية مكافئة، بل أن أصدقائي لم يفهموا الشعور الذي كنت أصفه على الإطلاق. كان هذا منظورًا معاكسًا لمعرفتي السابقة. غياب الكلمات يزيل الإحساس المرتبط بها. معلومة ممتعة قبل أن أواصل: هذه الكلمة موجودة في الثقافة المكسيكية، ولكن عندما تُستخدم لوصف شخص ما، فإنها تعني أنه مليء بالمجاملات الزائفة أو غير المخلصة، بينما في السودانية تُستخدم لوصف شخص يضيق عليك بالتحدث كثيرًا، على سبيل المثال.
هذا الاكتشاف جعلني أشعر بالفضول تجاه كيفية تأثير اللغة على العواطف. بالطبع هناك جانب أن قدرتك على وصف مشاعرك بشكل أفضل يساعدك في فهمها، ولكن هذا يعني أنك يجب أن تكون قادرًا على التعرف على مشاعرك في المقام الأول. يصف جوناثان ريي في كتابه I See A Voice: A Philosophical History هذه العملية على أنها ذات اتجاهين، بمجرد حدوث شيء ما، تكون هناك تجربة داخلية "الإدراك" وتجربة خارجية "التعبير أو الفعل". ولكن نوع هذه التجارب يتأثر بأشياء مثل الخيال، التأمل، والوعي، بناءً على كيفية إدارتك لها كما يفعل قائد الأوركسترا. بالنسبة لي، هذا هو دور الثقافة؛ فالخيال حول شعور ما قد يتأثر بالثقافة المحيطة بك، وحقيقة أنك لا تملك كلمة لوصفه لا تعني أنك لا تشعر به. ربما يمكن فهم ذلك بشكل أفضل من خلال شيء نعتقد جميعًا أننا نفهمه بنفس الطريقة، مثل الألوان.
في الفيلم الوثائقي القصير من Vox بعنوان The surprising pattern behind color names around the world، يوصف كيف أن العديد من اللغات حول العالم لديها فقط ثلاثة أو أربعة ألوان: داكن، فاتح، أحمر، أخضر أو أصفر. على الرغم من وجود عدد لا حصر له من الألوان في العالم، تختار الثقافات المختلفة الألوان التي ستسميها. قبل أن يتوصل العلماء إلى هذا الفهم، كانوا يعتقدون أن الأشخاص الذين لغاتهم لديها أسماء ألوان محدودة يعانون من عمى الألوان!
إذا كنت سودانيًا، فقد تكون الفقرة السابقة قد أثارت لديك فكرة معينة، وهي كلمتا "أزرق" و"أبيض" في اللغة العربية، حيث تم استخدامهما تاريخيًا في السودان لوصف الفاتح والداكن. على سبيل المثال، النيل الأبيض والنيل الأزرق يأتيان من هذا الفهم. يتدفق النيل الأزرق من بحيرة تانا في جبال إثيوبيا بسرعة، حاملاً الكثير من الطمي، بينما يأتي النيل الأبيض من بحيرة فيكتوريا في أوغندا، وقد قطع مسافة طويلة، مما يجعله هادئًا وعريضًا ولا يحمل الطمي.
التوب الأبيض وتوب الزراق (التوب الأزرق) يحملان تسميات مشابهة. المادة الأساسية لصنع الأقمشة في أجزاء كبيرة من السودان هي القطن، ويمكن تتبع النسيج الحديث إلى القرن التاسع عشر. ومع ذلك، تم العثور على منسوجات قطنية أيضًا في حفريات مروي والنوبة السفلى، مما يشير إلى تاريخ أقدم. الملابس البيضاء منطقية مع مناخنا الحار، واسم الأبيض موجود منذ زمن بعيد، مثل اسم الأُبيض، عاصمة شمال كردفان، التي حصلت على اسمها من حمار أبيض. الأزرق، من ناحية أخرى، قد يكون محيرًا، حيث يشير التوب الأزرق عادة إلى توب أبيض مصبوغ بالنيلة. نبتة النيلة معروفة في السودان ومصر، وتُستخدم لوصف الظلام أو السواد، على الرغم من أنها تنتج قماشًا أزرق اللون.
يتجاوز ارتباك الألوان في اللهجة السودانية الأقمشة ليشمل الكائنات التي ترتديها وكيف نصف ألوان بعضنا البعض. الألوان الأربعة المعروفة "لألوان الناس" هي الأخضر، الأصفر، الأزرق، والأحمر. هناك كلمات مثل "حلبي" لوصف ذوي البشرة الفاتحة، وهي تعود إلى أصول واضحة، والأحمر يُستخدم أيضًا لوصف الأشخاص ذوي البشرة الفاتحة لأن بشرتهم تتحول إلى الأحمر في الحرارة. لكن كيف توصلنا إلى وصف الناس بالأخضر؟ من المثير للاهتمام أن هذا الوصف اللوني ليس ظاهرة سودانية فقط، بل معروف أيضًا في دول عربية أخرى مثل عمان والكويت. هناك تكهنات مختلفة حول كيفية حدوث ذلك، يفترض البعض أنه يأتي من حقيقة أن الأزرق يعني الداكن، والأصفر يعني الفاتح، وبالتالي الأخضر يعني بينهما. تفسير أحدث يرتبط بما يسمى undertones (درجات تحتية)، وهو مصطلح أصبح شائعًا مع ظهور ماركات المكياج للبشرة الداكنة في السنوات الأخيرة. يقول هذا التفسير إنه على الرغم من أن البشرة السوداء بنية اللون، لتفتيح أو تغميق المكياج، لا يتم خلطه مع الأبيض، بل مع ألوان تحتية. إذا كانت لديك تدرجات دافئة، يُخلط المكياج مع الأصفر، وإذا كانت لديك تدرجات باردة، يُخلط مع الأزرق.
بغض النظر عما إذا كان السودانيون في الماضي قد رأوا التدرجات اللونية أو ببساطة لم يكن لديهم الوقت لاختراع أسماء جديدة لألوان مختلفة، ما هو مؤكد هو أن اللغة والعواطف والإدراك مرتبطون بطرق عديدة تثير النقاش لعقود قادمة.
لوحة الغلاف من تصميم زينب جعفر

كسودانية أتحدث العربية، وكامرأة (أذكر هذه المقدمة فقط في حال وجدتها ذات صلة)، عشتُ دائماً في بلدان يغلب فيها التحدث بالعربية، سواء في السودان أو في الخليج العربي. كانت تصوري للغة قائمًا على مدى اختلاف اللهجات العربية، والاختلافات اللغوية بين العربية والإنجليزية، بما أني أعرف لغتين فقط. بالنسبة لي، جاءت هذه الاختلافات من الثقافة وتطور اللغة. على سبيل المثال، كلمتا landscape وskyline ليس لهما مكافئ دقيق في اللغة العربية، بل تُترجمان تقريبًا إلى "مشهد طبيعي" و"أفق"، والتي تعني أشياء متعددة مثل الأفق، الاحتمالات، والميل. وهناك أيضًا كلمات جديدة مثل "networking"، التي لها ترجمة حرفية (تشبيك) لكن لا أحد يستخدمها لأن الكلمة الإنجليزية أكثر شيوعًا. ما هو معقد وجميل في اللغة العربية هو أنه، مثل كلمة الأفق، قد تعني العديد من الأشياء الأخرى، ولكن يمكنك أيضًا أن تجد مليون كلمة لوصف الحب، على سبيل المثال.
اليوم، لم أعد أعيش في بلد يغلب فيه التحدث بالعربية، وأصبحت الإنجليزية هي اللغة التي أستخدمها يوميًا بشكل أساسي. ومع تعلمي المزيد عن ثقافات الآخرين واستخداماتهم للغة، اكتسبت منظورًا جديدًا لم أكن على دراية به من قبل. في أحد الأيام، عُرض عليّ قطعة من الكعك، أخذت قضمة واحدة، ولكن بسبب ثقلها لم أتمكن من تناول المزيد. في اللهجة السودانية لدينا كلمة لوصف هذا الإحساس، وهي "قَهَم" وعادة ما يُضاف لها بادئة أو لاحقة لتوضيح من مرّ بهذه التجربة. لا، الكلمة لا تعني الشبع أو الامتلاء، لأنك قد تكون قادرًا على تناول المزيد، لكن عدم القدرة يأتي من ثقل الطعام أو حلاوته الزائدة، أو حتى مجرد رؤيته.
عندما أعود إلى فهمي الجديد، ما وجدته مثيرًا للاهتمام ليس مجرد غياب كلمة إنجليزية مكافئة، بل أن أصدقائي لم يفهموا الشعور الذي كنت أصفه على الإطلاق. كان هذا منظورًا معاكسًا لمعرفتي السابقة. غياب الكلمات يزيل الإحساس المرتبط بها. معلومة ممتعة قبل أن أواصل: هذه الكلمة موجودة في الثقافة المكسيكية، ولكن عندما تُستخدم لوصف شخص ما، فإنها تعني أنه مليء بالمجاملات الزائفة أو غير المخلصة، بينما في السودانية تُستخدم لوصف شخص يضيق عليك بالتحدث كثيرًا، على سبيل المثال.
هذا الاكتشاف جعلني أشعر بالفضول تجاه كيفية تأثير اللغة على العواطف. بالطبع هناك جانب أن قدرتك على وصف مشاعرك بشكل أفضل يساعدك في فهمها، ولكن هذا يعني أنك يجب أن تكون قادرًا على التعرف على مشاعرك في المقام الأول. يصف جوناثان ريي في كتابه I See A Voice: A Philosophical History هذه العملية على أنها ذات اتجاهين، بمجرد حدوث شيء ما، تكون هناك تجربة داخلية "الإدراك" وتجربة خارجية "التعبير أو الفعل". ولكن نوع هذه التجارب يتأثر بأشياء مثل الخيال، التأمل، والوعي، بناءً على كيفية إدارتك لها كما يفعل قائد الأوركسترا. بالنسبة لي، هذا هو دور الثقافة؛ فالخيال حول شعور ما قد يتأثر بالثقافة المحيطة بك، وحقيقة أنك لا تملك كلمة لوصفه لا تعني أنك لا تشعر به. ربما يمكن فهم ذلك بشكل أفضل من خلال شيء نعتقد جميعًا أننا نفهمه بنفس الطريقة، مثل الألوان.
في الفيلم الوثائقي القصير من Vox بعنوان The surprising pattern behind color names around the world، يوصف كيف أن العديد من اللغات حول العالم لديها فقط ثلاثة أو أربعة ألوان: داكن، فاتح، أحمر، أخضر أو أصفر. على الرغم من وجود عدد لا حصر له من الألوان في العالم، تختار الثقافات المختلفة الألوان التي ستسميها. قبل أن يتوصل العلماء إلى هذا الفهم، كانوا يعتقدون أن الأشخاص الذين لغاتهم لديها أسماء ألوان محدودة يعانون من عمى الألوان!
إذا كنت سودانيًا، فقد تكون الفقرة السابقة قد أثارت لديك فكرة معينة، وهي كلمتا "أزرق" و"أبيض" في اللغة العربية، حيث تم استخدامهما تاريخيًا في السودان لوصف الفاتح والداكن. على سبيل المثال، النيل الأبيض والنيل الأزرق يأتيان من هذا الفهم. يتدفق النيل الأزرق من بحيرة تانا في جبال إثيوبيا بسرعة، حاملاً الكثير من الطمي، بينما يأتي النيل الأبيض من بحيرة فيكتوريا في أوغندا، وقد قطع مسافة طويلة، مما يجعله هادئًا وعريضًا ولا يحمل الطمي.
التوب الأبيض وتوب الزراق (التوب الأزرق) يحملان تسميات مشابهة. المادة الأساسية لصنع الأقمشة في أجزاء كبيرة من السودان هي القطن، ويمكن تتبع النسيج الحديث إلى القرن التاسع عشر. ومع ذلك، تم العثور على منسوجات قطنية أيضًا في حفريات مروي والنوبة السفلى، مما يشير إلى تاريخ أقدم. الملابس البيضاء منطقية مع مناخنا الحار، واسم الأبيض موجود منذ زمن بعيد، مثل اسم الأُبيض، عاصمة شمال كردفان، التي حصلت على اسمها من حمار أبيض. الأزرق، من ناحية أخرى، قد يكون محيرًا، حيث يشير التوب الأزرق عادة إلى توب أبيض مصبوغ بالنيلة. نبتة النيلة معروفة في السودان ومصر، وتُستخدم لوصف الظلام أو السواد، على الرغم من أنها تنتج قماشًا أزرق اللون.
يتجاوز ارتباك الألوان في اللهجة السودانية الأقمشة ليشمل الكائنات التي ترتديها وكيف نصف ألوان بعضنا البعض. الألوان الأربعة المعروفة "لألوان الناس" هي الأخضر، الأصفر، الأزرق، والأحمر. هناك كلمات مثل "حلبي" لوصف ذوي البشرة الفاتحة، وهي تعود إلى أصول واضحة، والأحمر يُستخدم أيضًا لوصف الأشخاص ذوي البشرة الفاتحة لأن بشرتهم تتحول إلى الأحمر في الحرارة. لكن كيف توصلنا إلى وصف الناس بالأخضر؟ من المثير للاهتمام أن هذا الوصف اللوني ليس ظاهرة سودانية فقط، بل معروف أيضًا في دول عربية أخرى مثل عمان والكويت. هناك تكهنات مختلفة حول كيفية حدوث ذلك، يفترض البعض أنه يأتي من حقيقة أن الأزرق يعني الداكن، والأصفر يعني الفاتح، وبالتالي الأخضر يعني بينهما. تفسير أحدث يرتبط بما يسمى undertones (درجات تحتية)، وهو مصطلح أصبح شائعًا مع ظهور ماركات المكياج للبشرة الداكنة في السنوات الأخيرة. يقول هذا التفسير إنه على الرغم من أن البشرة السوداء بنية اللون، لتفتيح أو تغميق المكياج، لا يتم خلطه مع الأبيض، بل مع ألوان تحتية. إذا كانت لديك تدرجات دافئة، يُخلط المكياج مع الأصفر، وإذا كانت لديك تدرجات باردة، يُخلط مع الأزرق.
بغض النظر عما إذا كان السودانيون في الماضي قد رأوا التدرجات اللونية أو ببساطة لم يكن لديهم الوقت لاختراع أسماء جديدة لألوان مختلفة، ما هو مؤكد هو أن اللغة والعواطف والإدراك مرتبطون بطرق عديدة تثير النقاش لعقود قادمة.
لوحة الغلاف من تصميم زينب جعفر

اللغة والتراث

اللغة والتراث
تمثل اللغة الوسيط الأساسي للتعبير بين المجتمعات عن كل من هويتها وتراثها الثقافي. الأهم من ذلك هي وسيلتهم لتناقل معارفهم المحلية والقيم الثقافية والاجتماعية والذاكرة الجماعية. كما تدخل اللغة في كل أشكال التعبير الشفهي للتراث. في هذه الحلقة القصيرة من خُرْطُوم بودكاست نتناول موضوع اللغة كمستودع للتراث والثقافة المحلية والمعرفة الأصلية. تم إنتاج الموسم الثاني من خُرْطُوم بودكاست كجزء من حملة #تراثنا_سودانا والممولة من قبل مشروع صون تراث السودان الحي.
الحلقة القصيرة اللغة والتراث من خرطوم بودكاست متاحة الآن على كل منصات الاستماع.
المتحدث في حلقة اللغة والتراث هو سانديوس كودى، كاتب، ومحاضر بجامعة الخرطوم ومهتم بالفنون والثقافة. كما يظهر تسجيل مقطع لمحمد الأمين من فيلم فرقة الأمل من إنتاج حملة ناس شغالة وستوديوهات كولوسيوم. محمد الأمين أستاذ موسيقى، ومؤسس مركز اومكر للدراسات، المهتم بتوثيق تراث البجا ولغة البداويت بشرق السودان.
تمثل اللغة الوسيط الأساسي للتعبير بين المجتمعات عن كل من هويتها وتراثها الثقافي. الأهم من ذلك هي وسيلتهم لتناقل معارفهم المحلية والقيم الثقافية والاجتماعية والذاكرة الجماعية. كما تدخل اللغة في كل أشكال التعبير الشفهي للتراث. في هذه الحلقة القصيرة من خُرْطُوم بودكاست نتناول موضوع اللغة كمستودع للتراث والثقافة المحلية والمعرفة الأصلية. تم إنتاج الموسم الثاني من خُرْطُوم بودكاست كجزء من حملة #تراثنا_سودانا والممولة من قبل مشروع صون تراث السودان الحي.
الحلقة القصيرة اللغة والتراث من خرطوم بودكاست متاحة الآن على كل منصات الاستماع.
المتحدث في حلقة اللغة والتراث هو سانديوس كودى، كاتب، ومحاضر بجامعة الخرطوم ومهتم بالفنون والثقافة. كما يظهر تسجيل مقطع لمحمد الأمين من فيلم فرقة الأمل من إنتاج حملة ناس شغالة وستوديوهات كولوسيوم. محمد الأمين أستاذ موسيقى، ومؤسس مركز اومكر للدراسات، المهتم بتوثيق تراث البجا ولغة البداويت بشرق السودان.

تمثل اللغة الوسيط الأساسي للتعبير بين المجتمعات عن كل من هويتها وتراثها الثقافي. الأهم من ذلك هي وسيلتهم لتناقل معارفهم المحلية والقيم الثقافية والاجتماعية والذاكرة الجماعية. كما تدخل اللغة في كل أشكال التعبير الشفهي للتراث. في هذه الحلقة القصيرة من خُرْطُوم بودكاست نتناول موضوع اللغة كمستودع للتراث والثقافة المحلية والمعرفة الأصلية. تم إنتاج الموسم الثاني من خُرْطُوم بودكاست كجزء من حملة #تراثنا_سودانا والممولة من قبل مشروع صون تراث السودان الحي.
الحلقة القصيرة اللغة والتراث من خرطوم بودكاست متاحة الآن على كل منصات الاستماع.
المتحدث في حلقة اللغة والتراث هو سانديوس كودى، كاتب، ومحاضر بجامعة الخرطوم ومهتم بالفنون والثقافة. كما يظهر تسجيل مقطع لمحمد الأمين من فيلم فرقة الأمل من إنتاج حملة ناس شغالة وستوديوهات كولوسيوم. محمد الأمين أستاذ موسيقى، ومؤسس مركز اومكر للدراسات، المهتم بتوثيق تراث البجا ولغة البداويت بشرق السودان.