جزيرة توتي

إن الطريقة التي قام بها سكان جزيرة توتي بتكييف الأساليب لمواجهة الفيضانات رائعة للغاية.

اقرأ المزيد
معرض الصور
No items found.
Pointing at Speaker
نُشر بتاريخ
21/1/25
المؤلف:
زينب .ع .م جعفر
المحرر:
سارة النقر
المحرر:
سارة النقر
مأمون التلب
المترجم:
خالدة محمد نور
المترجم:
النتيجة

  /  

العب مرة أخرى

  /   الاجابات

قصة صُمود جزيرة سُودانيَّة في وجهِ تحديات البقاء

المعرفة الجماعية

في عصر الذكاء الاصطناعي، يُعرَّف مصطلح التعليم الآلي بأنه عمليّة يتم فيها تغذية أجهزة الكمبيوتر بكميّات كبيرة من البيانات، ومن ثم من خلال الخوارزميات تقوم هذه الأجهزة بالتعرّف على أنماط معينة مما يمكّنها من جلب إجابات مفيدة لأسئلتنا.

أصبح الآن مصدر هذه المعلومات موضوع نقاش أخلاقيّ؛ حيث تدور تساؤلات حول مصدر المعلومات وموافقة أصحابها لاستخدامها من قبل أطرافٍ أخرى.

تُعرَّف عملية تجميع المعلومات من عدة أفراد للاستفادة منها بمفهوم "المعرفة الجماعية"، وهو ليس مفهوماً مُقتَصِراً على هذا العصر بل يمكن تتبّعه منذ القرن الثامن عشر، كذلك فقد تناوله أفلاطون في فكرة “ العقل الجماعي”.

و من أمثلة استخدام المعرفة الجماعية فقد كانت في عام ١٨٥٧، حيث قامت مجموعة من المثقفين البريطانيين بتجميع قاموس إنجليزي يحوي مجموعة شاملة من الكلمات، مع تفصيل التعريفات والاستخدامات، وذلك من خلال نشر نداءٍ لمتطوعين لإرسال كلمات من الكتب الموجودة بمكتباتِهم، مما أدى لتجميع أكثر من مليوني مرجع للكلمات. وحتى في عالم الأعمال اليوم تحاول الشركات تعزيز مفهوم المعرفة الجماعية وتبادلها بين الموظفين والاحتفاظ بها كرأس مال للشركة.

و مع ذلك فإن مفهوم "العقل الجماعي" والذي وصفه أفلاطون يسبق القرن الثامن عشر، فهو يُعدّ أحد سمات المجتمعات الإنسانية؛ إذ أن تجمّع مجموعة إنسانية للعيش في مكانٍ واحد لفترة طويلة من الزمن سيؤدي، بكلّ تأكيد، إلى تَكوِينِ نوعٍ من المعرفة الجماعية  ممثلةً في مجموعة المعارف، الخبرات، المهارات، الممارسات والاعتقادات والتفاعل بينها، ويتمّ تطويرها وحفظها، ومن ثم نقلها عبر الأجيال.

يمكن تسميتها بـ"المعرفة الجمعية"، فعندما يشارك عدد كبير من الأفراد مهاراتهم ومعرفتهم، فإن المحصلة المعرفية تكون أقيم من مجرد جمع المعارف الفردية. ومن المهم الإشارة إلى عنصر المشاركة، لأنه، على الرغم من أن المجموعة تشترك في كثير من المعرفة، إلا أن هنالك مستوىً فرديّ من الخبرة يلعب دوراً جوهريَّاً في عمل المجموعة كوِحدَة متناسقة.

جزيرة توتي، ٢٠١٧ © زينب جعفر

لكن كيف يقوم مجتمع معيّن بمشاركة المعرفة بين أعضائه إلى درجة أن الطفل قد يمتلك في سنٍّ مبكرة ثروة من المعرفة عن مجتمعه؟ يستمرّ الباحثون في دراسة المعرفة التقليديّة أو الأصلية من خلال منظور أنثروبولوجي. تشمل بعض الطرق لنقل هذا النوع من المعرفة سرد القصص، وهي وسيلة مهمة للتعليم والتعلّم في العديد من المجتمعات، وتعتمد على النقل الشفهي والاعتماد على الذاكرة الجمعية. يمكن أن تدور هذه القصص حول التاريخ المحلي، والحكمة، والمهارات، وفهم الأرض. وتُعتبر الأغاني، والرقصات، وصنع الحرف، والطقوس، وممارسة التقاليد طريقة أخرى تُعرف باسم "التعلم الظليّ" الذي ينطوي أساساً على مشاهدة الشباب لكبار السن وتقليد أفعالهم.

كل هذه الأنظمة الثقافية هي نتاج تراكمي للمعرفة المجتمعية والتفاعل النَشِط، والتي يتم تسخيرها لخدمة أهداف البقاء والازدهار للمجموعة. إنها متأصلة بشكل عميق في السياق الثقافي والاجتماعي والبيئي لتلك المجموعة، وغالبًا ما تعكس طريقتها الفريدة في فهم العالم والتفاعل معه. المعرفة محصورة جماعيًا بدلاً من أن يمتلكها فرد واحد، وتتطوَّر مع تكيف المجتمع مع التغيرات في بيئته ونمط حياته.

النهر صديق وليس عدو

تُعدّ مجتمع جزيرة توتي مثالًا بارزًا على كيفية احتفاظ المجتمعات بالمعرفة واستخدامها، على مرّ العقود، للبقاء على قيد الحياة في مواجهة مصاعب مثل الفيضانات الكبيرة.

تقع جزيرة توتي، التي تعدّ واحدة من أكبر الجزر الواقعة على نهر النيل، عند تقاطع النيل الأزرق والنيل الأبيض في قلب الخرطوم، وتبلغ مساحتها حوالي أربعة كيلومترات مربعة. وقد سُكنت الجزيرة منذ القرن الخامس عشر، لكن عالم الآثار البريطاني أركيل يعتقد أنها كانت مأهولةً في وقتٍ أبكر بسبب وجود قطع أثرية تعود إلى العصر الحجري الحديث على الجزيرة. تضم الجزيرة عدة مجموعات عرقية من جميع أنحاء السودان ومن الخارج. وقد جَلَبَت هذه المجموعات ثقافاتها وتقاليدها الفريدة التي تم نقلها من جيل إلى جيل.

جزيرة توتي ١٩٨١ © أرشيف جامعة دورهام

على الرغم من موقعها في قلب العاصمة، فإن توتي ظلَّت على حالتها الريفية حتى وقت قريب. فقد شَكَّل اختلاف بنيتها التحتية، والشكل الريفي للحياة فيها، إلى وجود تباينٍ واضح بينها وبين بقيَّة أجزاء الخرطوم الواقعة على الضفة الأخرى من النهر، على بعد أمتارٍ قليلة. تَسَارعت خطوات التمدّن في الجزيرة من خلال المشاريع العمرانية، بالأخص جسر توتي، وهو الجسر الأول والأوحد الذي يربط الجزيرة ببقيَّة العاصمة؛ حيث كان التنقّل من وإلى الجزيرة يتم من خلال المراكب والعَبَّارات، ومما لاشَكَّ فيه أن تأثير كبري توتي على سكان الجزيرة كانَ كبيراً؛ حيث سَهُل الوصول للخدمات وفرص العمل، كما أدَّى إلى زيادة عدد السكان، وبالتالي، المزيد من التنوّع في التركيبة السُكَّانية. وإلى الآن، لا نُدركُ فعلاً حجم تأثيرات الجسر على بيئة الجزيرة ونسيجها الاجتماعي، أو عن الدور الذي لعبته ممارسات المعرفة التقليدية المحليَّة في التعامل مع ما جَدَّ من ظروف.

بالنسبة لسكَّان الجزيرة، يُعتَبر النيل هو مصدر الحياة، حيث تعتمد سُبُل عيشهم بشكلٍ أساسيّ على الزراعة والصيد، وتُزرع في تربتها الخصبة مجموعة متنوعة من الخضروات والفواكه، ويُشكِّل الصيد مصدر دخلٍ رئيسيّ للعديد من السكان الذين يعتمدون على النهر في جلب رزقهم اليومي.

صورة من كتاب توتيت والنيل. تم النشر عام 2016. عرض جزيرة توتي خلال فيضانات عام 1988 © مركز توثيق جزيرة توتي

ومع ذلك، عندما يبدأ موسم الفيضان، يُشكّل النيل مصدر تهديدٍ للجزيرة.

كان أوّل فيضان كبير مُسجَّل في الخرطوم في عام ١٨٧٨، عندما تخطَّى النيل الأزرق ضفافه، وألحق أضراراً بالمنازل وسبل العيش. وتسبَّب فيضانٌ آخر في الخرطوم عام ١٩٤٦ بأضرار واسعة على المباني والبنية التحتية، حيث وصلت مياه الفيضانات إلى ارتفاع ستة أمتار في بعض المناطق، مما ترك الآلاف بلا مأوى. وعام ١٩٨٨م، أدّى هطول أمطار غزيرة على مدى عدة أيام إلى حدوث فيضانات، وصل عدد ضحاياها أكثر من ألفٍ، ونزوح الآلاف من الناس. في الآونة الأخيرة، تسببت الأمطار الغزيرة عام ٢٠٢٠ في فيضانات أثَّرت على ما يقرب من مليون شخص، وفي الخرطوم وحدها، قُتل أكثر من مئة شخص، مع نزوح الآلاف، وتُقدَّر الأضرار بنحو ٤.٤ مليار دولار أمريكي، وكان مثيراً للاهتمام عدم ورود بلاغات عن أية إصابات في الجزيرة، ودُمِّر منزلان فقط، رغم تعرضها للفيضان أيضاً.  

من الضروري فهم أن الفيضان ليس كارثة طبيعية بل هو من صُنع الإنسان، ذلك أن من طبيعة النهر الفيضان، كان يفيض منذ آلاف السنين على هذه الأرض، ثم جاء السُكَّان للعيش فيها لاحقاً. تزدهر الأرض وتعيش النباتات والحيوانات والإنسان، والنهر في حاجةٍ للتنفّس بالتمدّد، ذلك ما يقتضيه النظام البيئي الذي تعتمد عليه الحياة مما يجعل الفيضان أمراً حتميَّاً.

ومع مرور الزمن، فإن اتفاقية التعايش القائمة على الاستخدام المؤقت للأرض التي يفيض عليها النيل من قبل البشر تآكلت تدريجياً، وأصبح الخطّ الفاصل ما بين النهر والناس غير واضح. أصبح هؤلاء السكان الجُدد لا يفهمون النهر، كلّ ما يعرفونه أن على النهر أن يتدفَّق ممتثلاً أمام جلساتهم على ضفافه، وطقوس طمس المواليد الجُدد في مياهه للتبرّك. ولكن النهر يعود دوماً للمطالبة بأراضيه، ذلك ما يدركه جيداً سكان توتي، ويعرفون أنهم لا يستطيعون محاربة الفيضان أو تفاديه، ووجب عليهم تعلُّم كيفيَّة التعايش معه.

قصة تضامن

إن الطريقة التي تبنَّاها سكان توتي لمواجهة الفيضان هي حقاً مثيرة للاهتمام. يطلقون اسم "التايات" على نظام مراقبة الفيضان، وفي الأصل تعني "التاية" مكان التجمّع أو المأوى. ساعد فيضان عام ١٩٤٦ الشهير على تطوير ثقافة مواجهة الفيضان لدى سكان الجزيرة، حيث تعود القصة إلى عام ١٩٤٤ عندما أمر الحاكم الإنجليزي في ذلك الوقت بإخلاء الجزيرة لضمّها إلى أملاك كلية غردون التذكارية. رَفَض قاطنو الجزيرة الأمر، مما أدى لنشوب أزمة ثقة وصراع بين السكان والمستعمر. لاحقاً، في عام ١٩٤٦ عندما حدث الفيضان، رَفَضت سلطات الاحتلال تزويد السكان بالمعينات لحماية منازلهم وممتلكاتهم. نتيجة لذلك تحرك السكان اعتماداً على أنفسهم لحماية الجزيرة من تصاعد المياه باستخدام أجسادهم كحواجز صدٍّ للمياه.

كان التضامن المجتمعيّ الذي حدث آنذاك هو النواة التي كوَّنت نظام "التاية"، الذي تطور وأصبح كما نعرفه اليوم. إن ما نتج عن ذلك من الشعور بالاستقلالية، وارتباط السكان بالجزيرة، بالإضافة للعادات السودانية في التعاون في أوقات الأزمات، أو ما يُعرف بالـ"فزع" والـ"نفير"، هو الذي أدَّى بالأساس إلى تَطوُّر نظام التاية.

خَلَّدت أُغنية "عجبوني الليلة جو" ذكرى ما حدث في عام ١٩٤٦، وساهمت في توطين هذه القِيم.

يتضمن جزء من نظام التاية مجموعة من نقاط لمراقبة نشاط النهر عن بُعد، مُتوزِّعة عبر الجزيرة، وتقوم بتنظيمها مجموعة من الناس من أحياء مختلفة، كما أن للنساء دورٌ أيضاً في توفير الطعام والخدمات للمراقبين لضمان استمرارها. ويتم ربطها بآلية تنبيه مثل الطبول ومكبرات الصوت في المساجد، وكل شخصٍ في الجزيرة، سواءً كان كبيراً أم طفلاً، رجلاً أم امرأة، يعرف كيف يقيم السدود عندما ترتفع المياه إذا لزم عليه فعل ذلك.

يُعيَّن الشخص المسؤول عن إدارة التاية في بداية موسم الفيضان، ويتم تبادل مواقع نقاط المراقبة دورياً بين مجموعة مكونة من سبعة أشخاص. وكذلك يتم تطوير نظام التاية سنوياً، وتغيير مواقع المراقبة وفقاً لمتطلبات التطور العمراني وتغير أنماط الفيضان.

إحدى التغييرات الرئيسية كانت إنشاء لجنة الفيضانات لجزيرة توتي. تأسست اللجنة عام ١٩٨٨، ومنذ ذلك الحين أصبحت هيئة معترف بها من قبل الحكومة، تُنظِّم جميع مراحل إدارة الفيضانات وكذلك جميع أنواع التمويل والمساعدات. لم تذهب معرفة أهل توتي سدىً، وتم تكريمهم من قبل هيئة الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث UNISDR، كأبطال للحدّ من مخاطر الكوارث.

ما يحمله المستقبل

من المحتمل أن يكون تأثير الفيضانات المستقبلية مختلفًا بسبب عدة عوامل، بما في ذلك التوقعات المناخية التي تشير إلى ازدياد شدة هطول الأمطار مستقبلاً. علاوة على ذلك، فإن الحرب المستمرة التي اندلعت منذ منتصف أبريل ٢٠٢٣، والحصار المباشر الذي تعرض له سكان الجزيرة منذ ذلك الحين؛ قد أثر بشكلٍ كبير على قدرة السكان للاستجابة. وقد أدت الحرب أيضاً إلى نزوح عدد كبير من سكان الجزيرة، مما أثَّر بشكل مباشر على قدرة السكان على حماية أنفسهم من الفيضانات. كانت المعرفة الجماعية فيما يتعلق بالدفاع ضدَّ الفيضانات وعدد المستجيبين المتاحين هما أهم أصول المجتمع. وبالتالي، فإن الصراع الحالي يُعرِّض الممارسات القائمة على المعرفة التقليدية لخطرٍ كبير، مع عواقب لا رجعة فيها. ومع ذلك، ربما عندما يحين الوقت، ستكون دروس صمود سكان جزيرة توتي في مواجهة الكوارث الطبيعية المتفاقمة بسبب الأفعال البشرية، هي قصة ستظل تُحكى وتُذكر باستمرار.

صورة الغلاف: جزيرة توتي ٢٠١٧ © زينب جعفر

No items found.
نُشر بتاريخ
21/1/25
المؤلف:
زينب .ع .م جعفر
Editor
سارة النقر
مأمون التلب
المحرر:
سارة النقر
مأمون التلب
المترجم:
خالدة محمد نور
Translator
قصة صُمود جزيرة سُودانيَّة في وجهِ تحديات البقاء

المعرفة الجماعية

في عصر الذكاء الاصطناعي، يُعرَّف مصطلح التعليم الآلي بأنه عمليّة يتم فيها تغذية أجهزة الكمبيوتر بكميّات كبيرة من البيانات، ومن ثم من خلال الخوارزميات تقوم هذه الأجهزة بالتعرّف على أنماط معينة مما يمكّنها من جلب إجابات مفيدة لأسئلتنا.

أصبح الآن مصدر هذه المعلومات موضوع نقاش أخلاقيّ؛ حيث تدور تساؤلات حول مصدر المعلومات وموافقة أصحابها لاستخدامها من قبل أطرافٍ أخرى.

تُعرَّف عملية تجميع المعلومات من عدة أفراد للاستفادة منها بمفهوم "المعرفة الجماعية"، وهو ليس مفهوماً مُقتَصِراً على هذا العصر بل يمكن تتبّعه منذ القرن الثامن عشر، كذلك فقد تناوله أفلاطون في فكرة “ العقل الجماعي”.

و من أمثلة استخدام المعرفة الجماعية فقد كانت في عام ١٨٥٧، حيث قامت مجموعة من المثقفين البريطانيين بتجميع قاموس إنجليزي يحوي مجموعة شاملة من الكلمات، مع تفصيل التعريفات والاستخدامات، وذلك من خلال نشر نداءٍ لمتطوعين لإرسال كلمات من الكتب الموجودة بمكتباتِهم، مما أدى لتجميع أكثر من مليوني مرجع للكلمات. وحتى في عالم الأعمال اليوم تحاول الشركات تعزيز مفهوم المعرفة الجماعية وتبادلها بين الموظفين والاحتفاظ بها كرأس مال للشركة.

و مع ذلك فإن مفهوم "العقل الجماعي" والذي وصفه أفلاطون يسبق القرن الثامن عشر، فهو يُعدّ أحد سمات المجتمعات الإنسانية؛ إذ أن تجمّع مجموعة إنسانية للعيش في مكانٍ واحد لفترة طويلة من الزمن سيؤدي، بكلّ تأكيد، إلى تَكوِينِ نوعٍ من المعرفة الجماعية  ممثلةً في مجموعة المعارف، الخبرات، المهارات، الممارسات والاعتقادات والتفاعل بينها، ويتمّ تطويرها وحفظها، ومن ثم نقلها عبر الأجيال.

يمكن تسميتها بـ"المعرفة الجمعية"، فعندما يشارك عدد كبير من الأفراد مهاراتهم ومعرفتهم، فإن المحصلة المعرفية تكون أقيم من مجرد جمع المعارف الفردية. ومن المهم الإشارة إلى عنصر المشاركة، لأنه، على الرغم من أن المجموعة تشترك في كثير من المعرفة، إلا أن هنالك مستوىً فرديّ من الخبرة يلعب دوراً جوهريَّاً في عمل المجموعة كوِحدَة متناسقة.

جزيرة توتي، ٢٠١٧ © زينب جعفر

لكن كيف يقوم مجتمع معيّن بمشاركة المعرفة بين أعضائه إلى درجة أن الطفل قد يمتلك في سنٍّ مبكرة ثروة من المعرفة عن مجتمعه؟ يستمرّ الباحثون في دراسة المعرفة التقليديّة أو الأصلية من خلال منظور أنثروبولوجي. تشمل بعض الطرق لنقل هذا النوع من المعرفة سرد القصص، وهي وسيلة مهمة للتعليم والتعلّم في العديد من المجتمعات، وتعتمد على النقل الشفهي والاعتماد على الذاكرة الجمعية. يمكن أن تدور هذه القصص حول التاريخ المحلي، والحكمة، والمهارات، وفهم الأرض. وتُعتبر الأغاني، والرقصات، وصنع الحرف، والطقوس، وممارسة التقاليد طريقة أخرى تُعرف باسم "التعلم الظليّ" الذي ينطوي أساساً على مشاهدة الشباب لكبار السن وتقليد أفعالهم.

كل هذه الأنظمة الثقافية هي نتاج تراكمي للمعرفة المجتمعية والتفاعل النَشِط، والتي يتم تسخيرها لخدمة أهداف البقاء والازدهار للمجموعة. إنها متأصلة بشكل عميق في السياق الثقافي والاجتماعي والبيئي لتلك المجموعة، وغالبًا ما تعكس طريقتها الفريدة في فهم العالم والتفاعل معه. المعرفة محصورة جماعيًا بدلاً من أن يمتلكها فرد واحد، وتتطوَّر مع تكيف المجتمع مع التغيرات في بيئته ونمط حياته.

النهر صديق وليس عدو

تُعدّ مجتمع جزيرة توتي مثالًا بارزًا على كيفية احتفاظ المجتمعات بالمعرفة واستخدامها، على مرّ العقود، للبقاء على قيد الحياة في مواجهة مصاعب مثل الفيضانات الكبيرة.

تقع جزيرة توتي، التي تعدّ واحدة من أكبر الجزر الواقعة على نهر النيل، عند تقاطع النيل الأزرق والنيل الأبيض في قلب الخرطوم، وتبلغ مساحتها حوالي أربعة كيلومترات مربعة. وقد سُكنت الجزيرة منذ القرن الخامس عشر، لكن عالم الآثار البريطاني أركيل يعتقد أنها كانت مأهولةً في وقتٍ أبكر بسبب وجود قطع أثرية تعود إلى العصر الحجري الحديث على الجزيرة. تضم الجزيرة عدة مجموعات عرقية من جميع أنحاء السودان ومن الخارج. وقد جَلَبَت هذه المجموعات ثقافاتها وتقاليدها الفريدة التي تم نقلها من جيل إلى جيل.

جزيرة توتي ١٩٨١ © أرشيف جامعة دورهام

على الرغم من موقعها في قلب العاصمة، فإن توتي ظلَّت على حالتها الريفية حتى وقت قريب. فقد شَكَّل اختلاف بنيتها التحتية، والشكل الريفي للحياة فيها، إلى وجود تباينٍ واضح بينها وبين بقيَّة أجزاء الخرطوم الواقعة على الضفة الأخرى من النهر، على بعد أمتارٍ قليلة. تَسَارعت خطوات التمدّن في الجزيرة من خلال المشاريع العمرانية، بالأخص جسر توتي، وهو الجسر الأول والأوحد الذي يربط الجزيرة ببقيَّة العاصمة؛ حيث كان التنقّل من وإلى الجزيرة يتم من خلال المراكب والعَبَّارات، ومما لاشَكَّ فيه أن تأثير كبري توتي على سكان الجزيرة كانَ كبيراً؛ حيث سَهُل الوصول للخدمات وفرص العمل، كما أدَّى إلى زيادة عدد السكان، وبالتالي، المزيد من التنوّع في التركيبة السُكَّانية. وإلى الآن، لا نُدركُ فعلاً حجم تأثيرات الجسر على بيئة الجزيرة ونسيجها الاجتماعي، أو عن الدور الذي لعبته ممارسات المعرفة التقليدية المحليَّة في التعامل مع ما جَدَّ من ظروف.

بالنسبة لسكَّان الجزيرة، يُعتَبر النيل هو مصدر الحياة، حيث تعتمد سُبُل عيشهم بشكلٍ أساسيّ على الزراعة والصيد، وتُزرع في تربتها الخصبة مجموعة متنوعة من الخضروات والفواكه، ويُشكِّل الصيد مصدر دخلٍ رئيسيّ للعديد من السكان الذين يعتمدون على النهر في جلب رزقهم اليومي.

صورة من كتاب توتيت والنيل. تم النشر عام 2016. عرض جزيرة توتي خلال فيضانات عام 1988 © مركز توثيق جزيرة توتي

ومع ذلك، عندما يبدأ موسم الفيضان، يُشكّل النيل مصدر تهديدٍ للجزيرة.

كان أوّل فيضان كبير مُسجَّل في الخرطوم في عام ١٨٧٨، عندما تخطَّى النيل الأزرق ضفافه، وألحق أضراراً بالمنازل وسبل العيش. وتسبَّب فيضانٌ آخر في الخرطوم عام ١٩٤٦ بأضرار واسعة على المباني والبنية التحتية، حيث وصلت مياه الفيضانات إلى ارتفاع ستة أمتار في بعض المناطق، مما ترك الآلاف بلا مأوى. وعام ١٩٨٨م، أدّى هطول أمطار غزيرة على مدى عدة أيام إلى حدوث فيضانات، وصل عدد ضحاياها أكثر من ألفٍ، ونزوح الآلاف من الناس. في الآونة الأخيرة، تسببت الأمطار الغزيرة عام ٢٠٢٠ في فيضانات أثَّرت على ما يقرب من مليون شخص، وفي الخرطوم وحدها، قُتل أكثر من مئة شخص، مع نزوح الآلاف، وتُقدَّر الأضرار بنحو ٤.٤ مليار دولار أمريكي، وكان مثيراً للاهتمام عدم ورود بلاغات عن أية إصابات في الجزيرة، ودُمِّر منزلان فقط، رغم تعرضها للفيضان أيضاً.  

من الضروري فهم أن الفيضان ليس كارثة طبيعية بل هو من صُنع الإنسان، ذلك أن من طبيعة النهر الفيضان، كان يفيض منذ آلاف السنين على هذه الأرض، ثم جاء السُكَّان للعيش فيها لاحقاً. تزدهر الأرض وتعيش النباتات والحيوانات والإنسان، والنهر في حاجةٍ للتنفّس بالتمدّد، ذلك ما يقتضيه النظام البيئي الذي تعتمد عليه الحياة مما يجعل الفيضان أمراً حتميَّاً.

ومع مرور الزمن، فإن اتفاقية التعايش القائمة على الاستخدام المؤقت للأرض التي يفيض عليها النيل من قبل البشر تآكلت تدريجياً، وأصبح الخطّ الفاصل ما بين النهر والناس غير واضح. أصبح هؤلاء السكان الجُدد لا يفهمون النهر، كلّ ما يعرفونه أن على النهر أن يتدفَّق ممتثلاً أمام جلساتهم على ضفافه، وطقوس طمس المواليد الجُدد في مياهه للتبرّك. ولكن النهر يعود دوماً للمطالبة بأراضيه، ذلك ما يدركه جيداً سكان توتي، ويعرفون أنهم لا يستطيعون محاربة الفيضان أو تفاديه، ووجب عليهم تعلُّم كيفيَّة التعايش معه.

قصة تضامن

إن الطريقة التي تبنَّاها سكان توتي لمواجهة الفيضان هي حقاً مثيرة للاهتمام. يطلقون اسم "التايات" على نظام مراقبة الفيضان، وفي الأصل تعني "التاية" مكان التجمّع أو المأوى. ساعد فيضان عام ١٩٤٦ الشهير على تطوير ثقافة مواجهة الفيضان لدى سكان الجزيرة، حيث تعود القصة إلى عام ١٩٤٤ عندما أمر الحاكم الإنجليزي في ذلك الوقت بإخلاء الجزيرة لضمّها إلى أملاك كلية غردون التذكارية. رَفَض قاطنو الجزيرة الأمر، مما أدى لنشوب أزمة ثقة وصراع بين السكان والمستعمر. لاحقاً، في عام ١٩٤٦ عندما حدث الفيضان، رَفَضت سلطات الاحتلال تزويد السكان بالمعينات لحماية منازلهم وممتلكاتهم. نتيجة لذلك تحرك السكان اعتماداً على أنفسهم لحماية الجزيرة من تصاعد المياه باستخدام أجسادهم كحواجز صدٍّ للمياه.

كان التضامن المجتمعيّ الذي حدث آنذاك هو النواة التي كوَّنت نظام "التاية"، الذي تطور وأصبح كما نعرفه اليوم. إن ما نتج عن ذلك من الشعور بالاستقلالية، وارتباط السكان بالجزيرة، بالإضافة للعادات السودانية في التعاون في أوقات الأزمات، أو ما يُعرف بالـ"فزع" والـ"نفير"، هو الذي أدَّى بالأساس إلى تَطوُّر نظام التاية.

خَلَّدت أُغنية "عجبوني الليلة جو" ذكرى ما حدث في عام ١٩٤٦، وساهمت في توطين هذه القِيم.

يتضمن جزء من نظام التاية مجموعة من نقاط لمراقبة نشاط النهر عن بُعد، مُتوزِّعة عبر الجزيرة، وتقوم بتنظيمها مجموعة من الناس من أحياء مختلفة، كما أن للنساء دورٌ أيضاً في توفير الطعام والخدمات للمراقبين لضمان استمرارها. ويتم ربطها بآلية تنبيه مثل الطبول ومكبرات الصوت في المساجد، وكل شخصٍ في الجزيرة، سواءً كان كبيراً أم طفلاً، رجلاً أم امرأة، يعرف كيف يقيم السدود عندما ترتفع المياه إذا لزم عليه فعل ذلك.

يُعيَّن الشخص المسؤول عن إدارة التاية في بداية موسم الفيضان، ويتم تبادل مواقع نقاط المراقبة دورياً بين مجموعة مكونة من سبعة أشخاص. وكذلك يتم تطوير نظام التاية سنوياً، وتغيير مواقع المراقبة وفقاً لمتطلبات التطور العمراني وتغير أنماط الفيضان.

إحدى التغييرات الرئيسية كانت إنشاء لجنة الفيضانات لجزيرة توتي. تأسست اللجنة عام ١٩٨٨، ومنذ ذلك الحين أصبحت هيئة معترف بها من قبل الحكومة، تُنظِّم جميع مراحل إدارة الفيضانات وكذلك جميع أنواع التمويل والمساعدات. لم تذهب معرفة أهل توتي سدىً، وتم تكريمهم من قبل هيئة الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث UNISDR، كأبطال للحدّ من مخاطر الكوارث.

ما يحمله المستقبل

من المحتمل أن يكون تأثير الفيضانات المستقبلية مختلفًا بسبب عدة عوامل، بما في ذلك التوقعات المناخية التي تشير إلى ازدياد شدة هطول الأمطار مستقبلاً. علاوة على ذلك، فإن الحرب المستمرة التي اندلعت منذ منتصف أبريل ٢٠٢٣، والحصار المباشر الذي تعرض له سكان الجزيرة منذ ذلك الحين؛ قد أثر بشكلٍ كبير على قدرة السكان للاستجابة. وقد أدت الحرب أيضاً إلى نزوح عدد كبير من سكان الجزيرة، مما أثَّر بشكل مباشر على قدرة السكان على حماية أنفسهم من الفيضانات. كانت المعرفة الجماعية فيما يتعلق بالدفاع ضدَّ الفيضانات وعدد المستجيبين المتاحين هما أهم أصول المجتمع. وبالتالي، فإن الصراع الحالي يُعرِّض الممارسات القائمة على المعرفة التقليدية لخطرٍ كبير، مع عواقب لا رجعة فيها. ومع ذلك، ربما عندما يحين الوقت، ستكون دروس صمود سكان جزيرة توتي في مواجهة الكوارث الطبيعية المتفاقمة بسبب الأفعال البشرية، هي قصة ستظل تُحكى وتُذكر باستمرار.

صورة الغلاف: جزيرة توتي ٢٠١٧ © زينب جعفر