تعلم الصمود
كيف يمكن أن تكون ممارسة الثقافة شكلاً من أشكال الصمود؟ ما الأدوات التي نمتلكها في ثقافتنا والتي تم تطويرها من خلال الصمود؟ المعرفة التي نرثها من أجدادنا ليست سوى شكل واحد من أشكال المعرفة الجماعية التي نعيش بها اليوم.
نحن المتحف
نحن المتحف
معرض الأستاذة والتشكيلية ستنا بدري عن الأواني المنزلية والذي تم عرضه بمتحف بيت الخليفة المجتمعي بعد إعادة افتتاحه في بداية العام ٢٠٢٣م، هو نموذج حي عن مفهوم المنزل كمتحف، وكان المعرض بمطبخ السيدة ديزي برامبل ببيت برامبل، وهو أحد مديري محلية أمدرمان في فترة العشرينات من القرن العشرين من إدارة الحكم الإنجليزي.
الأستاذة سـتـنـا بـابـكـر بـدري، رائدة الفن التشكيلي السوداني من مواليد مدينة رفاعة عام ١٩٢٩م، وهي كريمة الشيخ بابكر بدري رائد تعليم البنات. درست دبلوم فنون كلية الفنون الجميلة بالخرطوم والفن التشكيلي بالولايات المتحدة الأمريكية. عملت كمعلمة لغة إنجليزية ثم معلمة فنون في مدرسة أمدرمان الثانوية، وبعدها كمحاضرة بجامعة الأحفاد للبنات في مادة الفنون وطباعة المنسوجات. المسيرة الفنية لستنا والتنوع في وسائل التعليم والاستخدامات المختلفة للمواد المتاحة والمحلية كان عنوان حياة ستنا بدري الفنية المليئة بالإبداع الذي تم تكريسه لعكس جمال وإثراء الثقافة السودانية، ولا سيما الوسائل المتعددة للمرأة لاستخدام الفن في كل ما تقوم به. هذا ما حملته وعكسته الثمان عقود من فن الأستاذة ستنا والتي شملت خمسة معارض فنية في الولايات المتحدة، بريطانيا ومصر وأربعة معارض في الخرطوم، كما أن لديها لوحات فنية بمتحف جامعة مانشستر ببريطانيا وفي العديد من الأماكن الأخرى.
أما معرض الأواني المنزلية فهو مجموعة من مختلف الأواني من حقب زمنية مختلفة، التصميمات والرسوم الموجودة على مختلف القطع تستجاب ذكريات لمن عاشوا في بداية ومنتصف القرن العشرين، وعلى ظهر كل آنية تجد اسم صاحبتها قبل أن تتبرع بها لمجموعة الأستاذة ستنا، وبذلك توثق لفترة من حياتها وحياة عديد من السودانيين الذين تشاركوا تجربة اقتناء هذه الأواني وجمعتهم الكثير من الأحداث حول موائد عليها نفس الصحون. هذه تعتبر تجربة متفردة لمفهوم وعملية "المتحفة" من اختيار الموضوع وطريقة الجمع وحتى العرض، والذي يركّز على الذاكرة الجمعية في السرد المتحفي. فاختيار موضوع الأواني ونظرة أستاذة ستنا لها كغرض مهم للأرشفة والحفظ والعرض يسوق مفهوم التراث لأبعاد أوسع لا تظهر عادة في المساحات المتحفية المؤسسية.
صورة الغلاف والمعرض © زينب جعفر
معرض الأستاذة والتشكيلية ستنا بدري عن الأواني المنزلية والذي تم عرضه بمتحف بيت الخليفة المجتمعي بعد إعادة افتتاحه في بداية العام ٢٠٢٣م، هو نموذج حي عن مفهوم المنزل كمتحف، وكان المعرض بمطبخ السيدة ديزي برامبل ببيت برامبل، وهو أحد مديري محلية أمدرمان في فترة العشرينات من القرن العشرين من إدارة الحكم الإنجليزي.
الأستاذة سـتـنـا بـابـكـر بـدري، رائدة الفن التشكيلي السوداني من مواليد مدينة رفاعة عام ١٩٢٩م، وهي كريمة الشيخ بابكر بدري رائد تعليم البنات. درست دبلوم فنون كلية الفنون الجميلة بالخرطوم والفن التشكيلي بالولايات المتحدة الأمريكية. عملت كمعلمة لغة إنجليزية ثم معلمة فنون في مدرسة أمدرمان الثانوية، وبعدها كمحاضرة بجامعة الأحفاد للبنات في مادة الفنون وطباعة المنسوجات. المسيرة الفنية لستنا والتنوع في وسائل التعليم والاستخدامات المختلفة للمواد المتاحة والمحلية كان عنوان حياة ستنا بدري الفنية المليئة بالإبداع الذي تم تكريسه لعكس جمال وإثراء الثقافة السودانية، ولا سيما الوسائل المتعددة للمرأة لاستخدام الفن في كل ما تقوم به. هذا ما حملته وعكسته الثمان عقود من فن الأستاذة ستنا والتي شملت خمسة معارض فنية في الولايات المتحدة، بريطانيا ومصر وأربعة معارض في الخرطوم، كما أن لديها لوحات فنية بمتحف جامعة مانشستر ببريطانيا وفي العديد من الأماكن الأخرى.
أما معرض الأواني المنزلية فهو مجموعة من مختلف الأواني من حقب زمنية مختلفة، التصميمات والرسوم الموجودة على مختلف القطع تستجاب ذكريات لمن عاشوا في بداية ومنتصف القرن العشرين، وعلى ظهر كل آنية تجد اسم صاحبتها قبل أن تتبرع بها لمجموعة الأستاذة ستنا، وبذلك توثق لفترة من حياتها وحياة عديد من السودانيين الذين تشاركوا تجربة اقتناء هذه الأواني وجمعتهم الكثير من الأحداث حول موائد عليها نفس الصحون. هذه تعتبر تجربة متفردة لمفهوم وعملية "المتحفة" من اختيار الموضوع وطريقة الجمع وحتى العرض، والذي يركّز على الذاكرة الجمعية في السرد المتحفي. فاختيار موضوع الأواني ونظرة أستاذة ستنا لها كغرض مهم للأرشفة والحفظ والعرض يسوق مفهوم التراث لأبعاد أوسع لا تظهر عادة في المساحات المتحفية المؤسسية.
صورة الغلاف والمعرض © زينب جعفر
معرض الأستاذة والتشكيلية ستنا بدري عن الأواني المنزلية والذي تم عرضه بمتحف بيت الخليفة المجتمعي بعد إعادة افتتاحه في بداية العام ٢٠٢٣م، هو نموذج حي عن مفهوم المنزل كمتحف، وكان المعرض بمطبخ السيدة ديزي برامبل ببيت برامبل، وهو أحد مديري محلية أمدرمان في فترة العشرينات من القرن العشرين من إدارة الحكم الإنجليزي.
الأستاذة سـتـنـا بـابـكـر بـدري، رائدة الفن التشكيلي السوداني من مواليد مدينة رفاعة عام ١٩٢٩م، وهي كريمة الشيخ بابكر بدري رائد تعليم البنات. درست دبلوم فنون كلية الفنون الجميلة بالخرطوم والفن التشكيلي بالولايات المتحدة الأمريكية. عملت كمعلمة لغة إنجليزية ثم معلمة فنون في مدرسة أمدرمان الثانوية، وبعدها كمحاضرة بجامعة الأحفاد للبنات في مادة الفنون وطباعة المنسوجات. المسيرة الفنية لستنا والتنوع في وسائل التعليم والاستخدامات المختلفة للمواد المتاحة والمحلية كان عنوان حياة ستنا بدري الفنية المليئة بالإبداع الذي تم تكريسه لعكس جمال وإثراء الثقافة السودانية، ولا سيما الوسائل المتعددة للمرأة لاستخدام الفن في كل ما تقوم به. هذا ما حملته وعكسته الثمان عقود من فن الأستاذة ستنا والتي شملت خمسة معارض فنية في الولايات المتحدة، بريطانيا ومصر وأربعة معارض في الخرطوم، كما أن لديها لوحات فنية بمتحف جامعة مانشستر ببريطانيا وفي العديد من الأماكن الأخرى.
أما معرض الأواني المنزلية فهو مجموعة من مختلف الأواني من حقب زمنية مختلفة، التصميمات والرسوم الموجودة على مختلف القطع تستجاب ذكريات لمن عاشوا في بداية ومنتصف القرن العشرين، وعلى ظهر كل آنية تجد اسم صاحبتها قبل أن تتبرع بها لمجموعة الأستاذة ستنا، وبذلك توثق لفترة من حياتها وحياة عديد من السودانيين الذين تشاركوا تجربة اقتناء هذه الأواني وجمعتهم الكثير من الأحداث حول موائد عليها نفس الصحون. هذه تعتبر تجربة متفردة لمفهوم وعملية "المتحفة" من اختيار الموضوع وطريقة الجمع وحتى العرض، والذي يركّز على الذاكرة الجمعية في السرد المتحفي. فاختيار موضوع الأواني ونظرة أستاذة ستنا لها كغرض مهم للأرشفة والحفظ والعرض يسوق مفهوم التراث لأبعاد أوسع لا تظهر عادة في المساحات المتحفية المؤسسية.
صورة الغلاف والمعرض © زينب جعفر
قرية ود رحوم، نموذج لصناعة النسيج
قرية ود رحوم، نموذج لصناعة النسيج
تقع قرية ود رحوم جنوب مدينة رفاعة على بعد كيلومترين تقريباً، وهي من القرى التي توجد بها مجموعة من القطع والآثار تعود إلى فترة الدولة المهدية، أي أواخر القرن التاسع عشر. ما يميز قرية ود رحوم هو اشتهارها بصناعة النسيج اليدوي في ولاية الجزيرة وغيرها من الولايات الأخرى، مما جعلها تتسم بسمعة طيبة بسبب جودة منتجاتها القطنية مثل (الفراد والقنجا والشالات وجلاليب الدمور وغير ذلك من المنسوجات القطنية). بالإضافة للمناسج، تُوجد بالقرية مجموعة من القطع الأثرية من فترة المهدية مثل السيوف والحراب والمراحيك التي كانت تستخدم في طحن الذرة، هذا بالإضافة إلى دوكة الطين وغير ذلك من الآثار. أما مجموعة المناسج اليدوية التي كان يَعتَمِد عليها الآباء والجدود الذين عايشوا فترة المهدية في كسب المعاش فقد تناقلتها الأجيال ولا تزال مصدراً من مصادر الرزق، وذلك بعد أن توقفت لعشرات السنين حتى جاءت منظمة التدفق الخيرية التي أرادت أن تفتتح مكتباً لها بشرق الجزيرة كفرع من فروعها، واختارت قرية ود رحوم لتكون المستضيف لها، وبذلك تم بها افتتاح المكتب الفرعي الأول ليكون قبلة ومكاناً لحل المشاكل التي تواجه أصحاب المناسج والحرف اليدوية الأخرى الموجودة بالقرية؛ مثل ورش الحدادة والنجارة وأعمال التنجيد والصناعات الجلدية.
يتكون المنسج من العدة، وهي عبارة عن دفة وتوريق ودقاقات ونعلات وحردان، والحردان هي جزء مهم من العدة، وبدونه لا يتم التشغيل، يوضع في مكان بعيد منها ولذلك سُمِّي بالحَردان، وهناك أشياء أخرى مكملة للمنسج مثل المشط والماكوك أو المركب والبوص.
النص أعلاه من معرض مؤقت لمنظمة التدفق الخيرية في بيت الخليفة المجتمعي في العام ٢٠٢١م.
تقع قرية ود رحوم جنوب مدينة رفاعة على بعد كيلومترين تقريباً، وهي من القرى التي توجد بها مجموعة من القطع والآثار تعود إلى فترة الدولة المهدية، أي أواخر القرن التاسع عشر. ما يميز قرية ود رحوم هو اشتهارها بصناعة النسيج اليدوي في ولاية الجزيرة وغيرها من الولايات الأخرى، مما جعلها تتسم بسمعة طيبة بسبب جودة منتجاتها القطنية مثل (الفراد والقنجا والشالات وجلاليب الدمور وغير ذلك من المنسوجات القطنية). بالإضافة للمناسج، تُوجد بالقرية مجموعة من القطع الأثرية من فترة المهدية مثل السيوف والحراب والمراحيك التي كانت تستخدم في طحن الذرة، هذا بالإضافة إلى دوكة الطين وغير ذلك من الآثار. أما مجموعة المناسج اليدوية التي كان يَعتَمِد عليها الآباء والجدود الذين عايشوا فترة المهدية في كسب المعاش فقد تناقلتها الأجيال ولا تزال مصدراً من مصادر الرزق، وذلك بعد أن توقفت لعشرات السنين حتى جاءت منظمة التدفق الخيرية التي أرادت أن تفتتح مكتباً لها بشرق الجزيرة كفرع من فروعها، واختارت قرية ود رحوم لتكون المستضيف لها، وبذلك تم بها افتتاح المكتب الفرعي الأول ليكون قبلة ومكاناً لحل المشاكل التي تواجه أصحاب المناسج والحرف اليدوية الأخرى الموجودة بالقرية؛ مثل ورش الحدادة والنجارة وأعمال التنجيد والصناعات الجلدية.
يتكون المنسج من العدة، وهي عبارة عن دفة وتوريق ودقاقات ونعلات وحردان، والحردان هي جزء مهم من العدة، وبدونه لا يتم التشغيل، يوضع في مكان بعيد منها ولذلك سُمِّي بالحَردان، وهناك أشياء أخرى مكملة للمنسج مثل المشط والماكوك أو المركب والبوص.
النص أعلاه من معرض مؤقت لمنظمة التدفق الخيرية في بيت الخليفة المجتمعي في العام ٢٠٢١م.
تقع قرية ود رحوم جنوب مدينة رفاعة على بعد كيلومترين تقريباً، وهي من القرى التي توجد بها مجموعة من القطع والآثار تعود إلى فترة الدولة المهدية، أي أواخر القرن التاسع عشر. ما يميز قرية ود رحوم هو اشتهارها بصناعة النسيج اليدوي في ولاية الجزيرة وغيرها من الولايات الأخرى، مما جعلها تتسم بسمعة طيبة بسبب جودة منتجاتها القطنية مثل (الفراد والقنجا والشالات وجلاليب الدمور وغير ذلك من المنسوجات القطنية). بالإضافة للمناسج، تُوجد بالقرية مجموعة من القطع الأثرية من فترة المهدية مثل السيوف والحراب والمراحيك التي كانت تستخدم في طحن الذرة، هذا بالإضافة إلى دوكة الطين وغير ذلك من الآثار. أما مجموعة المناسج اليدوية التي كان يَعتَمِد عليها الآباء والجدود الذين عايشوا فترة المهدية في كسب المعاش فقد تناقلتها الأجيال ولا تزال مصدراً من مصادر الرزق، وذلك بعد أن توقفت لعشرات السنين حتى جاءت منظمة التدفق الخيرية التي أرادت أن تفتتح مكتباً لها بشرق الجزيرة كفرع من فروعها، واختارت قرية ود رحوم لتكون المستضيف لها، وبذلك تم بها افتتاح المكتب الفرعي الأول ليكون قبلة ومكاناً لحل المشاكل التي تواجه أصحاب المناسج والحرف اليدوية الأخرى الموجودة بالقرية؛ مثل ورش الحدادة والنجارة وأعمال التنجيد والصناعات الجلدية.
يتكون المنسج من العدة، وهي عبارة عن دفة وتوريق ودقاقات ونعلات وحردان، والحردان هي جزء مهم من العدة، وبدونه لا يتم التشغيل، يوضع في مكان بعيد منها ولذلك سُمِّي بالحَردان، وهناك أشياء أخرى مكملة للمنسج مثل المشط والماكوك أو المركب والبوص.
النص أعلاه من معرض مؤقت لمنظمة التدفق الخيرية في بيت الخليفة المجتمعي في العام ٢٠٢١م.
مرونة وعملية ثوب "توب" المرأة السودانية
مرونة وعملية ثوب "توب" المرأة السودانية
يعد التوب بلا شك أهم وأبرز قطعة في لبس المرأة السودانية، ولكونه الأكثر وضوحاً بينها، فهو الذي يكون دوماً موضع التعليق والاهتمام.وعلى الرغم من دوام بساطته فقد برعت المرأة في إبداع تصاميم متنوعة خلال نصف القرن الماضي.
كلمة توب أو ثوب في اللغة العربية هو المصطلح العام للملابس، ولكن عند المرأة السودانية فهو قطعة قماش بلا طبقات يتم ارتداِؤه خارجياً بطول 4 إلى 4.5 أمتار وعرض 2 متر، وقد يكون بألوان زاهية أو باهتة وفي الغالب مصنوع من القطن.
بالنسبة للمرأة فالتوب مؤشر للحالة الاجتماعية: فيتم التفريق به بين المرأة المتزوجة وغير المتزوجة، وتدل نوعيات التياب المختلفة على مستوى الثراء والرقي، وعلى الرغم من كثرة اغتراب السودانيين، فإن المرأة السودانية ترتدي توبها بفخر واعتزاز كرمز للهوية الوطنية.
التوب هو أكثر عناصر الزي الوطني للمرأة السودانية ديمومة واستمرارية، حيث اختفى كل من "الرحط" و"القرباب" ولكن بقي الثوب بسبب فوائده العديدة وجماله وقدرته على التكيف. وبالنسبة للمرأة الريفية يمكن أن يكون توبها: معطفها، الناموسية، وسلة لجمع القطن أو المحاصيل الأخرى، وغطاء نومها، أو الساتر الذي يمكن أن تُرضع وراءه طفلها في الأماكن العامة.
(مقتطف مأخوذ من الفصل "التوب السوداني" من كتاب "الأزياء الشعبية الإقليمية للسودان" للكاتبة جريزيلدا الطيب).
صورة الغلاف © أحمد الفاتح، ملامح فتاة بدوية من الأبالة، وسط دارفور، 08/13/2022
يعد التوب بلا شك أهم وأبرز قطعة في لبس المرأة السودانية، ولكونه الأكثر وضوحاً بينها، فهو الذي يكون دوماً موضع التعليق والاهتمام.وعلى الرغم من دوام بساطته فقد برعت المرأة في إبداع تصاميم متنوعة خلال نصف القرن الماضي.
كلمة توب أو ثوب في اللغة العربية هو المصطلح العام للملابس، ولكن عند المرأة السودانية فهو قطعة قماش بلا طبقات يتم ارتداِؤه خارجياً بطول 4 إلى 4.5 أمتار وعرض 2 متر، وقد يكون بألوان زاهية أو باهتة وفي الغالب مصنوع من القطن.
بالنسبة للمرأة فالتوب مؤشر للحالة الاجتماعية: فيتم التفريق به بين المرأة المتزوجة وغير المتزوجة، وتدل نوعيات التياب المختلفة على مستوى الثراء والرقي، وعلى الرغم من كثرة اغتراب السودانيين، فإن المرأة السودانية ترتدي توبها بفخر واعتزاز كرمز للهوية الوطنية.
التوب هو أكثر عناصر الزي الوطني للمرأة السودانية ديمومة واستمرارية، حيث اختفى كل من "الرحط" و"القرباب" ولكن بقي الثوب بسبب فوائده العديدة وجماله وقدرته على التكيف. وبالنسبة للمرأة الريفية يمكن أن يكون توبها: معطفها، الناموسية، وسلة لجمع القطن أو المحاصيل الأخرى، وغطاء نومها، أو الساتر الذي يمكن أن تُرضع وراءه طفلها في الأماكن العامة.
(مقتطف مأخوذ من الفصل "التوب السوداني" من كتاب "الأزياء الشعبية الإقليمية للسودان" للكاتبة جريزيلدا الطيب).
صورة الغلاف © أحمد الفاتح، ملامح فتاة بدوية من الأبالة، وسط دارفور، 08/13/2022
يعد التوب بلا شك أهم وأبرز قطعة في لبس المرأة السودانية، ولكونه الأكثر وضوحاً بينها، فهو الذي يكون دوماً موضع التعليق والاهتمام.وعلى الرغم من دوام بساطته فقد برعت المرأة في إبداع تصاميم متنوعة خلال نصف القرن الماضي.
كلمة توب أو ثوب في اللغة العربية هو المصطلح العام للملابس، ولكن عند المرأة السودانية فهو قطعة قماش بلا طبقات يتم ارتداِؤه خارجياً بطول 4 إلى 4.5 أمتار وعرض 2 متر، وقد يكون بألوان زاهية أو باهتة وفي الغالب مصنوع من القطن.
بالنسبة للمرأة فالتوب مؤشر للحالة الاجتماعية: فيتم التفريق به بين المرأة المتزوجة وغير المتزوجة، وتدل نوعيات التياب المختلفة على مستوى الثراء والرقي، وعلى الرغم من كثرة اغتراب السودانيين، فإن المرأة السودانية ترتدي توبها بفخر واعتزاز كرمز للهوية الوطنية.
التوب هو أكثر عناصر الزي الوطني للمرأة السودانية ديمومة واستمرارية، حيث اختفى كل من "الرحط" و"القرباب" ولكن بقي الثوب بسبب فوائده العديدة وجماله وقدرته على التكيف. وبالنسبة للمرأة الريفية يمكن أن يكون توبها: معطفها، الناموسية، وسلة لجمع القطن أو المحاصيل الأخرى، وغطاء نومها، أو الساتر الذي يمكن أن تُرضع وراءه طفلها في الأماكن العامة.
(مقتطف مأخوذ من الفصل "التوب السوداني" من كتاب "الأزياء الشعبية الإقليمية للسودان" للكاتبة جريزيلدا الطيب).
صورة الغلاف © أحمد الفاتح، ملامح فتاة بدوية من الأبالة، وسط دارفور، 08/13/2022
أصداف الودع
أصداف الودع
صدفتان، مكسورتان من الأعلى.
يتم استخدامها بكثرة في الزينة كزينة للشعر والملابس. كما أنها تستخدم في العرافة الشعبية، كما هو مشار إليه في أغنية صلاح بن البادية، وخاصة قراءة الطالع في الفضاءات النسائية.
© أمناء المتحف البريطاني. مشترك تحت رخصة المشاع الإبداعي - غير التجارية - المساهمة بالمثل 4.0 الدولية (CC BY-NC-SA 4.0).
ابحث عن مكان: أمارا ويست (النوبة)
تاريخ الاستحواذ: ٢٠١٦
صدفتان، مكسورتان من الأعلى.
يتم استخدامها بكثرة في الزينة كزينة للشعر والملابس. كما أنها تستخدم في العرافة الشعبية، كما هو مشار إليه في أغنية صلاح بن البادية، وخاصة قراءة الطالع في الفضاءات النسائية.
© أمناء المتحف البريطاني. مشترك تحت رخصة المشاع الإبداعي - غير التجارية - المساهمة بالمثل 4.0 الدولية (CC BY-NC-SA 4.0).
ابحث عن مكان: أمارا ويست (النوبة)
تاريخ الاستحواذ: ٢٠١٦
صدفتان، مكسورتان من الأعلى.
يتم استخدامها بكثرة في الزينة كزينة للشعر والملابس. كما أنها تستخدم في العرافة الشعبية، كما هو مشار إليه في أغنية صلاح بن البادية، وخاصة قراءة الطالع في الفضاءات النسائية.
© أمناء المتحف البريطاني. مشترك تحت رخصة المشاع الإبداعي - غير التجارية - المساهمة بالمثل 4.0 الدولية (CC BY-NC-SA 4.0).
ابحث عن مكان: أمارا ويست (النوبة)
تاريخ الاستحواذ: ٢٠١٦
أرشيفات حية
أرشيفات حية
نتناول فى هذه الحلقه تأثير الحرب الدائرة في السودان على سبل توثيق التراث الثقافي غير المادي بأشكاله الرسميه او المنظمه مثل المتاحف والمكتبات، والأشكال التقليدية الشعبية ومعايش الناس. سنتعرف من خلال الحلقة على طرق انتقال وحفظ الموروثات الثقافية غير المادية بين الأجيال المختلفة في حالتي السلم والحرب، وكيف يؤثر تهجير المجتمعات من أماكنها المعتادة أو الاصليه في عملية الانتقال دى.
ضيوف الحلقة:
سانديوس كودي: كاتب ومحاضر بجامعة الخرطوم
آسيا محمود: باحثة اجتماعية
آمنه الإدريسي: معمارية وباحثة مهتمة بالتراث الثقافي غير المادي وقائم على ارشيف خاص
محمد آدم أبو: موسيقي وشريك مؤسس لمشروع نقارة
أستاذة فاطمة محمد الحسن: مؤسسة متحف المرأة بدارفور، تسجيل
عمل على إنتاج الحلقة كل من:
التقديم: عزه محمد ورؤى اسماعيل
بحث وانتاج رؤى اسماعيل بمشاركة زينب عثمان وامنه الادريسى
ميكساج رؤى اسماعيل
موسيقى: الزين استديو
اداره: زينب عثمان
نتناول فى هذه الحلقه تأثير الحرب الدائرة في السودان على سبل توثيق التراث الثقافي غير المادي بأشكاله الرسميه او المنظمه مثل المتاحف والمكتبات، والأشكال التقليدية الشعبية ومعايش الناس. سنتعرف من خلال الحلقة على طرق انتقال وحفظ الموروثات الثقافية غير المادية بين الأجيال المختلفة في حالتي السلم والحرب، وكيف يؤثر تهجير المجتمعات من أماكنها المعتادة أو الاصليه في عملية الانتقال دى.
ضيوف الحلقة:
سانديوس كودي: كاتب ومحاضر بجامعة الخرطوم
آسيا محمود: باحثة اجتماعية
آمنه الإدريسي: معمارية وباحثة مهتمة بالتراث الثقافي غير المادي وقائم على ارشيف خاص
محمد آدم أبو: موسيقي وشريك مؤسس لمشروع نقارة
أستاذة فاطمة محمد الحسن: مؤسسة متحف المرأة بدارفور، تسجيل
عمل على إنتاج الحلقة كل من:
التقديم: عزه محمد ورؤى اسماعيل
بحث وانتاج رؤى اسماعيل بمشاركة زينب عثمان وامنه الادريسى
ميكساج رؤى اسماعيل
موسيقى: الزين استديو
اداره: زينب عثمان
نتناول فى هذه الحلقه تأثير الحرب الدائرة في السودان على سبل توثيق التراث الثقافي غير المادي بأشكاله الرسميه او المنظمه مثل المتاحف والمكتبات، والأشكال التقليدية الشعبية ومعايش الناس. سنتعرف من خلال الحلقة على طرق انتقال وحفظ الموروثات الثقافية غير المادية بين الأجيال المختلفة في حالتي السلم والحرب، وكيف يؤثر تهجير المجتمعات من أماكنها المعتادة أو الاصليه في عملية الانتقال دى.
ضيوف الحلقة:
سانديوس كودي: كاتب ومحاضر بجامعة الخرطوم
آسيا محمود: باحثة اجتماعية
آمنه الإدريسي: معمارية وباحثة مهتمة بالتراث الثقافي غير المادي وقائم على ارشيف خاص
محمد آدم أبو: موسيقي وشريك مؤسس لمشروع نقارة
أستاذة فاطمة محمد الحسن: مؤسسة متحف المرأة بدارفور، تسجيل
عمل على إنتاج الحلقة كل من:
التقديم: عزه محمد ورؤى اسماعيل
بحث وانتاج رؤى اسماعيل بمشاركة زينب عثمان وامنه الادريسى
ميكساج رؤى اسماعيل
موسيقى: الزين استديو
اداره: زينب عثمان
جزيرة توتي
جزيرة توتي
قصة صُمود جزيرة سُودانيَّة في وجهِ تحديات البقاء
المعرفة الجماعية
في عصر الذكاء الاصطناعي، يُعرَّف مصطلح التعليم الآلي بأنه عمليّة يتم فيها تغذية أجهزة الكمبيوتر بكميّات كبيرة من البيانات، ومن ثم من خلال الخوارزميات تقوم هذه الأجهزة بالتعرّف على أنماط معينة مما يمكّنها من جلب إجابات مفيدة لأسئلتنا.
أصبح الآن مصدر هذه المعلومات موضوع نقاش أخلاقيّ؛ حيث تدور تساؤلات حول مصدر المعلومات وموافقة أصحابها لاستخدامها من قبل أطرافٍ أخرى.
تُعرَّف عملية تجميع المعلومات من عدة أفراد للاستفادة منها بمفهوم "المعرفة الجماعية"، وهو ليس مفهوماً مُقتَصِراً على هذا العصر بل يمكن تتبّعه منذ القرن الثامن عشر، كذلك فقد تناوله أفلاطون في فكرة “ العقل الجماعي”.
و من أمثلة استخدام المعرفة الجماعية فقد كانت في عام ١٨٥٧، حيث قامت مجموعة من المثقفين البريطانيين بتجميع قاموس إنجليزي يحوي مجموعة شاملة من الكلمات، مع تفصيل التعريفات والاستخدامات، وذلك من خلال نشر نداءٍ لمتطوعين لإرسال كلمات من الكتب الموجودة بمكتباتِهم، مما أدى لتجميع أكثر من مليوني مرجع للكلمات. وحتى في عالم الأعمال اليوم تحاول الشركات تعزيز مفهوم المعرفة الجماعية وتبادلها بين الموظفين والاحتفاظ بها كرأس مال للشركة.
و مع ذلك فإن مفهوم "العقل الجماعي" والذي وصفه أفلاطون يسبق القرن الثامن عشر، فهو يُعدّ أحد سمات المجتمعات الإنسانية؛ إذ أن تجمّع مجموعة إنسانية للعيش في مكانٍ واحد لفترة طويلة من الزمن سيؤدي، بكلّ تأكيد، إلى تَكوِينِ نوعٍ من المعرفة الجماعية ممثلةً في مجموعة المعارف، الخبرات، المهارات، الممارسات والاعتقادات والتفاعل بينها، ويتمّ تطويرها وحفظها، ومن ثم نقلها عبر الأجيال.
يمكن تسميتها بـ"المعرفة الجمعية"، فعندما يشارك عدد كبير من الأفراد مهاراتهم ومعرفتهم، فإن المحصلة المعرفية تكون أقيم من مجرد جمع المعارف الفردية. ومن المهم الإشارة إلى عنصر المشاركة، لأنه، على الرغم من أن المجموعة تشترك في كثير من المعرفة، إلا أن هنالك مستوىً فرديّ من الخبرة يلعب دوراً جوهريَّاً في عمل المجموعة كوِحدَة متناسقة.
لكن كيف يقوم مجتمع معيّن بمشاركة المعرفة بين أعضائه إلى درجة أن الطفل قد يمتلك في سنٍّ مبكرة ثروة من المعرفة عن مجتمعه؟ يستمرّ الباحثون في دراسة المعرفة التقليديّة أو الأصلية من خلال منظور أنثروبولوجي. تشمل بعض الطرق لنقل هذا النوع من المعرفة سرد القصص، وهي وسيلة مهمة للتعليم والتعلّم في العديد من المجتمعات، وتعتمد على النقل الشفهي والاعتماد على الذاكرة الجمعية. يمكن أن تدور هذه القصص حول التاريخ المحلي، والحكمة، والمهارات، وفهم الأرض. وتُعتبر الأغاني، والرقصات، وصنع الحرف، والطقوس، وممارسة التقاليد طريقة أخرى تُعرف باسم "التعلم الظليّ" الذي ينطوي أساساً على مشاهدة الشباب لكبار السن وتقليد أفعالهم.
كل هذه الأنظمة الثقافية هي نتاج تراكمي للمعرفة المجتمعية والتفاعل النَشِط، والتي يتم تسخيرها لخدمة أهداف البقاء والازدهار للمجموعة. إنها متأصلة بشكل عميق في السياق الثقافي والاجتماعي والبيئي لتلك المجموعة، وغالبًا ما تعكس طريقتها الفريدة في فهم العالم والتفاعل معه. المعرفة محصورة جماعيًا بدلاً من أن يمتلكها فرد واحد، وتتطوَّر مع تكيف المجتمع مع التغيرات في بيئته ونمط حياته.
النهر صديق وليس عدو
تُعدّ مجتمع جزيرة توتي مثالًا بارزًا على كيفية احتفاظ المجتمعات بالمعرفة واستخدامها، على مرّ العقود، للبقاء على قيد الحياة في مواجهة مصاعب مثل الفيضانات الكبيرة.
تقع جزيرة توتي، التي تعدّ واحدة من أكبر الجزر الواقعة على نهر النيل، عند تقاطع النيل الأزرق والنيل الأبيض في قلب الخرطوم، وتبلغ مساحتها حوالي أربعة كيلومترات مربعة. وقد سُكنت الجزيرة منذ القرن الخامس عشر، لكن عالم الآثار البريطاني أركيل يعتقد أنها كانت مأهولةً في وقتٍ أبكر بسبب وجود قطع أثرية تعود إلى العصر الحجري الحديث على الجزيرة. تضم الجزيرة عدة مجموعات عرقية من جميع أنحاء السودان ومن الخارج. وقد جَلَبَت هذه المجموعات ثقافاتها وتقاليدها الفريدة التي تم نقلها من جيل إلى جيل.
على الرغم من موقعها في قلب العاصمة، فإن توتي ظلَّت على حالتها الريفية حتى وقت قريب. فقد شَكَّل اختلاف بنيتها التحتية، والشكل الريفي للحياة فيها، إلى وجود تباينٍ واضح بينها وبين بقيَّة أجزاء الخرطوم الواقعة على الضفة الأخرى من النهر، على بعد أمتارٍ قليلة. تَسَارعت خطوات التمدّن في الجزيرة من خلال المشاريع العمرانية، بالأخص جسر توتي، وهو الجسر الأول والأوحد الذي يربط الجزيرة ببقيَّة العاصمة؛ حيث كان التنقّل من وإلى الجزيرة يتم من خلال المراكب والعَبَّارات، ومما لاشَكَّ فيه أن تأثير كبري توتي على سكان الجزيرة كانَ كبيراً؛ حيث سَهُل الوصول للخدمات وفرص العمل، كما أدَّى إلى زيادة عدد السكان، وبالتالي، المزيد من التنوّع في التركيبة السُكَّانية. وإلى الآن، لا نُدركُ فعلاً حجم تأثيرات الجسر على بيئة الجزيرة ونسيجها الاجتماعي، أو عن الدور الذي لعبته ممارسات المعرفة التقليدية المحليَّة في التعامل مع ما جَدَّ من ظروف.
بالنسبة لسكَّان الجزيرة، يُعتَبر النيل هو مصدر الحياة، حيث تعتمد سُبُل عيشهم بشكلٍ أساسيّ على الزراعة والصيد، وتُزرع في تربتها الخصبة مجموعة متنوعة من الخضروات والفواكه، ويُشكِّل الصيد مصدر دخلٍ رئيسيّ للعديد من السكان الذين يعتمدون على النهر في جلب رزقهم اليومي.
ومع ذلك، عندما يبدأ موسم الفيضان، يُشكّل النيل مصدر تهديدٍ للجزيرة.
كان أوّل فيضان كبير مُسجَّل في الخرطوم في عام ١٨٧٨، عندما تخطَّى النيل الأزرق ضفافه، وألحق أضراراً بالمنازل وسبل العيش. وتسبَّب فيضانٌ آخر في الخرطوم عام ١٩٤٦ بأضرار واسعة على المباني والبنية التحتية، حيث وصلت مياه الفيضانات إلى ارتفاع ستة أمتار في بعض المناطق، مما ترك الآلاف بلا مأوى. وعام ١٩٨٨م، أدّى هطول أمطار غزيرة على مدى عدة أيام إلى حدوث فيضانات، وصل عدد ضحاياها أكثر من ألفٍ، ونزوح الآلاف من الناس. في الآونة الأخيرة، تسببت الأمطار الغزيرة عام ٢٠٢٠ في فيضانات أثَّرت على ما يقرب من مليون شخص، وفي الخرطوم وحدها، قُتل أكثر من مئة شخص، مع نزوح الآلاف، وتُقدَّر الأضرار بنحو ٤.٤ مليار دولار أمريكي، وكان مثيراً للاهتمام عدم ورود بلاغات عن أية إصابات في الجزيرة، ودُمِّر منزلان فقط، رغم تعرضها للفيضان أيضاً.
من الضروري فهم أن الفيضان ليس كارثة طبيعية بل هو من صُنع الإنسان، ذلك أن من طبيعة النهر الفيضان، كان يفيض منذ آلاف السنين على هذه الأرض، ثم جاء السُكَّان للعيش فيها لاحقاً. تزدهر الأرض وتعيش النباتات والحيوانات والإنسان، والنهر في حاجةٍ للتنفّس بالتمدّد، ذلك ما يقتضيه النظام البيئي الذي تعتمد عليه الحياة مما يجعل الفيضان أمراً حتميَّاً.
ومع مرور الزمن، فإن اتفاقية التعايش القائمة على الاستخدام المؤقت للأرض التي يفيض عليها النيل من قبل البشر تآكلت تدريجياً، وأصبح الخطّ الفاصل ما بين النهر والناس غير واضح. أصبح هؤلاء السكان الجُدد لا يفهمون النهر، كلّ ما يعرفونه أن على النهر أن يتدفَّق ممتثلاً أمام جلساتهم على ضفافه، وطقوس طمس المواليد الجُدد في مياهه للتبرّك. ولكن النهر يعود دوماً للمطالبة بأراضيه، ذلك ما يدركه جيداً سكان توتي، ويعرفون أنهم لا يستطيعون محاربة الفيضان أو تفاديه، ووجب عليهم تعلُّم كيفيَّة التعايش معه.
قصة تضامن
إن الطريقة التي تبنَّاها سكان توتي لمواجهة الفيضان هي حقاً مثيرة للاهتمام. يطلقون اسم "التايات" على نظام مراقبة الفيضان، وفي الأصل تعني "التاية" مكان التجمّع أو المأوى. ساعد فيضان عام ١٩٤٦ الشهير على تطوير ثقافة مواجهة الفيضان لدى سكان الجزيرة، حيث تعود القصة إلى عام ١٩٤٤ عندما أمر الحاكم الإنجليزي في ذلك الوقت بإخلاء الجزيرة لضمّها إلى أملاك كلية غردون التذكارية. رَفَض قاطنو الجزيرة الأمر، مما أدى لنشوب أزمة ثقة وصراع بين السكان والمستعمر. لاحقاً، في عام ١٩٤٦ عندما حدث الفيضان، رَفَضت سلطات الاحتلال تزويد السكان بالمعينات لحماية منازلهم وممتلكاتهم. نتيجة لذلك تحرك السكان اعتماداً على أنفسهم لحماية الجزيرة من تصاعد المياه باستخدام أجسادهم كحواجز صدٍّ للمياه.
كان التضامن المجتمعيّ الذي حدث آنذاك هو النواة التي كوَّنت نظام "التاية"، الذي تطور وأصبح كما نعرفه اليوم. إن ما نتج عن ذلك من الشعور بالاستقلالية، وارتباط السكان بالجزيرة، بالإضافة للعادات السودانية في التعاون في أوقات الأزمات، أو ما يُعرف بالـ"فزع" والـ"نفير"، هو الذي أدَّى بالأساس إلى تَطوُّر نظام التاية.
خَلَّدت أُغنية "عجبوني الليلة جو" ذكرى ما حدث في عام ١٩٤٦، وساهمت في توطين هذه القِيم.
يتضمن جزء من نظام التاية مجموعة من نقاط لمراقبة نشاط النهر عن بُعد، مُتوزِّعة عبر الجزيرة، وتقوم بتنظيمها مجموعة من الناس من أحياء مختلفة، كما أن للنساء دورٌ أيضاً في توفير الطعام والخدمات للمراقبين لضمان استمرارها. ويتم ربطها بآلية تنبيه مثل الطبول ومكبرات الصوت في المساجد، وكل شخصٍ في الجزيرة، سواءً كان كبيراً أم طفلاً، رجلاً أم امرأة، يعرف كيف يقيم السدود عندما ترتفع المياه إذا لزم عليه فعل ذلك.
يُعيَّن الشخص المسؤول عن إدارة التاية في بداية موسم الفيضان، ويتم تبادل مواقع نقاط المراقبة دورياً بين مجموعة مكونة من سبعة أشخاص. وكذلك يتم تطوير نظام التاية سنوياً، وتغيير مواقع المراقبة وفقاً لمتطلبات التطور العمراني وتغير أنماط الفيضان.
إحدى التغييرات الرئيسية كانت إنشاء لجنة الفيضانات لجزيرة توتي. تأسست اللجنة عام ١٩٨٨، ومنذ ذلك الحين أصبحت هيئة معترف بها من قبل الحكومة، تُنظِّم جميع مراحل إدارة الفيضانات وكذلك جميع أنواع التمويل والمساعدات. لم تذهب معرفة أهل توتي سدىً، وتم تكريمهم من قبل هيئة الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث UNISDR، كأبطال للحدّ من مخاطر الكوارث.
ما يحمله المستقبل
من المحتمل أن يكون تأثير الفيضانات المستقبلية مختلفًا بسبب عدة عوامل، بما في ذلك التوقعات المناخية التي تشير إلى ازدياد شدة هطول الأمطار مستقبلاً. علاوة على ذلك، فإن الحرب المستمرة التي اندلعت منذ منتصف أبريل ٢٠٢٣، والحصار المباشر الذي تعرض له سكان الجزيرة منذ ذلك الحين؛ قد أثر بشكلٍ كبير على قدرة السكان للاستجابة. وقد أدت الحرب أيضاً إلى نزوح عدد كبير من سكان الجزيرة، مما أثَّر بشكل مباشر على قدرة السكان على حماية أنفسهم من الفيضانات. كانت المعرفة الجماعية فيما يتعلق بالدفاع ضدَّ الفيضانات وعدد المستجيبين المتاحين هما أهم أصول المجتمع. وبالتالي، فإن الصراع الحالي يُعرِّض الممارسات القائمة على المعرفة التقليدية لخطرٍ كبير، مع عواقب لا رجعة فيها. ومع ذلك، ربما عندما يحين الوقت، ستكون دروس صمود سكان جزيرة توتي في مواجهة الكوارث الطبيعية المتفاقمة بسبب الأفعال البشرية، هي قصة ستظل تُحكى وتُذكر باستمرار.
صورة الغلاف: جزيرة توتي ٢٠١٧ © زينب جعفر
قصة صُمود جزيرة سُودانيَّة في وجهِ تحديات البقاء
المعرفة الجماعية
في عصر الذكاء الاصطناعي، يُعرَّف مصطلح التعليم الآلي بأنه عمليّة يتم فيها تغذية أجهزة الكمبيوتر بكميّات كبيرة من البيانات، ومن ثم من خلال الخوارزميات تقوم هذه الأجهزة بالتعرّف على أنماط معينة مما يمكّنها من جلب إجابات مفيدة لأسئلتنا.
أصبح الآن مصدر هذه المعلومات موضوع نقاش أخلاقيّ؛ حيث تدور تساؤلات حول مصدر المعلومات وموافقة أصحابها لاستخدامها من قبل أطرافٍ أخرى.
تُعرَّف عملية تجميع المعلومات من عدة أفراد للاستفادة منها بمفهوم "المعرفة الجماعية"، وهو ليس مفهوماً مُقتَصِراً على هذا العصر بل يمكن تتبّعه منذ القرن الثامن عشر، كذلك فقد تناوله أفلاطون في فكرة “ العقل الجماعي”.
و من أمثلة استخدام المعرفة الجماعية فقد كانت في عام ١٨٥٧، حيث قامت مجموعة من المثقفين البريطانيين بتجميع قاموس إنجليزي يحوي مجموعة شاملة من الكلمات، مع تفصيل التعريفات والاستخدامات، وذلك من خلال نشر نداءٍ لمتطوعين لإرسال كلمات من الكتب الموجودة بمكتباتِهم، مما أدى لتجميع أكثر من مليوني مرجع للكلمات. وحتى في عالم الأعمال اليوم تحاول الشركات تعزيز مفهوم المعرفة الجماعية وتبادلها بين الموظفين والاحتفاظ بها كرأس مال للشركة.
و مع ذلك فإن مفهوم "العقل الجماعي" والذي وصفه أفلاطون يسبق القرن الثامن عشر، فهو يُعدّ أحد سمات المجتمعات الإنسانية؛ إذ أن تجمّع مجموعة إنسانية للعيش في مكانٍ واحد لفترة طويلة من الزمن سيؤدي، بكلّ تأكيد، إلى تَكوِينِ نوعٍ من المعرفة الجماعية ممثلةً في مجموعة المعارف، الخبرات، المهارات، الممارسات والاعتقادات والتفاعل بينها، ويتمّ تطويرها وحفظها، ومن ثم نقلها عبر الأجيال.
يمكن تسميتها بـ"المعرفة الجمعية"، فعندما يشارك عدد كبير من الأفراد مهاراتهم ومعرفتهم، فإن المحصلة المعرفية تكون أقيم من مجرد جمع المعارف الفردية. ومن المهم الإشارة إلى عنصر المشاركة، لأنه، على الرغم من أن المجموعة تشترك في كثير من المعرفة، إلا أن هنالك مستوىً فرديّ من الخبرة يلعب دوراً جوهريَّاً في عمل المجموعة كوِحدَة متناسقة.
لكن كيف يقوم مجتمع معيّن بمشاركة المعرفة بين أعضائه إلى درجة أن الطفل قد يمتلك في سنٍّ مبكرة ثروة من المعرفة عن مجتمعه؟ يستمرّ الباحثون في دراسة المعرفة التقليديّة أو الأصلية من خلال منظور أنثروبولوجي. تشمل بعض الطرق لنقل هذا النوع من المعرفة سرد القصص، وهي وسيلة مهمة للتعليم والتعلّم في العديد من المجتمعات، وتعتمد على النقل الشفهي والاعتماد على الذاكرة الجمعية. يمكن أن تدور هذه القصص حول التاريخ المحلي، والحكمة، والمهارات، وفهم الأرض. وتُعتبر الأغاني، والرقصات، وصنع الحرف، والطقوس، وممارسة التقاليد طريقة أخرى تُعرف باسم "التعلم الظليّ" الذي ينطوي أساساً على مشاهدة الشباب لكبار السن وتقليد أفعالهم.
كل هذه الأنظمة الثقافية هي نتاج تراكمي للمعرفة المجتمعية والتفاعل النَشِط، والتي يتم تسخيرها لخدمة أهداف البقاء والازدهار للمجموعة. إنها متأصلة بشكل عميق في السياق الثقافي والاجتماعي والبيئي لتلك المجموعة، وغالبًا ما تعكس طريقتها الفريدة في فهم العالم والتفاعل معه. المعرفة محصورة جماعيًا بدلاً من أن يمتلكها فرد واحد، وتتطوَّر مع تكيف المجتمع مع التغيرات في بيئته ونمط حياته.
النهر صديق وليس عدو
تُعدّ مجتمع جزيرة توتي مثالًا بارزًا على كيفية احتفاظ المجتمعات بالمعرفة واستخدامها، على مرّ العقود، للبقاء على قيد الحياة في مواجهة مصاعب مثل الفيضانات الكبيرة.
تقع جزيرة توتي، التي تعدّ واحدة من أكبر الجزر الواقعة على نهر النيل، عند تقاطع النيل الأزرق والنيل الأبيض في قلب الخرطوم، وتبلغ مساحتها حوالي أربعة كيلومترات مربعة. وقد سُكنت الجزيرة منذ القرن الخامس عشر، لكن عالم الآثار البريطاني أركيل يعتقد أنها كانت مأهولةً في وقتٍ أبكر بسبب وجود قطع أثرية تعود إلى العصر الحجري الحديث على الجزيرة. تضم الجزيرة عدة مجموعات عرقية من جميع أنحاء السودان ومن الخارج. وقد جَلَبَت هذه المجموعات ثقافاتها وتقاليدها الفريدة التي تم نقلها من جيل إلى جيل.
على الرغم من موقعها في قلب العاصمة، فإن توتي ظلَّت على حالتها الريفية حتى وقت قريب. فقد شَكَّل اختلاف بنيتها التحتية، والشكل الريفي للحياة فيها، إلى وجود تباينٍ واضح بينها وبين بقيَّة أجزاء الخرطوم الواقعة على الضفة الأخرى من النهر، على بعد أمتارٍ قليلة. تَسَارعت خطوات التمدّن في الجزيرة من خلال المشاريع العمرانية، بالأخص جسر توتي، وهو الجسر الأول والأوحد الذي يربط الجزيرة ببقيَّة العاصمة؛ حيث كان التنقّل من وإلى الجزيرة يتم من خلال المراكب والعَبَّارات، ومما لاشَكَّ فيه أن تأثير كبري توتي على سكان الجزيرة كانَ كبيراً؛ حيث سَهُل الوصول للخدمات وفرص العمل، كما أدَّى إلى زيادة عدد السكان، وبالتالي، المزيد من التنوّع في التركيبة السُكَّانية. وإلى الآن، لا نُدركُ فعلاً حجم تأثيرات الجسر على بيئة الجزيرة ونسيجها الاجتماعي، أو عن الدور الذي لعبته ممارسات المعرفة التقليدية المحليَّة في التعامل مع ما جَدَّ من ظروف.
بالنسبة لسكَّان الجزيرة، يُعتَبر النيل هو مصدر الحياة، حيث تعتمد سُبُل عيشهم بشكلٍ أساسيّ على الزراعة والصيد، وتُزرع في تربتها الخصبة مجموعة متنوعة من الخضروات والفواكه، ويُشكِّل الصيد مصدر دخلٍ رئيسيّ للعديد من السكان الذين يعتمدون على النهر في جلب رزقهم اليومي.
ومع ذلك، عندما يبدأ موسم الفيضان، يُشكّل النيل مصدر تهديدٍ للجزيرة.
كان أوّل فيضان كبير مُسجَّل في الخرطوم في عام ١٨٧٨، عندما تخطَّى النيل الأزرق ضفافه، وألحق أضراراً بالمنازل وسبل العيش. وتسبَّب فيضانٌ آخر في الخرطوم عام ١٩٤٦ بأضرار واسعة على المباني والبنية التحتية، حيث وصلت مياه الفيضانات إلى ارتفاع ستة أمتار في بعض المناطق، مما ترك الآلاف بلا مأوى. وعام ١٩٨٨م، أدّى هطول أمطار غزيرة على مدى عدة أيام إلى حدوث فيضانات، وصل عدد ضحاياها أكثر من ألفٍ، ونزوح الآلاف من الناس. في الآونة الأخيرة، تسببت الأمطار الغزيرة عام ٢٠٢٠ في فيضانات أثَّرت على ما يقرب من مليون شخص، وفي الخرطوم وحدها، قُتل أكثر من مئة شخص، مع نزوح الآلاف، وتُقدَّر الأضرار بنحو ٤.٤ مليار دولار أمريكي، وكان مثيراً للاهتمام عدم ورود بلاغات عن أية إصابات في الجزيرة، ودُمِّر منزلان فقط، رغم تعرضها للفيضان أيضاً.
من الضروري فهم أن الفيضان ليس كارثة طبيعية بل هو من صُنع الإنسان، ذلك أن من طبيعة النهر الفيضان، كان يفيض منذ آلاف السنين على هذه الأرض، ثم جاء السُكَّان للعيش فيها لاحقاً. تزدهر الأرض وتعيش النباتات والحيوانات والإنسان، والنهر في حاجةٍ للتنفّس بالتمدّد، ذلك ما يقتضيه النظام البيئي الذي تعتمد عليه الحياة مما يجعل الفيضان أمراً حتميَّاً.
ومع مرور الزمن، فإن اتفاقية التعايش القائمة على الاستخدام المؤقت للأرض التي يفيض عليها النيل من قبل البشر تآكلت تدريجياً، وأصبح الخطّ الفاصل ما بين النهر والناس غير واضح. أصبح هؤلاء السكان الجُدد لا يفهمون النهر، كلّ ما يعرفونه أن على النهر أن يتدفَّق ممتثلاً أمام جلساتهم على ضفافه، وطقوس طمس المواليد الجُدد في مياهه للتبرّك. ولكن النهر يعود دوماً للمطالبة بأراضيه، ذلك ما يدركه جيداً سكان توتي، ويعرفون أنهم لا يستطيعون محاربة الفيضان أو تفاديه، ووجب عليهم تعلُّم كيفيَّة التعايش معه.
قصة تضامن
إن الطريقة التي تبنَّاها سكان توتي لمواجهة الفيضان هي حقاً مثيرة للاهتمام. يطلقون اسم "التايات" على نظام مراقبة الفيضان، وفي الأصل تعني "التاية" مكان التجمّع أو المأوى. ساعد فيضان عام ١٩٤٦ الشهير على تطوير ثقافة مواجهة الفيضان لدى سكان الجزيرة، حيث تعود القصة إلى عام ١٩٤٤ عندما أمر الحاكم الإنجليزي في ذلك الوقت بإخلاء الجزيرة لضمّها إلى أملاك كلية غردون التذكارية. رَفَض قاطنو الجزيرة الأمر، مما أدى لنشوب أزمة ثقة وصراع بين السكان والمستعمر. لاحقاً، في عام ١٩٤٦ عندما حدث الفيضان، رَفَضت سلطات الاحتلال تزويد السكان بالمعينات لحماية منازلهم وممتلكاتهم. نتيجة لذلك تحرك السكان اعتماداً على أنفسهم لحماية الجزيرة من تصاعد المياه باستخدام أجسادهم كحواجز صدٍّ للمياه.
كان التضامن المجتمعيّ الذي حدث آنذاك هو النواة التي كوَّنت نظام "التاية"، الذي تطور وأصبح كما نعرفه اليوم. إن ما نتج عن ذلك من الشعور بالاستقلالية، وارتباط السكان بالجزيرة، بالإضافة للعادات السودانية في التعاون في أوقات الأزمات، أو ما يُعرف بالـ"فزع" والـ"نفير"، هو الذي أدَّى بالأساس إلى تَطوُّر نظام التاية.
خَلَّدت أُغنية "عجبوني الليلة جو" ذكرى ما حدث في عام ١٩٤٦، وساهمت في توطين هذه القِيم.
يتضمن جزء من نظام التاية مجموعة من نقاط لمراقبة نشاط النهر عن بُعد، مُتوزِّعة عبر الجزيرة، وتقوم بتنظيمها مجموعة من الناس من أحياء مختلفة، كما أن للنساء دورٌ أيضاً في توفير الطعام والخدمات للمراقبين لضمان استمرارها. ويتم ربطها بآلية تنبيه مثل الطبول ومكبرات الصوت في المساجد، وكل شخصٍ في الجزيرة، سواءً كان كبيراً أم طفلاً، رجلاً أم امرأة، يعرف كيف يقيم السدود عندما ترتفع المياه إذا لزم عليه فعل ذلك.
يُعيَّن الشخص المسؤول عن إدارة التاية في بداية موسم الفيضان، ويتم تبادل مواقع نقاط المراقبة دورياً بين مجموعة مكونة من سبعة أشخاص. وكذلك يتم تطوير نظام التاية سنوياً، وتغيير مواقع المراقبة وفقاً لمتطلبات التطور العمراني وتغير أنماط الفيضان.
إحدى التغييرات الرئيسية كانت إنشاء لجنة الفيضانات لجزيرة توتي. تأسست اللجنة عام ١٩٨٨، ومنذ ذلك الحين أصبحت هيئة معترف بها من قبل الحكومة، تُنظِّم جميع مراحل إدارة الفيضانات وكذلك جميع أنواع التمويل والمساعدات. لم تذهب معرفة أهل توتي سدىً، وتم تكريمهم من قبل هيئة الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث UNISDR، كأبطال للحدّ من مخاطر الكوارث.
ما يحمله المستقبل
من المحتمل أن يكون تأثير الفيضانات المستقبلية مختلفًا بسبب عدة عوامل، بما في ذلك التوقعات المناخية التي تشير إلى ازدياد شدة هطول الأمطار مستقبلاً. علاوة على ذلك، فإن الحرب المستمرة التي اندلعت منذ منتصف أبريل ٢٠٢٣، والحصار المباشر الذي تعرض له سكان الجزيرة منذ ذلك الحين؛ قد أثر بشكلٍ كبير على قدرة السكان للاستجابة. وقد أدت الحرب أيضاً إلى نزوح عدد كبير من سكان الجزيرة، مما أثَّر بشكل مباشر على قدرة السكان على حماية أنفسهم من الفيضانات. كانت المعرفة الجماعية فيما يتعلق بالدفاع ضدَّ الفيضانات وعدد المستجيبين المتاحين هما أهم أصول المجتمع. وبالتالي، فإن الصراع الحالي يُعرِّض الممارسات القائمة على المعرفة التقليدية لخطرٍ كبير، مع عواقب لا رجعة فيها. ومع ذلك، ربما عندما يحين الوقت، ستكون دروس صمود سكان جزيرة توتي في مواجهة الكوارث الطبيعية المتفاقمة بسبب الأفعال البشرية، هي قصة ستظل تُحكى وتُذكر باستمرار.
صورة الغلاف: جزيرة توتي ٢٠١٧ © زينب جعفر
قصة صُمود جزيرة سُودانيَّة في وجهِ تحديات البقاء
المعرفة الجماعية
في عصر الذكاء الاصطناعي، يُعرَّف مصطلح التعليم الآلي بأنه عمليّة يتم فيها تغذية أجهزة الكمبيوتر بكميّات كبيرة من البيانات، ومن ثم من خلال الخوارزميات تقوم هذه الأجهزة بالتعرّف على أنماط معينة مما يمكّنها من جلب إجابات مفيدة لأسئلتنا.
أصبح الآن مصدر هذه المعلومات موضوع نقاش أخلاقيّ؛ حيث تدور تساؤلات حول مصدر المعلومات وموافقة أصحابها لاستخدامها من قبل أطرافٍ أخرى.
تُعرَّف عملية تجميع المعلومات من عدة أفراد للاستفادة منها بمفهوم "المعرفة الجماعية"، وهو ليس مفهوماً مُقتَصِراً على هذا العصر بل يمكن تتبّعه منذ القرن الثامن عشر، كذلك فقد تناوله أفلاطون في فكرة “ العقل الجماعي”.
و من أمثلة استخدام المعرفة الجماعية فقد كانت في عام ١٨٥٧، حيث قامت مجموعة من المثقفين البريطانيين بتجميع قاموس إنجليزي يحوي مجموعة شاملة من الكلمات، مع تفصيل التعريفات والاستخدامات، وذلك من خلال نشر نداءٍ لمتطوعين لإرسال كلمات من الكتب الموجودة بمكتباتِهم، مما أدى لتجميع أكثر من مليوني مرجع للكلمات. وحتى في عالم الأعمال اليوم تحاول الشركات تعزيز مفهوم المعرفة الجماعية وتبادلها بين الموظفين والاحتفاظ بها كرأس مال للشركة.
و مع ذلك فإن مفهوم "العقل الجماعي" والذي وصفه أفلاطون يسبق القرن الثامن عشر، فهو يُعدّ أحد سمات المجتمعات الإنسانية؛ إذ أن تجمّع مجموعة إنسانية للعيش في مكانٍ واحد لفترة طويلة من الزمن سيؤدي، بكلّ تأكيد، إلى تَكوِينِ نوعٍ من المعرفة الجماعية ممثلةً في مجموعة المعارف، الخبرات، المهارات، الممارسات والاعتقادات والتفاعل بينها، ويتمّ تطويرها وحفظها، ومن ثم نقلها عبر الأجيال.
يمكن تسميتها بـ"المعرفة الجمعية"، فعندما يشارك عدد كبير من الأفراد مهاراتهم ومعرفتهم، فإن المحصلة المعرفية تكون أقيم من مجرد جمع المعارف الفردية. ومن المهم الإشارة إلى عنصر المشاركة، لأنه، على الرغم من أن المجموعة تشترك في كثير من المعرفة، إلا أن هنالك مستوىً فرديّ من الخبرة يلعب دوراً جوهريَّاً في عمل المجموعة كوِحدَة متناسقة.
لكن كيف يقوم مجتمع معيّن بمشاركة المعرفة بين أعضائه إلى درجة أن الطفل قد يمتلك في سنٍّ مبكرة ثروة من المعرفة عن مجتمعه؟ يستمرّ الباحثون في دراسة المعرفة التقليديّة أو الأصلية من خلال منظور أنثروبولوجي. تشمل بعض الطرق لنقل هذا النوع من المعرفة سرد القصص، وهي وسيلة مهمة للتعليم والتعلّم في العديد من المجتمعات، وتعتمد على النقل الشفهي والاعتماد على الذاكرة الجمعية. يمكن أن تدور هذه القصص حول التاريخ المحلي، والحكمة، والمهارات، وفهم الأرض. وتُعتبر الأغاني، والرقصات، وصنع الحرف، والطقوس، وممارسة التقاليد طريقة أخرى تُعرف باسم "التعلم الظليّ" الذي ينطوي أساساً على مشاهدة الشباب لكبار السن وتقليد أفعالهم.
كل هذه الأنظمة الثقافية هي نتاج تراكمي للمعرفة المجتمعية والتفاعل النَشِط، والتي يتم تسخيرها لخدمة أهداف البقاء والازدهار للمجموعة. إنها متأصلة بشكل عميق في السياق الثقافي والاجتماعي والبيئي لتلك المجموعة، وغالبًا ما تعكس طريقتها الفريدة في فهم العالم والتفاعل معه. المعرفة محصورة جماعيًا بدلاً من أن يمتلكها فرد واحد، وتتطوَّر مع تكيف المجتمع مع التغيرات في بيئته ونمط حياته.
النهر صديق وليس عدو
تُعدّ مجتمع جزيرة توتي مثالًا بارزًا على كيفية احتفاظ المجتمعات بالمعرفة واستخدامها، على مرّ العقود، للبقاء على قيد الحياة في مواجهة مصاعب مثل الفيضانات الكبيرة.
تقع جزيرة توتي، التي تعدّ واحدة من أكبر الجزر الواقعة على نهر النيل، عند تقاطع النيل الأزرق والنيل الأبيض في قلب الخرطوم، وتبلغ مساحتها حوالي أربعة كيلومترات مربعة. وقد سُكنت الجزيرة منذ القرن الخامس عشر، لكن عالم الآثار البريطاني أركيل يعتقد أنها كانت مأهولةً في وقتٍ أبكر بسبب وجود قطع أثرية تعود إلى العصر الحجري الحديث على الجزيرة. تضم الجزيرة عدة مجموعات عرقية من جميع أنحاء السودان ومن الخارج. وقد جَلَبَت هذه المجموعات ثقافاتها وتقاليدها الفريدة التي تم نقلها من جيل إلى جيل.
على الرغم من موقعها في قلب العاصمة، فإن توتي ظلَّت على حالتها الريفية حتى وقت قريب. فقد شَكَّل اختلاف بنيتها التحتية، والشكل الريفي للحياة فيها، إلى وجود تباينٍ واضح بينها وبين بقيَّة أجزاء الخرطوم الواقعة على الضفة الأخرى من النهر، على بعد أمتارٍ قليلة. تَسَارعت خطوات التمدّن في الجزيرة من خلال المشاريع العمرانية، بالأخص جسر توتي، وهو الجسر الأول والأوحد الذي يربط الجزيرة ببقيَّة العاصمة؛ حيث كان التنقّل من وإلى الجزيرة يتم من خلال المراكب والعَبَّارات، ومما لاشَكَّ فيه أن تأثير كبري توتي على سكان الجزيرة كانَ كبيراً؛ حيث سَهُل الوصول للخدمات وفرص العمل، كما أدَّى إلى زيادة عدد السكان، وبالتالي، المزيد من التنوّع في التركيبة السُكَّانية. وإلى الآن، لا نُدركُ فعلاً حجم تأثيرات الجسر على بيئة الجزيرة ونسيجها الاجتماعي، أو عن الدور الذي لعبته ممارسات المعرفة التقليدية المحليَّة في التعامل مع ما جَدَّ من ظروف.
بالنسبة لسكَّان الجزيرة، يُعتَبر النيل هو مصدر الحياة، حيث تعتمد سُبُل عيشهم بشكلٍ أساسيّ على الزراعة والصيد، وتُزرع في تربتها الخصبة مجموعة متنوعة من الخضروات والفواكه، ويُشكِّل الصيد مصدر دخلٍ رئيسيّ للعديد من السكان الذين يعتمدون على النهر في جلب رزقهم اليومي.
ومع ذلك، عندما يبدأ موسم الفيضان، يُشكّل النيل مصدر تهديدٍ للجزيرة.
كان أوّل فيضان كبير مُسجَّل في الخرطوم في عام ١٨٧٨، عندما تخطَّى النيل الأزرق ضفافه، وألحق أضراراً بالمنازل وسبل العيش. وتسبَّب فيضانٌ آخر في الخرطوم عام ١٩٤٦ بأضرار واسعة على المباني والبنية التحتية، حيث وصلت مياه الفيضانات إلى ارتفاع ستة أمتار في بعض المناطق، مما ترك الآلاف بلا مأوى. وعام ١٩٨٨م، أدّى هطول أمطار غزيرة على مدى عدة أيام إلى حدوث فيضانات، وصل عدد ضحاياها أكثر من ألفٍ، ونزوح الآلاف من الناس. في الآونة الأخيرة، تسببت الأمطار الغزيرة عام ٢٠٢٠ في فيضانات أثَّرت على ما يقرب من مليون شخص، وفي الخرطوم وحدها، قُتل أكثر من مئة شخص، مع نزوح الآلاف، وتُقدَّر الأضرار بنحو ٤.٤ مليار دولار أمريكي، وكان مثيراً للاهتمام عدم ورود بلاغات عن أية إصابات في الجزيرة، ودُمِّر منزلان فقط، رغم تعرضها للفيضان أيضاً.
من الضروري فهم أن الفيضان ليس كارثة طبيعية بل هو من صُنع الإنسان، ذلك أن من طبيعة النهر الفيضان، كان يفيض منذ آلاف السنين على هذه الأرض، ثم جاء السُكَّان للعيش فيها لاحقاً. تزدهر الأرض وتعيش النباتات والحيوانات والإنسان، والنهر في حاجةٍ للتنفّس بالتمدّد، ذلك ما يقتضيه النظام البيئي الذي تعتمد عليه الحياة مما يجعل الفيضان أمراً حتميَّاً.
ومع مرور الزمن، فإن اتفاقية التعايش القائمة على الاستخدام المؤقت للأرض التي يفيض عليها النيل من قبل البشر تآكلت تدريجياً، وأصبح الخطّ الفاصل ما بين النهر والناس غير واضح. أصبح هؤلاء السكان الجُدد لا يفهمون النهر، كلّ ما يعرفونه أن على النهر أن يتدفَّق ممتثلاً أمام جلساتهم على ضفافه، وطقوس طمس المواليد الجُدد في مياهه للتبرّك. ولكن النهر يعود دوماً للمطالبة بأراضيه، ذلك ما يدركه جيداً سكان توتي، ويعرفون أنهم لا يستطيعون محاربة الفيضان أو تفاديه، ووجب عليهم تعلُّم كيفيَّة التعايش معه.
قصة تضامن
إن الطريقة التي تبنَّاها سكان توتي لمواجهة الفيضان هي حقاً مثيرة للاهتمام. يطلقون اسم "التايات" على نظام مراقبة الفيضان، وفي الأصل تعني "التاية" مكان التجمّع أو المأوى. ساعد فيضان عام ١٩٤٦ الشهير على تطوير ثقافة مواجهة الفيضان لدى سكان الجزيرة، حيث تعود القصة إلى عام ١٩٤٤ عندما أمر الحاكم الإنجليزي في ذلك الوقت بإخلاء الجزيرة لضمّها إلى أملاك كلية غردون التذكارية. رَفَض قاطنو الجزيرة الأمر، مما أدى لنشوب أزمة ثقة وصراع بين السكان والمستعمر. لاحقاً، في عام ١٩٤٦ عندما حدث الفيضان، رَفَضت سلطات الاحتلال تزويد السكان بالمعينات لحماية منازلهم وممتلكاتهم. نتيجة لذلك تحرك السكان اعتماداً على أنفسهم لحماية الجزيرة من تصاعد المياه باستخدام أجسادهم كحواجز صدٍّ للمياه.
كان التضامن المجتمعيّ الذي حدث آنذاك هو النواة التي كوَّنت نظام "التاية"، الذي تطور وأصبح كما نعرفه اليوم. إن ما نتج عن ذلك من الشعور بالاستقلالية، وارتباط السكان بالجزيرة، بالإضافة للعادات السودانية في التعاون في أوقات الأزمات، أو ما يُعرف بالـ"فزع" والـ"نفير"، هو الذي أدَّى بالأساس إلى تَطوُّر نظام التاية.
خَلَّدت أُغنية "عجبوني الليلة جو" ذكرى ما حدث في عام ١٩٤٦، وساهمت في توطين هذه القِيم.
يتضمن جزء من نظام التاية مجموعة من نقاط لمراقبة نشاط النهر عن بُعد، مُتوزِّعة عبر الجزيرة، وتقوم بتنظيمها مجموعة من الناس من أحياء مختلفة، كما أن للنساء دورٌ أيضاً في توفير الطعام والخدمات للمراقبين لضمان استمرارها. ويتم ربطها بآلية تنبيه مثل الطبول ومكبرات الصوت في المساجد، وكل شخصٍ في الجزيرة، سواءً كان كبيراً أم طفلاً، رجلاً أم امرأة، يعرف كيف يقيم السدود عندما ترتفع المياه إذا لزم عليه فعل ذلك.
يُعيَّن الشخص المسؤول عن إدارة التاية في بداية موسم الفيضان، ويتم تبادل مواقع نقاط المراقبة دورياً بين مجموعة مكونة من سبعة أشخاص. وكذلك يتم تطوير نظام التاية سنوياً، وتغيير مواقع المراقبة وفقاً لمتطلبات التطور العمراني وتغير أنماط الفيضان.
إحدى التغييرات الرئيسية كانت إنشاء لجنة الفيضانات لجزيرة توتي. تأسست اللجنة عام ١٩٨٨، ومنذ ذلك الحين أصبحت هيئة معترف بها من قبل الحكومة، تُنظِّم جميع مراحل إدارة الفيضانات وكذلك جميع أنواع التمويل والمساعدات. لم تذهب معرفة أهل توتي سدىً، وتم تكريمهم من قبل هيئة الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث UNISDR، كأبطال للحدّ من مخاطر الكوارث.
ما يحمله المستقبل
من المحتمل أن يكون تأثير الفيضانات المستقبلية مختلفًا بسبب عدة عوامل، بما في ذلك التوقعات المناخية التي تشير إلى ازدياد شدة هطول الأمطار مستقبلاً. علاوة على ذلك، فإن الحرب المستمرة التي اندلعت منذ منتصف أبريل ٢٠٢٣، والحصار المباشر الذي تعرض له سكان الجزيرة منذ ذلك الحين؛ قد أثر بشكلٍ كبير على قدرة السكان للاستجابة. وقد أدت الحرب أيضاً إلى نزوح عدد كبير من سكان الجزيرة، مما أثَّر بشكل مباشر على قدرة السكان على حماية أنفسهم من الفيضانات. كانت المعرفة الجماعية فيما يتعلق بالدفاع ضدَّ الفيضانات وعدد المستجيبين المتاحين هما أهم أصول المجتمع. وبالتالي، فإن الصراع الحالي يُعرِّض الممارسات القائمة على المعرفة التقليدية لخطرٍ كبير، مع عواقب لا رجعة فيها. ومع ذلك، ربما عندما يحين الوقت، ستكون دروس صمود سكان جزيرة توتي في مواجهة الكوارث الطبيعية المتفاقمة بسبب الأفعال البشرية، هي قصة ستظل تُحكى وتُذكر باستمرار.
صورة الغلاف: جزيرة توتي ٢٠١٧ © زينب جعفر
تعلم الصمود
كيف يمكن أن تكون ممارسة الثقافة شكلاً من أشكال الصمود؟ ما الأدوات التي نمتلكها في ثقافتنا والتي تم تطويرها من خلال الصمود؟ المعرفة التي نرثها من أجدادنا ليست سوى شكل واحد من أشكال المعرفة الجماعية التي نعيش بها اليوم.
نحن المتحف
نحن المتحف
معرض الأستاذة والتشكيلية ستنا بدري عن الأواني المنزلية والذي تم عرضه بمتحف بيت الخليفة المجتمعي بعد إعادة افتتاحه في بداية العام ٢٠٢٣م، هو نموذج حي عن مفهوم المنزل كمتحف، وكان المعرض بمطبخ السيدة ديزي برامبل ببيت برامبل، وهو أحد مديري محلية أمدرمان في فترة العشرينات من القرن العشرين من إدارة الحكم الإنجليزي.
الأستاذة سـتـنـا بـابـكـر بـدري، رائدة الفن التشكيلي السوداني من مواليد مدينة رفاعة عام ١٩٢٩م، وهي كريمة الشيخ بابكر بدري رائد تعليم البنات. درست دبلوم فنون كلية الفنون الجميلة بالخرطوم والفن التشكيلي بالولايات المتحدة الأمريكية. عملت كمعلمة لغة إنجليزية ثم معلمة فنون في مدرسة أمدرمان الثانوية، وبعدها كمحاضرة بجامعة الأحفاد للبنات في مادة الفنون وطباعة المنسوجات. المسيرة الفنية لستنا والتنوع في وسائل التعليم والاستخدامات المختلفة للمواد المتاحة والمحلية كان عنوان حياة ستنا بدري الفنية المليئة بالإبداع الذي تم تكريسه لعكس جمال وإثراء الثقافة السودانية، ولا سيما الوسائل المتعددة للمرأة لاستخدام الفن في كل ما تقوم به. هذا ما حملته وعكسته الثمان عقود من فن الأستاذة ستنا والتي شملت خمسة معارض فنية في الولايات المتحدة، بريطانيا ومصر وأربعة معارض في الخرطوم، كما أن لديها لوحات فنية بمتحف جامعة مانشستر ببريطانيا وفي العديد من الأماكن الأخرى.
أما معرض الأواني المنزلية فهو مجموعة من مختلف الأواني من حقب زمنية مختلفة، التصميمات والرسوم الموجودة على مختلف القطع تستجاب ذكريات لمن عاشوا في بداية ومنتصف القرن العشرين، وعلى ظهر كل آنية تجد اسم صاحبتها قبل أن تتبرع بها لمجموعة الأستاذة ستنا، وبذلك توثق لفترة من حياتها وحياة عديد من السودانيين الذين تشاركوا تجربة اقتناء هذه الأواني وجمعتهم الكثير من الأحداث حول موائد عليها نفس الصحون. هذه تعتبر تجربة متفردة لمفهوم وعملية "المتحفة" من اختيار الموضوع وطريقة الجمع وحتى العرض، والذي يركّز على الذاكرة الجمعية في السرد المتحفي. فاختيار موضوع الأواني ونظرة أستاذة ستنا لها كغرض مهم للأرشفة والحفظ والعرض يسوق مفهوم التراث لأبعاد أوسع لا تظهر عادة في المساحات المتحفية المؤسسية.
صورة الغلاف والمعرض © زينب جعفر
معرض الأستاذة والتشكيلية ستنا بدري عن الأواني المنزلية والذي تم عرضه بمتحف بيت الخليفة المجتمعي بعد إعادة افتتاحه في بداية العام ٢٠٢٣م، هو نموذج حي عن مفهوم المنزل كمتحف، وكان المعرض بمطبخ السيدة ديزي برامبل ببيت برامبل، وهو أحد مديري محلية أمدرمان في فترة العشرينات من القرن العشرين من إدارة الحكم الإنجليزي.
الأستاذة سـتـنـا بـابـكـر بـدري، رائدة الفن التشكيلي السوداني من مواليد مدينة رفاعة عام ١٩٢٩م، وهي كريمة الشيخ بابكر بدري رائد تعليم البنات. درست دبلوم فنون كلية الفنون الجميلة بالخرطوم والفن التشكيلي بالولايات المتحدة الأمريكية. عملت كمعلمة لغة إنجليزية ثم معلمة فنون في مدرسة أمدرمان الثانوية، وبعدها كمحاضرة بجامعة الأحفاد للبنات في مادة الفنون وطباعة المنسوجات. المسيرة الفنية لستنا والتنوع في وسائل التعليم والاستخدامات المختلفة للمواد المتاحة والمحلية كان عنوان حياة ستنا بدري الفنية المليئة بالإبداع الذي تم تكريسه لعكس جمال وإثراء الثقافة السودانية، ولا سيما الوسائل المتعددة للمرأة لاستخدام الفن في كل ما تقوم به. هذا ما حملته وعكسته الثمان عقود من فن الأستاذة ستنا والتي شملت خمسة معارض فنية في الولايات المتحدة، بريطانيا ومصر وأربعة معارض في الخرطوم، كما أن لديها لوحات فنية بمتحف جامعة مانشستر ببريطانيا وفي العديد من الأماكن الأخرى.
أما معرض الأواني المنزلية فهو مجموعة من مختلف الأواني من حقب زمنية مختلفة، التصميمات والرسوم الموجودة على مختلف القطع تستجاب ذكريات لمن عاشوا في بداية ومنتصف القرن العشرين، وعلى ظهر كل آنية تجد اسم صاحبتها قبل أن تتبرع بها لمجموعة الأستاذة ستنا، وبذلك توثق لفترة من حياتها وحياة عديد من السودانيين الذين تشاركوا تجربة اقتناء هذه الأواني وجمعتهم الكثير من الأحداث حول موائد عليها نفس الصحون. هذه تعتبر تجربة متفردة لمفهوم وعملية "المتحفة" من اختيار الموضوع وطريقة الجمع وحتى العرض، والذي يركّز على الذاكرة الجمعية في السرد المتحفي. فاختيار موضوع الأواني ونظرة أستاذة ستنا لها كغرض مهم للأرشفة والحفظ والعرض يسوق مفهوم التراث لأبعاد أوسع لا تظهر عادة في المساحات المتحفية المؤسسية.
صورة الغلاف والمعرض © زينب جعفر
معرض الأستاذة والتشكيلية ستنا بدري عن الأواني المنزلية والذي تم عرضه بمتحف بيت الخليفة المجتمعي بعد إعادة افتتاحه في بداية العام ٢٠٢٣م، هو نموذج حي عن مفهوم المنزل كمتحف، وكان المعرض بمطبخ السيدة ديزي برامبل ببيت برامبل، وهو أحد مديري محلية أمدرمان في فترة العشرينات من القرن العشرين من إدارة الحكم الإنجليزي.
الأستاذة سـتـنـا بـابـكـر بـدري، رائدة الفن التشكيلي السوداني من مواليد مدينة رفاعة عام ١٩٢٩م، وهي كريمة الشيخ بابكر بدري رائد تعليم البنات. درست دبلوم فنون كلية الفنون الجميلة بالخرطوم والفن التشكيلي بالولايات المتحدة الأمريكية. عملت كمعلمة لغة إنجليزية ثم معلمة فنون في مدرسة أمدرمان الثانوية، وبعدها كمحاضرة بجامعة الأحفاد للبنات في مادة الفنون وطباعة المنسوجات. المسيرة الفنية لستنا والتنوع في وسائل التعليم والاستخدامات المختلفة للمواد المتاحة والمحلية كان عنوان حياة ستنا بدري الفنية المليئة بالإبداع الذي تم تكريسه لعكس جمال وإثراء الثقافة السودانية، ولا سيما الوسائل المتعددة للمرأة لاستخدام الفن في كل ما تقوم به. هذا ما حملته وعكسته الثمان عقود من فن الأستاذة ستنا والتي شملت خمسة معارض فنية في الولايات المتحدة، بريطانيا ومصر وأربعة معارض في الخرطوم، كما أن لديها لوحات فنية بمتحف جامعة مانشستر ببريطانيا وفي العديد من الأماكن الأخرى.
أما معرض الأواني المنزلية فهو مجموعة من مختلف الأواني من حقب زمنية مختلفة، التصميمات والرسوم الموجودة على مختلف القطع تستجاب ذكريات لمن عاشوا في بداية ومنتصف القرن العشرين، وعلى ظهر كل آنية تجد اسم صاحبتها قبل أن تتبرع بها لمجموعة الأستاذة ستنا، وبذلك توثق لفترة من حياتها وحياة عديد من السودانيين الذين تشاركوا تجربة اقتناء هذه الأواني وجمعتهم الكثير من الأحداث حول موائد عليها نفس الصحون. هذه تعتبر تجربة متفردة لمفهوم وعملية "المتحفة" من اختيار الموضوع وطريقة الجمع وحتى العرض، والذي يركّز على الذاكرة الجمعية في السرد المتحفي. فاختيار موضوع الأواني ونظرة أستاذة ستنا لها كغرض مهم للأرشفة والحفظ والعرض يسوق مفهوم التراث لأبعاد أوسع لا تظهر عادة في المساحات المتحفية المؤسسية.
صورة الغلاف والمعرض © زينب جعفر
قرية ود رحوم، نموذج لصناعة النسيج
قرية ود رحوم، نموذج لصناعة النسيج
تقع قرية ود رحوم جنوب مدينة رفاعة على بعد كيلومترين تقريباً، وهي من القرى التي توجد بها مجموعة من القطع والآثار تعود إلى فترة الدولة المهدية، أي أواخر القرن التاسع عشر. ما يميز قرية ود رحوم هو اشتهارها بصناعة النسيج اليدوي في ولاية الجزيرة وغيرها من الولايات الأخرى، مما جعلها تتسم بسمعة طيبة بسبب جودة منتجاتها القطنية مثل (الفراد والقنجا والشالات وجلاليب الدمور وغير ذلك من المنسوجات القطنية). بالإضافة للمناسج، تُوجد بالقرية مجموعة من القطع الأثرية من فترة المهدية مثل السيوف والحراب والمراحيك التي كانت تستخدم في طحن الذرة، هذا بالإضافة إلى دوكة الطين وغير ذلك من الآثار. أما مجموعة المناسج اليدوية التي كان يَعتَمِد عليها الآباء والجدود الذين عايشوا فترة المهدية في كسب المعاش فقد تناقلتها الأجيال ولا تزال مصدراً من مصادر الرزق، وذلك بعد أن توقفت لعشرات السنين حتى جاءت منظمة التدفق الخيرية التي أرادت أن تفتتح مكتباً لها بشرق الجزيرة كفرع من فروعها، واختارت قرية ود رحوم لتكون المستضيف لها، وبذلك تم بها افتتاح المكتب الفرعي الأول ليكون قبلة ومكاناً لحل المشاكل التي تواجه أصحاب المناسج والحرف اليدوية الأخرى الموجودة بالقرية؛ مثل ورش الحدادة والنجارة وأعمال التنجيد والصناعات الجلدية.
يتكون المنسج من العدة، وهي عبارة عن دفة وتوريق ودقاقات ونعلات وحردان، والحردان هي جزء مهم من العدة، وبدونه لا يتم التشغيل، يوضع في مكان بعيد منها ولذلك سُمِّي بالحَردان، وهناك أشياء أخرى مكملة للمنسج مثل المشط والماكوك أو المركب والبوص.
النص أعلاه من معرض مؤقت لمنظمة التدفق الخيرية في بيت الخليفة المجتمعي في العام ٢٠٢١م.
تقع قرية ود رحوم جنوب مدينة رفاعة على بعد كيلومترين تقريباً، وهي من القرى التي توجد بها مجموعة من القطع والآثار تعود إلى فترة الدولة المهدية، أي أواخر القرن التاسع عشر. ما يميز قرية ود رحوم هو اشتهارها بصناعة النسيج اليدوي في ولاية الجزيرة وغيرها من الولايات الأخرى، مما جعلها تتسم بسمعة طيبة بسبب جودة منتجاتها القطنية مثل (الفراد والقنجا والشالات وجلاليب الدمور وغير ذلك من المنسوجات القطنية). بالإضافة للمناسج، تُوجد بالقرية مجموعة من القطع الأثرية من فترة المهدية مثل السيوف والحراب والمراحيك التي كانت تستخدم في طحن الذرة، هذا بالإضافة إلى دوكة الطين وغير ذلك من الآثار. أما مجموعة المناسج اليدوية التي كان يَعتَمِد عليها الآباء والجدود الذين عايشوا فترة المهدية في كسب المعاش فقد تناقلتها الأجيال ولا تزال مصدراً من مصادر الرزق، وذلك بعد أن توقفت لعشرات السنين حتى جاءت منظمة التدفق الخيرية التي أرادت أن تفتتح مكتباً لها بشرق الجزيرة كفرع من فروعها، واختارت قرية ود رحوم لتكون المستضيف لها، وبذلك تم بها افتتاح المكتب الفرعي الأول ليكون قبلة ومكاناً لحل المشاكل التي تواجه أصحاب المناسج والحرف اليدوية الأخرى الموجودة بالقرية؛ مثل ورش الحدادة والنجارة وأعمال التنجيد والصناعات الجلدية.
يتكون المنسج من العدة، وهي عبارة عن دفة وتوريق ودقاقات ونعلات وحردان، والحردان هي جزء مهم من العدة، وبدونه لا يتم التشغيل، يوضع في مكان بعيد منها ولذلك سُمِّي بالحَردان، وهناك أشياء أخرى مكملة للمنسج مثل المشط والماكوك أو المركب والبوص.
النص أعلاه من معرض مؤقت لمنظمة التدفق الخيرية في بيت الخليفة المجتمعي في العام ٢٠٢١م.
تقع قرية ود رحوم جنوب مدينة رفاعة على بعد كيلومترين تقريباً، وهي من القرى التي توجد بها مجموعة من القطع والآثار تعود إلى فترة الدولة المهدية، أي أواخر القرن التاسع عشر. ما يميز قرية ود رحوم هو اشتهارها بصناعة النسيج اليدوي في ولاية الجزيرة وغيرها من الولايات الأخرى، مما جعلها تتسم بسمعة طيبة بسبب جودة منتجاتها القطنية مثل (الفراد والقنجا والشالات وجلاليب الدمور وغير ذلك من المنسوجات القطنية). بالإضافة للمناسج، تُوجد بالقرية مجموعة من القطع الأثرية من فترة المهدية مثل السيوف والحراب والمراحيك التي كانت تستخدم في طحن الذرة، هذا بالإضافة إلى دوكة الطين وغير ذلك من الآثار. أما مجموعة المناسج اليدوية التي كان يَعتَمِد عليها الآباء والجدود الذين عايشوا فترة المهدية في كسب المعاش فقد تناقلتها الأجيال ولا تزال مصدراً من مصادر الرزق، وذلك بعد أن توقفت لعشرات السنين حتى جاءت منظمة التدفق الخيرية التي أرادت أن تفتتح مكتباً لها بشرق الجزيرة كفرع من فروعها، واختارت قرية ود رحوم لتكون المستضيف لها، وبذلك تم بها افتتاح المكتب الفرعي الأول ليكون قبلة ومكاناً لحل المشاكل التي تواجه أصحاب المناسج والحرف اليدوية الأخرى الموجودة بالقرية؛ مثل ورش الحدادة والنجارة وأعمال التنجيد والصناعات الجلدية.
يتكون المنسج من العدة، وهي عبارة عن دفة وتوريق ودقاقات ونعلات وحردان، والحردان هي جزء مهم من العدة، وبدونه لا يتم التشغيل، يوضع في مكان بعيد منها ولذلك سُمِّي بالحَردان، وهناك أشياء أخرى مكملة للمنسج مثل المشط والماكوك أو المركب والبوص.
النص أعلاه من معرض مؤقت لمنظمة التدفق الخيرية في بيت الخليفة المجتمعي في العام ٢٠٢١م.
مرونة وعملية ثوب "توب" المرأة السودانية
مرونة وعملية ثوب "توب" المرأة السودانية
يعد التوب بلا شك أهم وأبرز قطعة في لبس المرأة السودانية، ولكونه الأكثر وضوحاً بينها، فهو الذي يكون دوماً موضع التعليق والاهتمام.وعلى الرغم من دوام بساطته فقد برعت المرأة في إبداع تصاميم متنوعة خلال نصف القرن الماضي.
كلمة توب أو ثوب في اللغة العربية هو المصطلح العام للملابس، ولكن عند المرأة السودانية فهو قطعة قماش بلا طبقات يتم ارتداِؤه خارجياً بطول 4 إلى 4.5 أمتار وعرض 2 متر، وقد يكون بألوان زاهية أو باهتة وفي الغالب مصنوع من القطن.
بالنسبة للمرأة فالتوب مؤشر للحالة الاجتماعية: فيتم التفريق به بين المرأة المتزوجة وغير المتزوجة، وتدل نوعيات التياب المختلفة على مستوى الثراء والرقي، وعلى الرغم من كثرة اغتراب السودانيين، فإن المرأة السودانية ترتدي توبها بفخر واعتزاز كرمز للهوية الوطنية.
التوب هو أكثر عناصر الزي الوطني للمرأة السودانية ديمومة واستمرارية، حيث اختفى كل من "الرحط" و"القرباب" ولكن بقي الثوب بسبب فوائده العديدة وجماله وقدرته على التكيف. وبالنسبة للمرأة الريفية يمكن أن يكون توبها: معطفها، الناموسية، وسلة لجمع القطن أو المحاصيل الأخرى، وغطاء نومها، أو الساتر الذي يمكن أن تُرضع وراءه طفلها في الأماكن العامة.
(مقتطف مأخوذ من الفصل "التوب السوداني" من كتاب "الأزياء الشعبية الإقليمية للسودان" للكاتبة جريزيلدا الطيب).
صورة الغلاف © أحمد الفاتح، ملامح فتاة بدوية من الأبالة، وسط دارفور، 08/13/2022
يعد التوب بلا شك أهم وأبرز قطعة في لبس المرأة السودانية، ولكونه الأكثر وضوحاً بينها، فهو الذي يكون دوماً موضع التعليق والاهتمام.وعلى الرغم من دوام بساطته فقد برعت المرأة في إبداع تصاميم متنوعة خلال نصف القرن الماضي.
كلمة توب أو ثوب في اللغة العربية هو المصطلح العام للملابس، ولكن عند المرأة السودانية فهو قطعة قماش بلا طبقات يتم ارتداِؤه خارجياً بطول 4 إلى 4.5 أمتار وعرض 2 متر، وقد يكون بألوان زاهية أو باهتة وفي الغالب مصنوع من القطن.
بالنسبة للمرأة فالتوب مؤشر للحالة الاجتماعية: فيتم التفريق به بين المرأة المتزوجة وغير المتزوجة، وتدل نوعيات التياب المختلفة على مستوى الثراء والرقي، وعلى الرغم من كثرة اغتراب السودانيين، فإن المرأة السودانية ترتدي توبها بفخر واعتزاز كرمز للهوية الوطنية.
التوب هو أكثر عناصر الزي الوطني للمرأة السودانية ديمومة واستمرارية، حيث اختفى كل من "الرحط" و"القرباب" ولكن بقي الثوب بسبب فوائده العديدة وجماله وقدرته على التكيف. وبالنسبة للمرأة الريفية يمكن أن يكون توبها: معطفها، الناموسية، وسلة لجمع القطن أو المحاصيل الأخرى، وغطاء نومها، أو الساتر الذي يمكن أن تُرضع وراءه طفلها في الأماكن العامة.
(مقتطف مأخوذ من الفصل "التوب السوداني" من كتاب "الأزياء الشعبية الإقليمية للسودان" للكاتبة جريزيلدا الطيب).
صورة الغلاف © أحمد الفاتح، ملامح فتاة بدوية من الأبالة، وسط دارفور، 08/13/2022
يعد التوب بلا شك أهم وأبرز قطعة في لبس المرأة السودانية، ولكونه الأكثر وضوحاً بينها، فهو الذي يكون دوماً موضع التعليق والاهتمام.وعلى الرغم من دوام بساطته فقد برعت المرأة في إبداع تصاميم متنوعة خلال نصف القرن الماضي.
كلمة توب أو ثوب في اللغة العربية هو المصطلح العام للملابس، ولكن عند المرأة السودانية فهو قطعة قماش بلا طبقات يتم ارتداِؤه خارجياً بطول 4 إلى 4.5 أمتار وعرض 2 متر، وقد يكون بألوان زاهية أو باهتة وفي الغالب مصنوع من القطن.
بالنسبة للمرأة فالتوب مؤشر للحالة الاجتماعية: فيتم التفريق به بين المرأة المتزوجة وغير المتزوجة، وتدل نوعيات التياب المختلفة على مستوى الثراء والرقي، وعلى الرغم من كثرة اغتراب السودانيين، فإن المرأة السودانية ترتدي توبها بفخر واعتزاز كرمز للهوية الوطنية.
التوب هو أكثر عناصر الزي الوطني للمرأة السودانية ديمومة واستمرارية، حيث اختفى كل من "الرحط" و"القرباب" ولكن بقي الثوب بسبب فوائده العديدة وجماله وقدرته على التكيف. وبالنسبة للمرأة الريفية يمكن أن يكون توبها: معطفها، الناموسية، وسلة لجمع القطن أو المحاصيل الأخرى، وغطاء نومها، أو الساتر الذي يمكن أن تُرضع وراءه طفلها في الأماكن العامة.
(مقتطف مأخوذ من الفصل "التوب السوداني" من كتاب "الأزياء الشعبية الإقليمية للسودان" للكاتبة جريزيلدا الطيب).
صورة الغلاف © أحمد الفاتح، ملامح فتاة بدوية من الأبالة، وسط دارفور، 08/13/2022
أصداف الودع
أصداف الودع
صدفتان، مكسورتان من الأعلى.
يتم استخدامها بكثرة في الزينة كزينة للشعر والملابس. كما أنها تستخدم في العرافة الشعبية، كما هو مشار إليه في أغنية صلاح بن البادية، وخاصة قراءة الطالع في الفضاءات النسائية.
© أمناء المتحف البريطاني. مشترك تحت رخصة المشاع الإبداعي - غير التجارية - المساهمة بالمثل 4.0 الدولية (CC BY-NC-SA 4.0).
ابحث عن مكان: أمارا ويست (النوبة)
تاريخ الاستحواذ: ٢٠١٦
صدفتان، مكسورتان من الأعلى.
يتم استخدامها بكثرة في الزينة كزينة للشعر والملابس. كما أنها تستخدم في العرافة الشعبية، كما هو مشار إليه في أغنية صلاح بن البادية، وخاصة قراءة الطالع في الفضاءات النسائية.
© أمناء المتحف البريطاني. مشترك تحت رخصة المشاع الإبداعي - غير التجارية - المساهمة بالمثل 4.0 الدولية (CC BY-NC-SA 4.0).
ابحث عن مكان: أمارا ويست (النوبة)
تاريخ الاستحواذ: ٢٠١٦
صدفتان، مكسورتان من الأعلى.
يتم استخدامها بكثرة في الزينة كزينة للشعر والملابس. كما أنها تستخدم في العرافة الشعبية، كما هو مشار إليه في أغنية صلاح بن البادية، وخاصة قراءة الطالع في الفضاءات النسائية.
© أمناء المتحف البريطاني. مشترك تحت رخصة المشاع الإبداعي - غير التجارية - المساهمة بالمثل 4.0 الدولية (CC BY-NC-SA 4.0).
ابحث عن مكان: أمارا ويست (النوبة)
تاريخ الاستحواذ: ٢٠١٦
أرشيفات حية
أرشيفات حية
نتناول فى هذه الحلقه تأثير الحرب الدائرة في السودان على سبل توثيق التراث الثقافي غير المادي بأشكاله الرسميه او المنظمه مثل المتاحف والمكتبات، والأشكال التقليدية الشعبية ومعايش الناس. سنتعرف من خلال الحلقة على طرق انتقال وحفظ الموروثات الثقافية غير المادية بين الأجيال المختلفة في حالتي السلم والحرب، وكيف يؤثر تهجير المجتمعات من أماكنها المعتادة أو الاصليه في عملية الانتقال دى.
ضيوف الحلقة:
سانديوس كودي: كاتب ومحاضر بجامعة الخرطوم
آسيا محمود: باحثة اجتماعية
آمنه الإدريسي: معمارية وباحثة مهتمة بالتراث الثقافي غير المادي وقائم على ارشيف خاص
محمد آدم أبو: موسيقي وشريك مؤسس لمشروع نقارة
أستاذة فاطمة محمد الحسن: مؤسسة متحف المرأة بدارفور، تسجيل
عمل على إنتاج الحلقة كل من:
التقديم: عزه محمد ورؤى اسماعيل
بحث وانتاج رؤى اسماعيل بمشاركة زينب عثمان وامنه الادريسى
ميكساج رؤى اسماعيل
موسيقى: الزين استديو
اداره: زينب عثمان
نتناول فى هذه الحلقه تأثير الحرب الدائرة في السودان على سبل توثيق التراث الثقافي غير المادي بأشكاله الرسميه او المنظمه مثل المتاحف والمكتبات، والأشكال التقليدية الشعبية ومعايش الناس. سنتعرف من خلال الحلقة على طرق انتقال وحفظ الموروثات الثقافية غير المادية بين الأجيال المختلفة في حالتي السلم والحرب، وكيف يؤثر تهجير المجتمعات من أماكنها المعتادة أو الاصليه في عملية الانتقال دى.
ضيوف الحلقة:
سانديوس كودي: كاتب ومحاضر بجامعة الخرطوم
آسيا محمود: باحثة اجتماعية
آمنه الإدريسي: معمارية وباحثة مهتمة بالتراث الثقافي غير المادي وقائم على ارشيف خاص
محمد آدم أبو: موسيقي وشريك مؤسس لمشروع نقارة
أستاذة فاطمة محمد الحسن: مؤسسة متحف المرأة بدارفور، تسجيل
عمل على إنتاج الحلقة كل من:
التقديم: عزه محمد ورؤى اسماعيل
بحث وانتاج رؤى اسماعيل بمشاركة زينب عثمان وامنه الادريسى
ميكساج رؤى اسماعيل
موسيقى: الزين استديو
اداره: زينب عثمان
نتناول فى هذه الحلقه تأثير الحرب الدائرة في السودان على سبل توثيق التراث الثقافي غير المادي بأشكاله الرسميه او المنظمه مثل المتاحف والمكتبات، والأشكال التقليدية الشعبية ومعايش الناس. سنتعرف من خلال الحلقة على طرق انتقال وحفظ الموروثات الثقافية غير المادية بين الأجيال المختلفة في حالتي السلم والحرب، وكيف يؤثر تهجير المجتمعات من أماكنها المعتادة أو الاصليه في عملية الانتقال دى.
ضيوف الحلقة:
سانديوس كودي: كاتب ومحاضر بجامعة الخرطوم
آسيا محمود: باحثة اجتماعية
آمنه الإدريسي: معمارية وباحثة مهتمة بالتراث الثقافي غير المادي وقائم على ارشيف خاص
محمد آدم أبو: موسيقي وشريك مؤسس لمشروع نقارة
أستاذة فاطمة محمد الحسن: مؤسسة متحف المرأة بدارفور، تسجيل
عمل على إنتاج الحلقة كل من:
التقديم: عزه محمد ورؤى اسماعيل
بحث وانتاج رؤى اسماعيل بمشاركة زينب عثمان وامنه الادريسى
ميكساج رؤى اسماعيل
موسيقى: الزين استديو
اداره: زينب عثمان
جزيرة توتي
جزيرة توتي
قصة صُمود جزيرة سُودانيَّة في وجهِ تحديات البقاء
المعرفة الجماعية
في عصر الذكاء الاصطناعي، يُعرَّف مصطلح التعليم الآلي بأنه عمليّة يتم فيها تغذية أجهزة الكمبيوتر بكميّات كبيرة من البيانات، ومن ثم من خلال الخوارزميات تقوم هذه الأجهزة بالتعرّف على أنماط معينة مما يمكّنها من جلب إجابات مفيدة لأسئلتنا.
أصبح الآن مصدر هذه المعلومات موضوع نقاش أخلاقيّ؛ حيث تدور تساؤلات حول مصدر المعلومات وموافقة أصحابها لاستخدامها من قبل أطرافٍ أخرى.
تُعرَّف عملية تجميع المعلومات من عدة أفراد للاستفادة منها بمفهوم "المعرفة الجماعية"، وهو ليس مفهوماً مُقتَصِراً على هذا العصر بل يمكن تتبّعه منذ القرن الثامن عشر، كذلك فقد تناوله أفلاطون في فكرة “ العقل الجماعي”.
و من أمثلة استخدام المعرفة الجماعية فقد كانت في عام ١٨٥٧، حيث قامت مجموعة من المثقفين البريطانيين بتجميع قاموس إنجليزي يحوي مجموعة شاملة من الكلمات، مع تفصيل التعريفات والاستخدامات، وذلك من خلال نشر نداءٍ لمتطوعين لإرسال كلمات من الكتب الموجودة بمكتباتِهم، مما أدى لتجميع أكثر من مليوني مرجع للكلمات. وحتى في عالم الأعمال اليوم تحاول الشركات تعزيز مفهوم المعرفة الجماعية وتبادلها بين الموظفين والاحتفاظ بها كرأس مال للشركة.
و مع ذلك فإن مفهوم "العقل الجماعي" والذي وصفه أفلاطون يسبق القرن الثامن عشر، فهو يُعدّ أحد سمات المجتمعات الإنسانية؛ إذ أن تجمّع مجموعة إنسانية للعيش في مكانٍ واحد لفترة طويلة من الزمن سيؤدي، بكلّ تأكيد، إلى تَكوِينِ نوعٍ من المعرفة الجماعية ممثلةً في مجموعة المعارف، الخبرات، المهارات، الممارسات والاعتقادات والتفاعل بينها، ويتمّ تطويرها وحفظها، ومن ثم نقلها عبر الأجيال.
يمكن تسميتها بـ"المعرفة الجمعية"، فعندما يشارك عدد كبير من الأفراد مهاراتهم ومعرفتهم، فإن المحصلة المعرفية تكون أقيم من مجرد جمع المعارف الفردية. ومن المهم الإشارة إلى عنصر المشاركة، لأنه، على الرغم من أن المجموعة تشترك في كثير من المعرفة، إلا أن هنالك مستوىً فرديّ من الخبرة يلعب دوراً جوهريَّاً في عمل المجموعة كوِحدَة متناسقة.
لكن كيف يقوم مجتمع معيّن بمشاركة المعرفة بين أعضائه إلى درجة أن الطفل قد يمتلك في سنٍّ مبكرة ثروة من المعرفة عن مجتمعه؟ يستمرّ الباحثون في دراسة المعرفة التقليديّة أو الأصلية من خلال منظور أنثروبولوجي. تشمل بعض الطرق لنقل هذا النوع من المعرفة سرد القصص، وهي وسيلة مهمة للتعليم والتعلّم في العديد من المجتمعات، وتعتمد على النقل الشفهي والاعتماد على الذاكرة الجمعية. يمكن أن تدور هذه القصص حول التاريخ المحلي، والحكمة، والمهارات، وفهم الأرض. وتُعتبر الأغاني، والرقصات، وصنع الحرف، والطقوس، وممارسة التقاليد طريقة أخرى تُعرف باسم "التعلم الظليّ" الذي ينطوي أساساً على مشاهدة الشباب لكبار السن وتقليد أفعالهم.
كل هذه الأنظمة الثقافية هي نتاج تراكمي للمعرفة المجتمعية والتفاعل النَشِط، والتي يتم تسخيرها لخدمة أهداف البقاء والازدهار للمجموعة. إنها متأصلة بشكل عميق في السياق الثقافي والاجتماعي والبيئي لتلك المجموعة، وغالبًا ما تعكس طريقتها الفريدة في فهم العالم والتفاعل معه. المعرفة محصورة جماعيًا بدلاً من أن يمتلكها فرد واحد، وتتطوَّر مع تكيف المجتمع مع التغيرات في بيئته ونمط حياته.
النهر صديق وليس عدو
تُعدّ مجتمع جزيرة توتي مثالًا بارزًا على كيفية احتفاظ المجتمعات بالمعرفة واستخدامها، على مرّ العقود، للبقاء على قيد الحياة في مواجهة مصاعب مثل الفيضانات الكبيرة.
تقع جزيرة توتي، التي تعدّ واحدة من أكبر الجزر الواقعة على نهر النيل، عند تقاطع النيل الأزرق والنيل الأبيض في قلب الخرطوم، وتبلغ مساحتها حوالي أربعة كيلومترات مربعة. وقد سُكنت الجزيرة منذ القرن الخامس عشر، لكن عالم الآثار البريطاني أركيل يعتقد أنها كانت مأهولةً في وقتٍ أبكر بسبب وجود قطع أثرية تعود إلى العصر الحجري الحديث على الجزيرة. تضم الجزيرة عدة مجموعات عرقية من جميع أنحاء السودان ومن الخارج. وقد جَلَبَت هذه المجموعات ثقافاتها وتقاليدها الفريدة التي تم نقلها من جيل إلى جيل.
على الرغم من موقعها في قلب العاصمة، فإن توتي ظلَّت على حالتها الريفية حتى وقت قريب. فقد شَكَّل اختلاف بنيتها التحتية، والشكل الريفي للحياة فيها، إلى وجود تباينٍ واضح بينها وبين بقيَّة أجزاء الخرطوم الواقعة على الضفة الأخرى من النهر، على بعد أمتارٍ قليلة. تَسَارعت خطوات التمدّن في الجزيرة من خلال المشاريع العمرانية، بالأخص جسر توتي، وهو الجسر الأول والأوحد الذي يربط الجزيرة ببقيَّة العاصمة؛ حيث كان التنقّل من وإلى الجزيرة يتم من خلال المراكب والعَبَّارات، ومما لاشَكَّ فيه أن تأثير كبري توتي على سكان الجزيرة كانَ كبيراً؛ حيث سَهُل الوصول للخدمات وفرص العمل، كما أدَّى إلى زيادة عدد السكان، وبالتالي، المزيد من التنوّع في التركيبة السُكَّانية. وإلى الآن، لا نُدركُ فعلاً حجم تأثيرات الجسر على بيئة الجزيرة ونسيجها الاجتماعي، أو عن الدور الذي لعبته ممارسات المعرفة التقليدية المحليَّة في التعامل مع ما جَدَّ من ظروف.
بالنسبة لسكَّان الجزيرة، يُعتَبر النيل هو مصدر الحياة، حيث تعتمد سُبُل عيشهم بشكلٍ أساسيّ على الزراعة والصيد، وتُزرع في تربتها الخصبة مجموعة متنوعة من الخضروات والفواكه، ويُشكِّل الصيد مصدر دخلٍ رئيسيّ للعديد من السكان الذين يعتمدون على النهر في جلب رزقهم اليومي.
ومع ذلك، عندما يبدأ موسم الفيضان، يُشكّل النيل مصدر تهديدٍ للجزيرة.
كان أوّل فيضان كبير مُسجَّل في الخرطوم في عام ١٨٧٨، عندما تخطَّى النيل الأزرق ضفافه، وألحق أضراراً بالمنازل وسبل العيش. وتسبَّب فيضانٌ آخر في الخرطوم عام ١٩٤٦ بأضرار واسعة على المباني والبنية التحتية، حيث وصلت مياه الفيضانات إلى ارتفاع ستة أمتار في بعض المناطق، مما ترك الآلاف بلا مأوى. وعام ١٩٨٨م، أدّى هطول أمطار غزيرة على مدى عدة أيام إلى حدوث فيضانات، وصل عدد ضحاياها أكثر من ألفٍ، ونزوح الآلاف من الناس. في الآونة الأخيرة، تسببت الأمطار الغزيرة عام ٢٠٢٠ في فيضانات أثَّرت على ما يقرب من مليون شخص، وفي الخرطوم وحدها، قُتل أكثر من مئة شخص، مع نزوح الآلاف، وتُقدَّر الأضرار بنحو ٤.٤ مليار دولار أمريكي، وكان مثيراً للاهتمام عدم ورود بلاغات عن أية إصابات في الجزيرة، ودُمِّر منزلان فقط، رغم تعرضها للفيضان أيضاً.
من الضروري فهم أن الفيضان ليس كارثة طبيعية بل هو من صُنع الإنسان، ذلك أن من طبيعة النهر الفيضان، كان يفيض منذ آلاف السنين على هذه الأرض، ثم جاء السُكَّان للعيش فيها لاحقاً. تزدهر الأرض وتعيش النباتات والحيوانات والإنسان، والنهر في حاجةٍ للتنفّس بالتمدّد، ذلك ما يقتضيه النظام البيئي الذي تعتمد عليه الحياة مما يجعل الفيضان أمراً حتميَّاً.
ومع مرور الزمن، فإن اتفاقية التعايش القائمة على الاستخدام المؤقت للأرض التي يفيض عليها النيل من قبل البشر تآكلت تدريجياً، وأصبح الخطّ الفاصل ما بين النهر والناس غير واضح. أصبح هؤلاء السكان الجُدد لا يفهمون النهر، كلّ ما يعرفونه أن على النهر أن يتدفَّق ممتثلاً أمام جلساتهم على ضفافه، وطقوس طمس المواليد الجُدد في مياهه للتبرّك. ولكن النهر يعود دوماً للمطالبة بأراضيه، ذلك ما يدركه جيداً سكان توتي، ويعرفون أنهم لا يستطيعون محاربة الفيضان أو تفاديه، ووجب عليهم تعلُّم كيفيَّة التعايش معه.
قصة تضامن
إن الطريقة التي تبنَّاها سكان توتي لمواجهة الفيضان هي حقاً مثيرة للاهتمام. يطلقون اسم "التايات" على نظام مراقبة الفيضان، وفي الأصل تعني "التاية" مكان التجمّع أو المأوى. ساعد فيضان عام ١٩٤٦ الشهير على تطوير ثقافة مواجهة الفيضان لدى سكان الجزيرة، حيث تعود القصة إلى عام ١٩٤٤ عندما أمر الحاكم الإنجليزي في ذلك الوقت بإخلاء الجزيرة لضمّها إلى أملاك كلية غردون التذكارية. رَفَض قاطنو الجزيرة الأمر، مما أدى لنشوب أزمة ثقة وصراع بين السكان والمستعمر. لاحقاً، في عام ١٩٤٦ عندما حدث الفيضان، رَفَضت سلطات الاحتلال تزويد السكان بالمعينات لحماية منازلهم وممتلكاتهم. نتيجة لذلك تحرك السكان اعتماداً على أنفسهم لحماية الجزيرة من تصاعد المياه باستخدام أجسادهم كحواجز صدٍّ للمياه.
كان التضامن المجتمعيّ الذي حدث آنذاك هو النواة التي كوَّنت نظام "التاية"، الذي تطور وأصبح كما نعرفه اليوم. إن ما نتج عن ذلك من الشعور بالاستقلالية، وارتباط السكان بالجزيرة، بالإضافة للعادات السودانية في التعاون في أوقات الأزمات، أو ما يُعرف بالـ"فزع" والـ"نفير"، هو الذي أدَّى بالأساس إلى تَطوُّر نظام التاية.
خَلَّدت أُغنية "عجبوني الليلة جو" ذكرى ما حدث في عام ١٩٤٦، وساهمت في توطين هذه القِيم.
يتضمن جزء من نظام التاية مجموعة من نقاط لمراقبة نشاط النهر عن بُعد، مُتوزِّعة عبر الجزيرة، وتقوم بتنظيمها مجموعة من الناس من أحياء مختلفة، كما أن للنساء دورٌ أيضاً في توفير الطعام والخدمات للمراقبين لضمان استمرارها. ويتم ربطها بآلية تنبيه مثل الطبول ومكبرات الصوت في المساجد، وكل شخصٍ في الجزيرة، سواءً كان كبيراً أم طفلاً، رجلاً أم امرأة، يعرف كيف يقيم السدود عندما ترتفع المياه إذا لزم عليه فعل ذلك.
يُعيَّن الشخص المسؤول عن إدارة التاية في بداية موسم الفيضان، ويتم تبادل مواقع نقاط المراقبة دورياً بين مجموعة مكونة من سبعة أشخاص. وكذلك يتم تطوير نظام التاية سنوياً، وتغيير مواقع المراقبة وفقاً لمتطلبات التطور العمراني وتغير أنماط الفيضان.
إحدى التغييرات الرئيسية كانت إنشاء لجنة الفيضانات لجزيرة توتي. تأسست اللجنة عام ١٩٨٨، ومنذ ذلك الحين أصبحت هيئة معترف بها من قبل الحكومة، تُنظِّم جميع مراحل إدارة الفيضانات وكذلك جميع أنواع التمويل والمساعدات. لم تذهب معرفة أهل توتي سدىً، وتم تكريمهم من قبل هيئة الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث UNISDR، كأبطال للحدّ من مخاطر الكوارث.
ما يحمله المستقبل
من المحتمل أن يكون تأثير الفيضانات المستقبلية مختلفًا بسبب عدة عوامل، بما في ذلك التوقعات المناخية التي تشير إلى ازدياد شدة هطول الأمطار مستقبلاً. علاوة على ذلك، فإن الحرب المستمرة التي اندلعت منذ منتصف أبريل ٢٠٢٣، والحصار المباشر الذي تعرض له سكان الجزيرة منذ ذلك الحين؛ قد أثر بشكلٍ كبير على قدرة السكان للاستجابة. وقد أدت الحرب أيضاً إلى نزوح عدد كبير من سكان الجزيرة، مما أثَّر بشكل مباشر على قدرة السكان على حماية أنفسهم من الفيضانات. كانت المعرفة الجماعية فيما يتعلق بالدفاع ضدَّ الفيضانات وعدد المستجيبين المتاحين هما أهم أصول المجتمع. وبالتالي، فإن الصراع الحالي يُعرِّض الممارسات القائمة على المعرفة التقليدية لخطرٍ كبير، مع عواقب لا رجعة فيها. ومع ذلك، ربما عندما يحين الوقت، ستكون دروس صمود سكان جزيرة توتي في مواجهة الكوارث الطبيعية المتفاقمة بسبب الأفعال البشرية، هي قصة ستظل تُحكى وتُذكر باستمرار.
صورة الغلاف: جزيرة توتي ٢٠١٧ © زينب جعفر
قصة صُمود جزيرة سُودانيَّة في وجهِ تحديات البقاء
المعرفة الجماعية
في عصر الذكاء الاصطناعي، يُعرَّف مصطلح التعليم الآلي بأنه عمليّة يتم فيها تغذية أجهزة الكمبيوتر بكميّات كبيرة من البيانات، ومن ثم من خلال الخوارزميات تقوم هذه الأجهزة بالتعرّف على أنماط معينة مما يمكّنها من جلب إجابات مفيدة لأسئلتنا.
أصبح الآن مصدر هذه المعلومات موضوع نقاش أخلاقيّ؛ حيث تدور تساؤلات حول مصدر المعلومات وموافقة أصحابها لاستخدامها من قبل أطرافٍ أخرى.
تُعرَّف عملية تجميع المعلومات من عدة أفراد للاستفادة منها بمفهوم "المعرفة الجماعية"، وهو ليس مفهوماً مُقتَصِراً على هذا العصر بل يمكن تتبّعه منذ القرن الثامن عشر، كذلك فقد تناوله أفلاطون في فكرة “ العقل الجماعي”.
و من أمثلة استخدام المعرفة الجماعية فقد كانت في عام ١٨٥٧، حيث قامت مجموعة من المثقفين البريطانيين بتجميع قاموس إنجليزي يحوي مجموعة شاملة من الكلمات، مع تفصيل التعريفات والاستخدامات، وذلك من خلال نشر نداءٍ لمتطوعين لإرسال كلمات من الكتب الموجودة بمكتباتِهم، مما أدى لتجميع أكثر من مليوني مرجع للكلمات. وحتى في عالم الأعمال اليوم تحاول الشركات تعزيز مفهوم المعرفة الجماعية وتبادلها بين الموظفين والاحتفاظ بها كرأس مال للشركة.
و مع ذلك فإن مفهوم "العقل الجماعي" والذي وصفه أفلاطون يسبق القرن الثامن عشر، فهو يُعدّ أحد سمات المجتمعات الإنسانية؛ إذ أن تجمّع مجموعة إنسانية للعيش في مكانٍ واحد لفترة طويلة من الزمن سيؤدي، بكلّ تأكيد، إلى تَكوِينِ نوعٍ من المعرفة الجماعية ممثلةً في مجموعة المعارف، الخبرات، المهارات، الممارسات والاعتقادات والتفاعل بينها، ويتمّ تطويرها وحفظها، ومن ثم نقلها عبر الأجيال.
يمكن تسميتها بـ"المعرفة الجمعية"، فعندما يشارك عدد كبير من الأفراد مهاراتهم ومعرفتهم، فإن المحصلة المعرفية تكون أقيم من مجرد جمع المعارف الفردية. ومن المهم الإشارة إلى عنصر المشاركة، لأنه، على الرغم من أن المجموعة تشترك في كثير من المعرفة، إلا أن هنالك مستوىً فرديّ من الخبرة يلعب دوراً جوهريَّاً في عمل المجموعة كوِحدَة متناسقة.
لكن كيف يقوم مجتمع معيّن بمشاركة المعرفة بين أعضائه إلى درجة أن الطفل قد يمتلك في سنٍّ مبكرة ثروة من المعرفة عن مجتمعه؟ يستمرّ الباحثون في دراسة المعرفة التقليديّة أو الأصلية من خلال منظور أنثروبولوجي. تشمل بعض الطرق لنقل هذا النوع من المعرفة سرد القصص، وهي وسيلة مهمة للتعليم والتعلّم في العديد من المجتمعات، وتعتمد على النقل الشفهي والاعتماد على الذاكرة الجمعية. يمكن أن تدور هذه القصص حول التاريخ المحلي، والحكمة، والمهارات، وفهم الأرض. وتُعتبر الأغاني، والرقصات، وصنع الحرف، والطقوس، وممارسة التقاليد طريقة أخرى تُعرف باسم "التعلم الظليّ" الذي ينطوي أساساً على مشاهدة الشباب لكبار السن وتقليد أفعالهم.
كل هذه الأنظمة الثقافية هي نتاج تراكمي للمعرفة المجتمعية والتفاعل النَشِط، والتي يتم تسخيرها لخدمة أهداف البقاء والازدهار للمجموعة. إنها متأصلة بشكل عميق في السياق الثقافي والاجتماعي والبيئي لتلك المجموعة، وغالبًا ما تعكس طريقتها الفريدة في فهم العالم والتفاعل معه. المعرفة محصورة جماعيًا بدلاً من أن يمتلكها فرد واحد، وتتطوَّر مع تكيف المجتمع مع التغيرات في بيئته ونمط حياته.
النهر صديق وليس عدو
تُعدّ مجتمع جزيرة توتي مثالًا بارزًا على كيفية احتفاظ المجتمعات بالمعرفة واستخدامها، على مرّ العقود، للبقاء على قيد الحياة في مواجهة مصاعب مثل الفيضانات الكبيرة.
تقع جزيرة توتي، التي تعدّ واحدة من أكبر الجزر الواقعة على نهر النيل، عند تقاطع النيل الأزرق والنيل الأبيض في قلب الخرطوم، وتبلغ مساحتها حوالي أربعة كيلومترات مربعة. وقد سُكنت الجزيرة منذ القرن الخامس عشر، لكن عالم الآثار البريطاني أركيل يعتقد أنها كانت مأهولةً في وقتٍ أبكر بسبب وجود قطع أثرية تعود إلى العصر الحجري الحديث على الجزيرة. تضم الجزيرة عدة مجموعات عرقية من جميع أنحاء السودان ومن الخارج. وقد جَلَبَت هذه المجموعات ثقافاتها وتقاليدها الفريدة التي تم نقلها من جيل إلى جيل.
على الرغم من موقعها في قلب العاصمة، فإن توتي ظلَّت على حالتها الريفية حتى وقت قريب. فقد شَكَّل اختلاف بنيتها التحتية، والشكل الريفي للحياة فيها، إلى وجود تباينٍ واضح بينها وبين بقيَّة أجزاء الخرطوم الواقعة على الضفة الأخرى من النهر، على بعد أمتارٍ قليلة. تَسَارعت خطوات التمدّن في الجزيرة من خلال المشاريع العمرانية، بالأخص جسر توتي، وهو الجسر الأول والأوحد الذي يربط الجزيرة ببقيَّة العاصمة؛ حيث كان التنقّل من وإلى الجزيرة يتم من خلال المراكب والعَبَّارات، ومما لاشَكَّ فيه أن تأثير كبري توتي على سكان الجزيرة كانَ كبيراً؛ حيث سَهُل الوصول للخدمات وفرص العمل، كما أدَّى إلى زيادة عدد السكان، وبالتالي، المزيد من التنوّع في التركيبة السُكَّانية. وإلى الآن، لا نُدركُ فعلاً حجم تأثيرات الجسر على بيئة الجزيرة ونسيجها الاجتماعي، أو عن الدور الذي لعبته ممارسات المعرفة التقليدية المحليَّة في التعامل مع ما جَدَّ من ظروف.
بالنسبة لسكَّان الجزيرة، يُعتَبر النيل هو مصدر الحياة، حيث تعتمد سُبُل عيشهم بشكلٍ أساسيّ على الزراعة والصيد، وتُزرع في تربتها الخصبة مجموعة متنوعة من الخضروات والفواكه، ويُشكِّل الصيد مصدر دخلٍ رئيسيّ للعديد من السكان الذين يعتمدون على النهر في جلب رزقهم اليومي.
ومع ذلك، عندما يبدأ موسم الفيضان، يُشكّل النيل مصدر تهديدٍ للجزيرة.
كان أوّل فيضان كبير مُسجَّل في الخرطوم في عام ١٨٧٨، عندما تخطَّى النيل الأزرق ضفافه، وألحق أضراراً بالمنازل وسبل العيش. وتسبَّب فيضانٌ آخر في الخرطوم عام ١٩٤٦ بأضرار واسعة على المباني والبنية التحتية، حيث وصلت مياه الفيضانات إلى ارتفاع ستة أمتار في بعض المناطق، مما ترك الآلاف بلا مأوى. وعام ١٩٨٨م، أدّى هطول أمطار غزيرة على مدى عدة أيام إلى حدوث فيضانات، وصل عدد ضحاياها أكثر من ألفٍ، ونزوح الآلاف من الناس. في الآونة الأخيرة، تسببت الأمطار الغزيرة عام ٢٠٢٠ في فيضانات أثَّرت على ما يقرب من مليون شخص، وفي الخرطوم وحدها، قُتل أكثر من مئة شخص، مع نزوح الآلاف، وتُقدَّر الأضرار بنحو ٤.٤ مليار دولار أمريكي، وكان مثيراً للاهتمام عدم ورود بلاغات عن أية إصابات في الجزيرة، ودُمِّر منزلان فقط، رغم تعرضها للفيضان أيضاً.
من الضروري فهم أن الفيضان ليس كارثة طبيعية بل هو من صُنع الإنسان، ذلك أن من طبيعة النهر الفيضان، كان يفيض منذ آلاف السنين على هذه الأرض، ثم جاء السُكَّان للعيش فيها لاحقاً. تزدهر الأرض وتعيش النباتات والحيوانات والإنسان، والنهر في حاجةٍ للتنفّس بالتمدّد، ذلك ما يقتضيه النظام البيئي الذي تعتمد عليه الحياة مما يجعل الفيضان أمراً حتميَّاً.
ومع مرور الزمن، فإن اتفاقية التعايش القائمة على الاستخدام المؤقت للأرض التي يفيض عليها النيل من قبل البشر تآكلت تدريجياً، وأصبح الخطّ الفاصل ما بين النهر والناس غير واضح. أصبح هؤلاء السكان الجُدد لا يفهمون النهر، كلّ ما يعرفونه أن على النهر أن يتدفَّق ممتثلاً أمام جلساتهم على ضفافه، وطقوس طمس المواليد الجُدد في مياهه للتبرّك. ولكن النهر يعود دوماً للمطالبة بأراضيه، ذلك ما يدركه جيداً سكان توتي، ويعرفون أنهم لا يستطيعون محاربة الفيضان أو تفاديه، ووجب عليهم تعلُّم كيفيَّة التعايش معه.
قصة تضامن
إن الطريقة التي تبنَّاها سكان توتي لمواجهة الفيضان هي حقاً مثيرة للاهتمام. يطلقون اسم "التايات" على نظام مراقبة الفيضان، وفي الأصل تعني "التاية" مكان التجمّع أو المأوى. ساعد فيضان عام ١٩٤٦ الشهير على تطوير ثقافة مواجهة الفيضان لدى سكان الجزيرة، حيث تعود القصة إلى عام ١٩٤٤ عندما أمر الحاكم الإنجليزي في ذلك الوقت بإخلاء الجزيرة لضمّها إلى أملاك كلية غردون التذكارية. رَفَض قاطنو الجزيرة الأمر، مما أدى لنشوب أزمة ثقة وصراع بين السكان والمستعمر. لاحقاً، في عام ١٩٤٦ عندما حدث الفيضان، رَفَضت سلطات الاحتلال تزويد السكان بالمعينات لحماية منازلهم وممتلكاتهم. نتيجة لذلك تحرك السكان اعتماداً على أنفسهم لحماية الجزيرة من تصاعد المياه باستخدام أجسادهم كحواجز صدٍّ للمياه.
كان التضامن المجتمعيّ الذي حدث آنذاك هو النواة التي كوَّنت نظام "التاية"، الذي تطور وأصبح كما نعرفه اليوم. إن ما نتج عن ذلك من الشعور بالاستقلالية، وارتباط السكان بالجزيرة، بالإضافة للعادات السودانية في التعاون في أوقات الأزمات، أو ما يُعرف بالـ"فزع" والـ"نفير"، هو الذي أدَّى بالأساس إلى تَطوُّر نظام التاية.
خَلَّدت أُغنية "عجبوني الليلة جو" ذكرى ما حدث في عام ١٩٤٦، وساهمت في توطين هذه القِيم.
يتضمن جزء من نظام التاية مجموعة من نقاط لمراقبة نشاط النهر عن بُعد، مُتوزِّعة عبر الجزيرة، وتقوم بتنظيمها مجموعة من الناس من أحياء مختلفة، كما أن للنساء دورٌ أيضاً في توفير الطعام والخدمات للمراقبين لضمان استمرارها. ويتم ربطها بآلية تنبيه مثل الطبول ومكبرات الصوت في المساجد، وكل شخصٍ في الجزيرة، سواءً كان كبيراً أم طفلاً، رجلاً أم امرأة، يعرف كيف يقيم السدود عندما ترتفع المياه إذا لزم عليه فعل ذلك.
يُعيَّن الشخص المسؤول عن إدارة التاية في بداية موسم الفيضان، ويتم تبادل مواقع نقاط المراقبة دورياً بين مجموعة مكونة من سبعة أشخاص. وكذلك يتم تطوير نظام التاية سنوياً، وتغيير مواقع المراقبة وفقاً لمتطلبات التطور العمراني وتغير أنماط الفيضان.
إحدى التغييرات الرئيسية كانت إنشاء لجنة الفيضانات لجزيرة توتي. تأسست اللجنة عام ١٩٨٨، ومنذ ذلك الحين أصبحت هيئة معترف بها من قبل الحكومة، تُنظِّم جميع مراحل إدارة الفيضانات وكذلك جميع أنواع التمويل والمساعدات. لم تذهب معرفة أهل توتي سدىً، وتم تكريمهم من قبل هيئة الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث UNISDR، كأبطال للحدّ من مخاطر الكوارث.
ما يحمله المستقبل
من المحتمل أن يكون تأثير الفيضانات المستقبلية مختلفًا بسبب عدة عوامل، بما في ذلك التوقعات المناخية التي تشير إلى ازدياد شدة هطول الأمطار مستقبلاً. علاوة على ذلك، فإن الحرب المستمرة التي اندلعت منذ منتصف أبريل ٢٠٢٣، والحصار المباشر الذي تعرض له سكان الجزيرة منذ ذلك الحين؛ قد أثر بشكلٍ كبير على قدرة السكان للاستجابة. وقد أدت الحرب أيضاً إلى نزوح عدد كبير من سكان الجزيرة، مما أثَّر بشكل مباشر على قدرة السكان على حماية أنفسهم من الفيضانات. كانت المعرفة الجماعية فيما يتعلق بالدفاع ضدَّ الفيضانات وعدد المستجيبين المتاحين هما أهم أصول المجتمع. وبالتالي، فإن الصراع الحالي يُعرِّض الممارسات القائمة على المعرفة التقليدية لخطرٍ كبير، مع عواقب لا رجعة فيها. ومع ذلك، ربما عندما يحين الوقت، ستكون دروس صمود سكان جزيرة توتي في مواجهة الكوارث الطبيعية المتفاقمة بسبب الأفعال البشرية، هي قصة ستظل تُحكى وتُذكر باستمرار.
صورة الغلاف: جزيرة توتي ٢٠١٧ © زينب جعفر
قصة صُمود جزيرة سُودانيَّة في وجهِ تحديات البقاء
المعرفة الجماعية
في عصر الذكاء الاصطناعي، يُعرَّف مصطلح التعليم الآلي بأنه عمليّة يتم فيها تغذية أجهزة الكمبيوتر بكميّات كبيرة من البيانات، ومن ثم من خلال الخوارزميات تقوم هذه الأجهزة بالتعرّف على أنماط معينة مما يمكّنها من جلب إجابات مفيدة لأسئلتنا.
أصبح الآن مصدر هذه المعلومات موضوع نقاش أخلاقيّ؛ حيث تدور تساؤلات حول مصدر المعلومات وموافقة أصحابها لاستخدامها من قبل أطرافٍ أخرى.
تُعرَّف عملية تجميع المعلومات من عدة أفراد للاستفادة منها بمفهوم "المعرفة الجماعية"، وهو ليس مفهوماً مُقتَصِراً على هذا العصر بل يمكن تتبّعه منذ القرن الثامن عشر، كذلك فقد تناوله أفلاطون في فكرة “ العقل الجماعي”.
و من أمثلة استخدام المعرفة الجماعية فقد كانت في عام ١٨٥٧، حيث قامت مجموعة من المثقفين البريطانيين بتجميع قاموس إنجليزي يحوي مجموعة شاملة من الكلمات، مع تفصيل التعريفات والاستخدامات، وذلك من خلال نشر نداءٍ لمتطوعين لإرسال كلمات من الكتب الموجودة بمكتباتِهم، مما أدى لتجميع أكثر من مليوني مرجع للكلمات. وحتى في عالم الأعمال اليوم تحاول الشركات تعزيز مفهوم المعرفة الجماعية وتبادلها بين الموظفين والاحتفاظ بها كرأس مال للشركة.
و مع ذلك فإن مفهوم "العقل الجماعي" والذي وصفه أفلاطون يسبق القرن الثامن عشر، فهو يُعدّ أحد سمات المجتمعات الإنسانية؛ إذ أن تجمّع مجموعة إنسانية للعيش في مكانٍ واحد لفترة طويلة من الزمن سيؤدي، بكلّ تأكيد، إلى تَكوِينِ نوعٍ من المعرفة الجماعية ممثلةً في مجموعة المعارف، الخبرات، المهارات، الممارسات والاعتقادات والتفاعل بينها، ويتمّ تطويرها وحفظها، ومن ثم نقلها عبر الأجيال.
يمكن تسميتها بـ"المعرفة الجمعية"، فعندما يشارك عدد كبير من الأفراد مهاراتهم ومعرفتهم، فإن المحصلة المعرفية تكون أقيم من مجرد جمع المعارف الفردية. ومن المهم الإشارة إلى عنصر المشاركة، لأنه، على الرغم من أن المجموعة تشترك في كثير من المعرفة، إلا أن هنالك مستوىً فرديّ من الخبرة يلعب دوراً جوهريَّاً في عمل المجموعة كوِحدَة متناسقة.
لكن كيف يقوم مجتمع معيّن بمشاركة المعرفة بين أعضائه إلى درجة أن الطفل قد يمتلك في سنٍّ مبكرة ثروة من المعرفة عن مجتمعه؟ يستمرّ الباحثون في دراسة المعرفة التقليديّة أو الأصلية من خلال منظور أنثروبولوجي. تشمل بعض الطرق لنقل هذا النوع من المعرفة سرد القصص، وهي وسيلة مهمة للتعليم والتعلّم في العديد من المجتمعات، وتعتمد على النقل الشفهي والاعتماد على الذاكرة الجمعية. يمكن أن تدور هذه القصص حول التاريخ المحلي، والحكمة، والمهارات، وفهم الأرض. وتُعتبر الأغاني، والرقصات، وصنع الحرف، والطقوس، وممارسة التقاليد طريقة أخرى تُعرف باسم "التعلم الظليّ" الذي ينطوي أساساً على مشاهدة الشباب لكبار السن وتقليد أفعالهم.
كل هذه الأنظمة الثقافية هي نتاج تراكمي للمعرفة المجتمعية والتفاعل النَشِط، والتي يتم تسخيرها لخدمة أهداف البقاء والازدهار للمجموعة. إنها متأصلة بشكل عميق في السياق الثقافي والاجتماعي والبيئي لتلك المجموعة، وغالبًا ما تعكس طريقتها الفريدة في فهم العالم والتفاعل معه. المعرفة محصورة جماعيًا بدلاً من أن يمتلكها فرد واحد، وتتطوَّر مع تكيف المجتمع مع التغيرات في بيئته ونمط حياته.
النهر صديق وليس عدو
تُعدّ مجتمع جزيرة توتي مثالًا بارزًا على كيفية احتفاظ المجتمعات بالمعرفة واستخدامها، على مرّ العقود، للبقاء على قيد الحياة في مواجهة مصاعب مثل الفيضانات الكبيرة.
تقع جزيرة توتي، التي تعدّ واحدة من أكبر الجزر الواقعة على نهر النيل، عند تقاطع النيل الأزرق والنيل الأبيض في قلب الخرطوم، وتبلغ مساحتها حوالي أربعة كيلومترات مربعة. وقد سُكنت الجزيرة منذ القرن الخامس عشر، لكن عالم الآثار البريطاني أركيل يعتقد أنها كانت مأهولةً في وقتٍ أبكر بسبب وجود قطع أثرية تعود إلى العصر الحجري الحديث على الجزيرة. تضم الجزيرة عدة مجموعات عرقية من جميع أنحاء السودان ومن الخارج. وقد جَلَبَت هذه المجموعات ثقافاتها وتقاليدها الفريدة التي تم نقلها من جيل إلى جيل.
على الرغم من موقعها في قلب العاصمة، فإن توتي ظلَّت على حالتها الريفية حتى وقت قريب. فقد شَكَّل اختلاف بنيتها التحتية، والشكل الريفي للحياة فيها، إلى وجود تباينٍ واضح بينها وبين بقيَّة أجزاء الخرطوم الواقعة على الضفة الأخرى من النهر، على بعد أمتارٍ قليلة. تَسَارعت خطوات التمدّن في الجزيرة من خلال المشاريع العمرانية، بالأخص جسر توتي، وهو الجسر الأول والأوحد الذي يربط الجزيرة ببقيَّة العاصمة؛ حيث كان التنقّل من وإلى الجزيرة يتم من خلال المراكب والعَبَّارات، ومما لاشَكَّ فيه أن تأثير كبري توتي على سكان الجزيرة كانَ كبيراً؛ حيث سَهُل الوصول للخدمات وفرص العمل، كما أدَّى إلى زيادة عدد السكان، وبالتالي، المزيد من التنوّع في التركيبة السُكَّانية. وإلى الآن، لا نُدركُ فعلاً حجم تأثيرات الجسر على بيئة الجزيرة ونسيجها الاجتماعي، أو عن الدور الذي لعبته ممارسات المعرفة التقليدية المحليَّة في التعامل مع ما جَدَّ من ظروف.
بالنسبة لسكَّان الجزيرة، يُعتَبر النيل هو مصدر الحياة، حيث تعتمد سُبُل عيشهم بشكلٍ أساسيّ على الزراعة والصيد، وتُزرع في تربتها الخصبة مجموعة متنوعة من الخضروات والفواكه، ويُشكِّل الصيد مصدر دخلٍ رئيسيّ للعديد من السكان الذين يعتمدون على النهر في جلب رزقهم اليومي.
ومع ذلك، عندما يبدأ موسم الفيضان، يُشكّل النيل مصدر تهديدٍ للجزيرة.
كان أوّل فيضان كبير مُسجَّل في الخرطوم في عام ١٨٧٨، عندما تخطَّى النيل الأزرق ضفافه، وألحق أضراراً بالمنازل وسبل العيش. وتسبَّب فيضانٌ آخر في الخرطوم عام ١٩٤٦ بأضرار واسعة على المباني والبنية التحتية، حيث وصلت مياه الفيضانات إلى ارتفاع ستة أمتار في بعض المناطق، مما ترك الآلاف بلا مأوى. وعام ١٩٨٨م، أدّى هطول أمطار غزيرة على مدى عدة أيام إلى حدوث فيضانات، وصل عدد ضحاياها أكثر من ألفٍ، ونزوح الآلاف من الناس. في الآونة الأخيرة، تسببت الأمطار الغزيرة عام ٢٠٢٠ في فيضانات أثَّرت على ما يقرب من مليون شخص، وفي الخرطوم وحدها، قُتل أكثر من مئة شخص، مع نزوح الآلاف، وتُقدَّر الأضرار بنحو ٤.٤ مليار دولار أمريكي، وكان مثيراً للاهتمام عدم ورود بلاغات عن أية إصابات في الجزيرة، ودُمِّر منزلان فقط، رغم تعرضها للفيضان أيضاً.
من الضروري فهم أن الفيضان ليس كارثة طبيعية بل هو من صُنع الإنسان، ذلك أن من طبيعة النهر الفيضان، كان يفيض منذ آلاف السنين على هذه الأرض، ثم جاء السُكَّان للعيش فيها لاحقاً. تزدهر الأرض وتعيش النباتات والحيوانات والإنسان، والنهر في حاجةٍ للتنفّس بالتمدّد، ذلك ما يقتضيه النظام البيئي الذي تعتمد عليه الحياة مما يجعل الفيضان أمراً حتميَّاً.
ومع مرور الزمن، فإن اتفاقية التعايش القائمة على الاستخدام المؤقت للأرض التي يفيض عليها النيل من قبل البشر تآكلت تدريجياً، وأصبح الخطّ الفاصل ما بين النهر والناس غير واضح. أصبح هؤلاء السكان الجُدد لا يفهمون النهر، كلّ ما يعرفونه أن على النهر أن يتدفَّق ممتثلاً أمام جلساتهم على ضفافه، وطقوس طمس المواليد الجُدد في مياهه للتبرّك. ولكن النهر يعود دوماً للمطالبة بأراضيه، ذلك ما يدركه جيداً سكان توتي، ويعرفون أنهم لا يستطيعون محاربة الفيضان أو تفاديه، ووجب عليهم تعلُّم كيفيَّة التعايش معه.
قصة تضامن
إن الطريقة التي تبنَّاها سكان توتي لمواجهة الفيضان هي حقاً مثيرة للاهتمام. يطلقون اسم "التايات" على نظام مراقبة الفيضان، وفي الأصل تعني "التاية" مكان التجمّع أو المأوى. ساعد فيضان عام ١٩٤٦ الشهير على تطوير ثقافة مواجهة الفيضان لدى سكان الجزيرة، حيث تعود القصة إلى عام ١٩٤٤ عندما أمر الحاكم الإنجليزي في ذلك الوقت بإخلاء الجزيرة لضمّها إلى أملاك كلية غردون التذكارية. رَفَض قاطنو الجزيرة الأمر، مما أدى لنشوب أزمة ثقة وصراع بين السكان والمستعمر. لاحقاً، في عام ١٩٤٦ عندما حدث الفيضان، رَفَضت سلطات الاحتلال تزويد السكان بالمعينات لحماية منازلهم وممتلكاتهم. نتيجة لذلك تحرك السكان اعتماداً على أنفسهم لحماية الجزيرة من تصاعد المياه باستخدام أجسادهم كحواجز صدٍّ للمياه.
كان التضامن المجتمعيّ الذي حدث آنذاك هو النواة التي كوَّنت نظام "التاية"، الذي تطور وأصبح كما نعرفه اليوم. إن ما نتج عن ذلك من الشعور بالاستقلالية، وارتباط السكان بالجزيرة، بالإضافة للعادات السودانية في التعاون في أوقات الأزمات، أو ما يُعرف بالـ"فزع" والـ"نفير"، هو الذي أدَّى بالأساس إلى تَطوُّر نظام التاية.
خَلَّدت أُغنية "عجبوني الليلة جو" ذكرى ما حدث في عام ١٩٤٦، وساهمت في توطين هذه القِيم.
يتضمن جزء من نظام التاية مجموعة من نقاط لمراقبة نشاط النهر عن بُعد، مُتوزِّعة عبر الجزيرة، وتقوم بتنظيمها مجموعة من الناس من أحياء مختلفة، كما أن للنساء دورٌ أيضاً في توفير الطعام والخدمات للمراقبين لضمان استمرارها. ويتم ربطها بآلية تنبيه مثل الطبول ومكبرات الصوت في المساجد، وكل شخصٍ في الجزيرة، سواءً كان كبيراً أم طفلاً، رجلاً أم امرأة، يعرف كيف يقيم السدود عندما ترتفع المياه إذا لزم عليه فعل ذلك.
يُعيَّن الشخص المسؤول عن إدارة التاية في بداية موسم الفيضان، ويتم تبادل مواقع نقاط المراقبة دورياً بين مجموعة مكونة من سبعة أشخاص. وكذلك يتم تطوير نظام التاية سنوياً، وتغيير مواقع المراقبة وفقاً لمتطلبات التطور العمراني وتغير أنماط الفيضان.
إحدى التغييرات الرئيسية كانت إنشاء لجنة الفيضانات لجزيرة توتي. تأسست اللجنة عام ١٩٨٨، ومنذ ذلك الحين أصبحت هيئة معترف بها من قبل الحكومة، تُنظِّم جميع مراحل إدارة الفيضانات وكذلك جميع أنواع التمويل والمساعدات. لم تذهب معرفة أهل توتي سدىً، وتم تكريمهم من قبل هيئة الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث UNISDR، كأبطال للحدّ من مخاطر الكوارث.
ما يحمله المستقبل
من المحتمل أن يكون تأثير الفيضانات المستقبلية مختلفًا بسبب عدة عوامل، بما في ذلك التوقعات المناخية التي تشير إلى ازدياد شدة هطول الأمطار مستقبلاً. علاوة على ذلك، فإن الحرب المستمرة التي اندلعت منذ منتصف أبريل ٢٠٢٣، والحصار المباشر الذي تعرض له سكان الجزيرة منذ ذلك الحين؛ قد أثر بشكلٍ كبير على قدرة السكان للاستجابة. وقد أدت الحرب أيضاً إلى نزوح عدد كبير من سكان الجزيرة، مما أثَّر بشكل مباشر على قدرة السكان على حماية أنفسهم من الفيضانات. كانت المعرفة الجماعية فيما يتعلق بالدفاع ضدَّ الفيضانات وعدد المستجيبين المتاحين هما أهم أصول المجتمع. وبالتالي، فإن الصراع الحالي يُعرِّض الممارسات القائمة على المعرفة التقليدية لخطرٍ كبير، مع عواقب لا رجعة فيها. ومع ذلك، ربما عندما يحين الوقت، ستكون دروس صمود سكان جزيرة توتي في مواجهة الكوارث الطبيعية المتفاقمة بسبب الأفعال البشرية، هي قصة ستظل تُحكى وتُذكر باستمرار.
صورة الغلاف: جزيرة توتي ٢٠١٧ © زينب جعفر