فضاءات السلام والحرب
الحياة مليئة بالتعقيدات. يمكن أن يوجد السلام والصراع في مكان واحد سواء كان ذلك تحت شجرة أو في قاعة محكمة أو حتى في حلبة مصارعة.
مصارعة النوبة
مصارعة النوبة
كيف تحولت المصارعة السودانية من طقس ثقافي بجبال النوبة إلى رياضة شعبية واسعة الانتشار؟
بقلم: مجاهد الدومة
نُشرت لأول مرة بموقع (بيم ريبورتس) بتاريخ ١/١٢/٢٠٢٢
للوهلة الأولى التي تسمع فيها هتافات وتشجيع الجمهور، قد تعتقد أنك في حدث يخص كرة القدم، ولكن ما إن تقترب للساحة التي يحفها المشجعون، حتى ينكشف الأمر، فهناك مصارعان يتوسطان ساحة مفروشة بالرمل، ويتعاركان بالأيدي في سبيل إسقاط المنافس أرضاً والفوز بإحدى جولات المصارعة السودانية (الصُراع).
وللمصارعة (الصُّراع) تاريخ ضارب القدم في جنوب كردفان (إقليم جبال النوبة)، حيث بدأت من هناك كممارسة ثقافية وجزء من هوية المجموعات القبلية المختلفة وهي ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية كذلك.
ارتبط الصُراع في الأساس بالاحتفالات والمهرجانات المصاحبة لموسم الحصاد؛ ما بين أغسطس وديسمبر من كل عام. حيث تتضمن عرضاً فنياً يقدمه المتصارعون قبل المباراة. وجزء من هذه الثقافة، أن لكل مجموعة قبلية عدداً من المصارعين الشُبان التي تحرص على تدريبهم وخلق نظام غذائي متكامل (يتضمن اللبن الطازج واللحوم والعسل والسمسم) حتى يتمكنوا من منافسة المصارعين من المجموعات القبلية الأخرى.
فضاءات جديدة
مع الحروب الأهلية المتواترة التي شهدها السودان، والتي كان إقليم جنوب كردفان ضمن نطاقها، فإن الكثيرين بدأوا في النزوح منذ السبعينات، هرباً من ويلات الحروب، وبحثاً عن مساحات جديدة وآمنة. وحملت حركة النزوح، التي كانت إلى عدد من الولايات الأخرى، ولكنها تمركزت في العاصمة الخرطوم وأطرافها بصورة كبيرة، علاوة على تراث وثقافة وطقوس المجموعات النازحة، مثل الرقصات ومنها (الكرنك، الكمبلا) وكذلك المصارعة. لتلقى الأخيرة إقبالاً واسعاً كرياضة، ولاحقاً انشأت العديد من حلبات المصارعة في منطقة الحاج يوسف (شرق النيل) ومنطقة أبو حمد (مدينة أمدرمان) حيث يتجمع فيها جمهورمتنوع من السودانيين والأجانب مرتين كل أسبوع من أجل الفرجة وتشجيع المصارعين.
صاحب تحول المصارعة من كونها ممارسة ثقافية إلى رياضة تغييراً في بعض قواعدها، وحتى الطريقة التي يتزين بها المصارعون (الفرسان كما يطلق عليهم في جبال النوبة) وأصبح لهذه الرياضة قوانين وقواعد تحكمها، كما وأنه تأسس اتحاد المصارعة السودانية الذي يشرف عليها. وصار انتماء اللاعبين إلى أندية وليس إلى مجموعاتهم القبيلة التي يتحدرون منها.
ونظراً للتشابه الكبير بين المصارعة السودانية ومصارعة السومو اليابانية، فقد شهدت ساحات المصارعة السودانية مشاركة بعض اليابانيين فيها، ومن ضمنهم الدبلوماسي الياباني ياسوهيرو موروتاتسو في عدة مناسبات.
في مارس 2022 اختتمت بمدينة خشم القربة (ولاية كسلا) الدورة الخامسة لبطولة الجمهورية للمصارعة. الفعالية التي بدأ الاتحاد الرياضي السوداني للمصارعة في تنظيمها لأول مرة في العام 2017م بمدينة الخرطوم، لتصبح بعدها محفلاً سنوياً شهدته كل من: ولايات القضارف، كسلا، النيل الأزرق ثم كسلا مرة أخرى في مارس 2022م. حيث جاءت البطولة تحت شعار “بالمصارعة نعزز السلام” وشاركت فيها ست ولايات؛ وهي: جنوب كردفان – النيل الأبيض – القضارف – الخرطوم – البحر الأحمر وكسلا) فيما اعتذرت ولايات غرب وشمال كردفان، وسنار والشمالية والنيل الأزرق.
مشاركات دولية
خلال الأعوام الماضية، شارك منتخب السودان للمصارعة في عدد من البطولات الأفريقية والعربية، واستطاع المنتخب، أن يظفر بعدد مقدر من التتويجات والميداليات؛ ميداليتين برونزيتين في البطولة الأفريقية في نيجيريا عام 2018م، وخمس ميداليات أخرى بالبطولة العربية في شرم الشيخ (جمهورية مصر العربية). وعزز المنتخب من خبرته ومشاركته العالمية ليتوج ذلك بحصد 12 ميدالية في البطولة العربية 2019م وبطولة إبراهيم مصطفى الدولية.
وشهد مايو الماضي اختراقاً جديداً للمصارعة السودانية في المحافل الدولية، حيث حققت لاعبة المصارعة السودانية، باتريسيا سيف الدين، وهي أول مصارعة تشارك في بطولة خارجية، المركز الثالث والميدالية البرونزية في وزن 68 كجم خلال البطولة الأفريقية التي استضافتها المغرب بمشاركة 34 دولة.
وتجدر الإشارة إلى أن باتريسيا هي واحدة ضمن فتيات كثر انخرطنْ في رياضة المصارعة، ضمن مشروع اكتشاف المواهب، البرنامج الذي ينظم بشراكة بين اللجنة الأولمبية الدولية والاتحادات الدولية، الأمر الذي استفاد منه اتحاد المصارعة في العام 2018م. وحجزت باتريسيا أحد المراكز الأولى ضمن برنامج المواهب، وهي تخوض استعداداتٍ للمشاركة في أولمبياد باريس 2024م.
أجيال جديدة
عزز ازدهار المصارعة وقدرتها على خلق جمهور من كل الفئات العمرية من ضرورة وجود مؤسسات ترعى وتقدم التدريب للأجيال الشابة من الجنسين، وهو ما شرع فيه اتحاد المصارعة بتنظيمه دورة الفنون القتالية للبنين والبنات (ما بين 7 – 19 سنة) في سبيل تطوير رياضة المصارعة عبر توفير التدريب والمهارات اللازمة لها.
وشهد يوليو من العام الماضي، إقامة الدورة الخامسة من مشروع مدرسة الفنون القتالية، المشروع الذي يستهدف طلاب وطالبات المدارس، حيث شارك ١٥٠ طالباً وطالبة من مدرستي الوحدة الوطنية أساس بنين وبنات (شرق النيل). وينفذ المشروع بواسطة الاتحاد الرياضي السوداني للمصارعة عن طريقة شراكة مع المركز الدولي للفنون القتالية (دولة كوريا الجنوبية) تحت رعاية منظمة اليونسكو.
انتشار المصارعة وتحولها من نشاط اجتماعي وطقوسي ارتبط بمواسم الحصاد والاحتفالات في إقليم جبال النوبة، إلى رياضة تنتشر في أرجاء السودان المختلفة، ويتابعها جمهور متنوع، يُقدّم ملمحاً عن التداخل الثقافي بين كقيمة تعتمد على انفتاح هذه الثقافات على بعضها البعض.
يعرض الفيديو لقطات من مهرجان النوبة ٢٠٢٠ الذي أقيم في الخرطوم، وتضمن المهرجان الرقص التقليدي ومصارعة النوبة التقليدية، وهي رياضة شعبية تجذب مئات الأشخاص كل أسبوع لمشاهدتها. تم تصويره من قبل ابراهيم سنوب لمشروع المتاحف المجتمعية في غرب السودان
صورة الغلاف: كل يوم جمعة، تجري المصارعة السودانية بين قبائل النوبة وجنوب السودان في حاج يوسف © محمد عثمان، الخرطوم
كيف تحولت المصارعة السودانية من طقس ثقافي بجبال النوبة إلى رياضة شعبية واسعة الانتشار؟
بقلم: مجاهد الدومة
نُشرت لأول مرة بموقع (بيم ريبورتس) بتاريخ ١/١٢/٢٠٢٢
للوهلة الأولى التي تسمع فيها هتافات وتشجيع الجمهور، قد تعتقد أنك في حدث يخص كرة القدم، ولكن ما إن تقترب للساحة التي يحفها المشجعون، حتى ينكشف الأمر، فهناك مصارعان يتوسطان ساحة مفروشة بالرمل، ويتعاركان بالأيدي في سبيل إسقاط المنافس أرضاً والفوز بإحدى جولات المصارعة السودانية (الصُراع).
وللمصارعة (الصُّراع) تاريخ ضارب القدم في جنوب كردفان (إقليم جبال النوبة)، حيث بدأت من هناك كممارسة ثقافية وجزء من هوية المجموعات القبلية المختلفة وهي ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية كذلك.
ارتبط الصُراع في الأساس بالاحتفالات والمهرجانات المصاحبة لموسم الحصاد؛ ما بين أغسطس وديسمبر من كل عام. حيث تتضمن عرضاً فنياً يقدمه المتصارعون قبل المباراة. وجزء من هذه الثقافة، أن لكل مجموعة قبلية عدداً من المصارعين الشُبان التي تحرص على تدريبهم وخلق نظام غذائي متكامل (يتضمن اللبن الطازج واللحوم والعسل والسمسم) حتى يتمكنوا من منافسة المصارعين من المجموعات القبلية الأخرى.
فضاءات جديدة
مع الحروب الأهلية المتواترة التي شهدها السودان، والتي كان إقليم جنوب كردفان ضمن نطاقها، فإن الكثيرين بدأوا في النزوح منذ السبعينات، هرباً من ويلات الحروب، وبحثاً عن مساحات جديدة وآمنة. وحملت حركة النزوح، التي كانت إلى عدد من الولايات الأخرى، ولكنها تمركزت في العاصمة الخرطوم وأطرافها بصورة كبيرة، علاوة على تراث وثقافة وطقوس المجموعات النازحة، مثل الرقصات ومنها (الكرنك، الكمبلا) وكذلك المصارعة. لتلقى الأخيرة إقبالاً واسعاً كرياضة، ولاحقاً انشأت العديد من حلبات المصارعة في منطقة الحاج يوسف (شرق النيل) ومنطقة أبو حمد (مدينة أمدرمان) حيث يتجمع فيها جمهورمتنوع من السودانيين والأجانب مرتين كل أسبوع من أجل الفرجة وتشجيع المصارعين.
صاحب تحول المصارعة من كونها ممارسة ثقافية إلى رياضة تغييراً في بعض قواعدها، وحتى الطريقة التي يتزين بها المصارعون (الفرسان كما يطلق عليهم في جبال النوبة) وأصبح لهذه الرياضة قوانين وقواعد تحكمها، كما وأنه تأسس اتحاد المصارعة السودانية الذي يشرف عليها. وصار انتماء اللاعبين إلى أندية وليس إلى مجموعاتهم القبيلة التي يتحدرون منها.
ونظراً للتشابه الكبير بين المصارعة السودانية ومصارعة السومو اليابانية، فقد شهدت ساحات المصارعة السودانية مشاركة بعض اليابانيين فيها، ومن ضمنهم الدبلوماسي الياباني ياسوهيرو موروتاتسو في عدة مناسبات.
في مارس 2022 اختتمت بمدينة خشم القربة (ولاية كسلا) الدورة الخامسة لبطولة الجمهورية للمصارعة. الفعالية التي بدأ الاتحاد الرياضي السوداني للمصارعة في تنظيمها لأول مرة في العام 2017م بمدينة الخرطوم، لتصبح بعدها محفلاً سنوياً شهدته كل من: ولايات القضارف، كسلا، النيل الأزرق ثم كسلا مرة أخرى في مارس 2022م. حيث جاءت البطولة تحت شعار “بالمصارعة نعزز السلام” وشاركت فيها ست ولايات؛ وهي: جنوب كردفان – النيل الأبيض – القضارف – الخرطوم – البحر الأحمر وكسلا) فيما اعتذرت ولايات غرب وشمال كردفان، وسنار والشمالية والنيل الأزرق.
مشاركات دولية
خلال الأعوام الماضية، شارك منتخب السودان للمصارعة في عدد من البطولات الأفريقية والعربية، واستطاع المنتخب، أن يظفر بعدد مقدر من التتويجات والميداليات؛ ميداليتين برونزيتين في البطولة الأفريقية في نيجيريا عام 2018م، وخمس ميداليات أخرى بالبطولة العربية في شرم الشيخ (جمهورية مصر العربية). وعزز المنتخب من خبرته ومشاركته العالمية ليتوج ذلك بحصد 12 ميدالية في البطولة العربية 2019م وبطولة إبراهيم مصطفى الدولية.
وشهد مايو الماضي اختراقاً جديداً للمصارعة السودانية في المحافل الدولية، حيث حققت لاعبة المصارعة السودانية، باتريسيا سيف الدين، وهي أول مصارعة تشارك في بطولة خارجية، المركز الثالث والميدالية البرونزية في وزن 68 كجم خلال البطولة الأفريقية التي استضافتها المغرب بمشاركة 34 دولة.
وتجدر الإشارة إلى أن باتريسيا هي واحدة ضمن فتيات كثر انخرطنْ في رياضة المصارعة، ضمن مشروع اكتشاف المواهب، البرنامج الذي ينظم بشراكة بين اللجنة الأولمبية الدولية والاتحادات الدولية، الأمر الذي استفاد منه اتحاد المصارعة في العام 2018م. وحجزت باتريسيا أحد المراكز الأولى ضمن برنامج المواهب، وهي تخوض استعداداتٍ للمشاركة في أولمبياد باريس 2024م.
أجيال جديدة
عزز ازدهار المصارعة وقدرتها على خلق جمهور من كل الفئات العمرية من ضرورة وجود مؤسسات ترعى وتقدم التدريب للأجيال الشابة من الجنسين، وهو ما شرع فيه اتحاد المصارعة بتنظيمه دورة الفنون القتالية للبنين والبنات (ما بين 7 – 19 سنة) في سبيل تطوير رياضة المصارعة عبر توفير التدريب والمهارات اللازمة لها.
وشهد يوليو من العام الماضي، إقامة الدورة الخامسة من مشروع مدرسة الفنون القتالية، المشروع الذي يستهدف طلاب وطالبات المدارس، حيث شارك ١٥٠ طالباً وطالبة من مدرستي الوحدة الوطنية أساس بنين وبنات (شرق النيل). وينفذ المشروع بواسطة الاتحاد الرياضي السوداني للمصارعة عن طريقة شراكة مع المركز الدولي للفنون القتالية (دولة كوريا الجنوبية) تحت رعاية منظمة اليونسكو.
انتشار المصارعة وتحولها من نشاط اجتماعي وطقوسي ارتبط بمواسم الحصاد والاحتفالات في إقليم جبال النوبة، إلى رياضة تنتشر في أرجاء السودان المختلفة، ويتابعها جمهور متنوع، يُقدّم ملمحاً عن التداخل الثقافي بين كقيمة تعتمد على انفتاح هذه الثقافات على بعضها البعض.
يعرض الفيديو لقطات من مهرجان النوبة ٢٠٢٠ الذي أقيم في الخرطوم، وتضمن المهرجان الرقص التقليدي ومصارعة النوبة التقليدية، وهي رياضة شعبية تجذب مئات الأشخاص كل أسبوع لمشاهدتها. تم تصويره من قبل ابراهيم سنوب لمشروع المتاحف المجتمعية في غرب السودان
صورة الغلاف: كل يوم جمعة، تجري المصارعة السودانية بين قبائل النوبة وجنوب السودان في حاج يوسف © محمد عثمان، الخرطوم
كيف تحولت المصارعة السودانية من طقس ثقافي بجبال النوبة إلى رياضة شعبية واسعة الانتشار؟
بقلم: مجاهد الدومة
نُشرت لأول مرة بموقع (بيم ريبورتس) بتاريخ ١/١٢/٢٠٢٢
للوهلة الأولى التي تسمع فيها هتافات وتشجيع الجمهور، قد تعتقد أنك في حدث يخص كرة القدم، ولكن ما إن تقترب للساحة التي يحفها المشجعون، حتى ينكشف الأمر، فهناك مصارعان يتوسطان ساحة مفروشة بالرمل، ويتعاركان بالأيدي في سبيل إسقاط المنافس أرضاً والفوز بإحدى جولات المصارعة السودانية (الصُراع).
وللمصارعة (الصُّراع) تاريخ ضارب القدم في جنوب كردفان (إقليم جبال النوبة)، حيث بدأت من هناك كممارسة ثقافية وجزء من هوية المجموعات القبلية المختلفة وهي ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية كذلك.
ارتبط الصُراع في الأساس بالاحتفالات والمهرجانات المصاحبة لموسم الحصاد؛ ما بين أغسطس وديسمبر من كل عام. حيث تتضمن عرضاً فنياً يقدمه المتصارعون قبل المباراة. وجزء من هذه الثقافة، أن لكل مجموعة قبلية عدداً من المصارعين الشُبان التي تحرص على تدريبهم وخلق نظام غذائي متكامل (يتضمن اللبن الطازج واللحوم والعسل والسمسم) حتى يتمكنوا من منافسة المصارعين من المجموعات القبلية الأخرى.
فضاءات جديدة
مع الحروب الأهلية المتواترة التي شهدها السودان، والتي كان إقليم جنوب كردفان ضمن نطاقها، فإن الكثيرين بدأوا في النزوح منذ السبعينات، هرباً من ويلات الحروب، وبحثاً عن مساحات جديدة وآمنة. وحملت حركة النزوح، التي كانت إلى عدد من الولايات الأخرى، ولكنها تمركزت في العاصمة الخرطوم وأطرافها بصورة كبيرة، علاوة على تراث وثقافة وطقوس المجموعات النازحة، مثل الرقصات ومنها (الكرنك، الكمبلا) وكذلك المصارعة. لتلقى الأخيرة إقبالاً واسعاً كرياضة، ولاحقاً انشأت العديد من حلبات المصارعة في منطقة الحاج يوسف (شرق النيل) ومنطقة أبو حمد (مدينة أمدرمان) حيث يتجمع فيها جمهورمتنوع من السودانيين والأجانب مرتين كل أسبوع من أجل الفرجة وتشجيع المصارعين.
صاحب تحول المصارعة من كونها ممارسة ثقافية إلى رياضة تغييراً في بعض قواعدها، وحتى الطريقة التي يتزين بها المصارعون (الفرسان كما يطلق عليهم في جبال النوبة) وأصبح لهذه الرياضة قوانين وقواعد تحكمها، كما وأنه تأسس اتحاد المصارعة السودانية الذي يشرف عليها. وصار انتماء اللاعبين إلى أندية وليس إلى مجموعاتهم القبيلة التي يتحدرون منها.
ونظراً للتشابه الكبير بين المصارعة السودانية ومصارعة السومو اليابانية، فقد شهدت ساحات المصارعة السودانية مشاركة بعض اليابانيين فيها، ومن ضمنهم الدبلوماسي الياباني ياسوهيرو موروتاتسو في عدة مناسبات.
في مارس 2022 اختتمت بمدينة خشم القربة (ولاية كسلا) الدورة الخامسة لبطولة الجمهورية للمصارعة. الفعالية التي بدأ الاتحاد الرياضي السوداني للمصارعة في تنظيمها لأول مرة في العام 2017م بمدينة الخرطوم، لتصبح بعدها محفلاً سنوياً شهدته كل من: ولايات القضارف، كسلا، النيل الأزرق ثم كسلا مرة أخرى في مارس 2022م. حيث جاءت البطولة تحت شعار “بالمصارعة نعزز السلام” وشاركت فيها ست ولايات؛ وهي: جنوب كردفان – النيل الأبيض – القضارف – الخرطوم – البحر الأحمر وكسلا) فيما اعتذرت ولايات غرب وشمال كردفان، وسنار والشمالية والنيل الأزرق.
مشاركات دولية
خلال الأعوام الماضية، شارك منتخب السودان للمصارعة في عدد من البطولات الأفريقية والعربية، واستطاع المنتخب، أن يظفر بعدد مقدر من التتويجات والميداليات؛ ميداليتين برونزيتين في البطولة الأفريقية في نيجيريا عام 2018م، وخمس ميداليات أخرى بالبطولة العربية في شرم الشيخ (جمهورية مصر العربية). وعزز المنتخب من خبرته ومشاركته العالمية ليتوج ذلك بحصد 12 ميدالية في البطولة العربية 2019م وبطولة إبراهيم مصطفى الدولية.
وشهد مايو الماضي اختراقاً جديداً للمصارعة السودانية في المحافل الدولية، حيث حققت لاعبة المصارعة السودانية، باتريسيا سيف الدين، وهي أول مصارعة تشارك في بطولة خارجية، المركز الثالث والميدالية البرونزية في وزن 68 كجم خلال البطولة الأفريقية التي استضافتها المغرب بمشاركة 34 دولة.
وتجدر الإشارة إلى أن باتريسيا هي واحدة ضمن فتيات كثر انخرطنْ في رياضة المصارعة، ضمن مشروع اكتشاف المواهب، البرنامج الذي ينظم بشراكة بين اللجنة الأولمبية الدولية والاتحادات الدولية، الأمر الذي استفاد منه اتحاد المصارعة في العام 2018م. وحجزت باتريسيا أحد المراكز الأولى ضمن برنامج المواهب، وهي تخوض استعداداتٍ للمشاركة في أولمبياد باريس 2024م.
أجيال جديدة
عزز ازدهار المصارعة وقدرتها على خلق جمهور من كل الفئات العمرية من ضرورة وجود مؤسسات ترعى وتقدم التدريب للأجيال الشابة من الجنسين، وهو ما شرع فيه اتحاد المصارعة بتنظيمه دورة الفنون القتالية للبنين والبنات (ما بين 7 – 19 سنة) في سبيل تطوير رياضة المصارعة عبر توفير التدريب والمهارات اللازمة لها.
وشهد يوليو من العام الماضي، إقامة الدورة الخامسة من مشروع مدرسة الفنون القتالية، المشروع الذي يستهدف طلاب وطالبات المدارس، حيث شارك ١٥٠ طالباً وطالبة من مدرستي الوحدة الوطنية أساس بنين وبنات (شرق النيل). وينفذ المشروع بواسطة الاتحاد الرياضي السوداني للمصارعة عن طريقة شراكة مع المركز الدولي للفنون القتالية (دولة كوريا الجنوبية) تحت رعاية منظمة اليونسكو.
انتشار المصارعة وتحولها من نشاط اجتماعي وطقوسي ارتبط بمواسم الحصاد والاحتفالات في إقليم جبال النوبة، إلى رياضة تنتشر في أرجاء السودان المختلفة، ويتابعها جمهور متنوع، يُقدّم ملمحاً عن التداخل الثقافي بين كقيمة تعتمد على انفتاح هذه الثقافات على بعضها البعض.
يعرض الفيديو لقطات من مهرجان النوبة ٢٠٢٠ الذي أقيم في الخرطوم، وتضمن المهرجان الرقص التقليدي ومصارعة النوبة التقليدية، وهي رياضة شعبية تجذب مئات الأشخاص كل أسبوع لمشاهدتها. تم تصويره من قبل ابراهيم سنوب لمشروع المتاحف المجتمعية في غرب السودان
صورة الغلاف: كل يوم جمعة، تجري المصارعة السودانية بين قبائل النوبة وجنوب السودان في حاج يوسف © محمد عثمان، الخرطوم
ديوان الشورى
ديوان الشورى
ديوان الشورى
يُعد ديوان الشورى من أهمّ الأماكن ببيت الخليفة؛ ففيه كان يجلس الخليفة عبد الله للتشاور وتبادل الآراء مع كبار قادة الدولة المهديّة، إذ كان نظام الشورى هو آليّة صُنع القرار في الدولة المهديّة، وبه كان يُعقد الاجتماع السنويّ لمجلس الشورى، كما كانت فيه غرف الزوّار، وغرف الوزراء، والغرفة العلويّة الخاصة بخلوة الخليفة عبد الله.
كان اجتماع الخليفة عبد الله بمجلس الشورى ومجلس الحل والعقد يُعقد مرة كل عام، كما يمكن عقد الاجتماعات الطارئة في أيّ وقت. ويُعقد الاجتماع السنوي للتشاور على أهمّ الأحداث والقرارات في الدولة المهدية، وللمناقشة حول ترشيح ومبايعة الإمام أو عزله.
وكان مجلس الشورى مكوّناً من ٤٦ مندوباً من كلّ منطقة من مناطق السودان، ومهمّته تقديم الرأي والمشورة للخليفة وأداء واجباته في غيابه. وتتداخل سلطة مجلس الشورى مع سلطة مجلس الحل والعقد المكون من ٤٠ شخصاً، ينتخب مجلس الشورى ٣٠ منهم، و١٠ أشخاص يعيّنهم الخليفة عبد الله.
إدارة الدولة المهدية في عهد الخليفة عبد الله
بعد وفاة الإمام المهدي تولّى الخليفة عبد الله قيادة الدولة المهديّة، ولم يُحدِث تغييراً في الشكل الذي رسمه الإمام المهدي للحكومة؛ غير أن فترة حكمه الطويلة فرضت عليه التركيز وملء الثغرات التي ظهرت مع التطبيق.
كان للخليفة سُلطة تنفيذ الأحكام، ولأخيه يعقوب سلطة الشرطة، ولقاضي الإسلام السلطة القضائية. واعتمد الخليفة عبد الله على أمرائه في الأمور العسكرية، كما كان يجتمع بكبار مستشاريه يومياً بديوان الشورى للنظر في أمور الدولة. وقُسِّمت البلاد إداريّاً إلى ٨ عمالات (أقاليم)، وأُطلِق لفظ عامل على كل حاكم عمالة، كما أُطلِق لفظ أمير على قائد الجيش فيها. وانقسمت العمالات إلى نوعين:
- عمالات عسكرية: تقع في أطراف البلاد وعليها التصدّي للغزو الخارجي؛ وأشرف عليها حكام عسكريّون.
- عمالات حضرية: شملت عمالات الوسط، وخضعت لحكم الخليفة عبدالله المباشر، كما أشرف عليها حكام مدنيّون.
تابع الخليفة عبد الله إدارة العمالات باستخدام نظام البريد. وخَصّص لكل عامل عدد من الأمراء لإدارة الجيش، وعدد من المعاونين لجمع الضرائب، وكاتب سرّي للمراسلات مع الخليفة عبد الله. أمّا خلال الأزمات؛ فقد كان الخليفة عبد الله يرسل وفداً من مجلس الأمناء للتحقيق فيها وحلّها. وبرغم أن الخليفة عبد الله لم يعتد زيارة العمالات، إلّا أنه درج على عقد مؤتمرات جامعة لعمّاله في الرجبية (٢٧ رجب)، وفي عيد الأضحى، وعيد الفطر، وذلك لتلقّي التقارير والمشورة في أمور العمالات.
صورة الغلاف: ديوان الشورى © متحف بيت خليفة
ديوان الشورى
يُعد ديوان الشورى من أهمّ الأماكن ببيت الخليفة؛ ففيه كان يجلس الخليفة عبد الله للتشاور وتبادل الآراء مع كبار قادة الدولة المهديّة، إذ كان نظام الشورى هو آليّة صُنع القرار في الدولة المهديّة، وبه كان يُعقد الاجتماع السنويّ لمجلس الشورى، كما كانت فيه غرف الزوّار، وغرف الوزراء، والغرفة العلويّة الخاصة بخلوة الخليفة عبد الله.
كان اجتماع الخليفة عبد الله بمجلس الشورى ومجلس الحل والعقد يُعقد مرة كل عام، كما يمكن عقد الاجتماعات الطارئة في أيّ وقت. ويُعقد الاجتماع السنوي للتشاور على أهمّ الأحداث والقرارات في الدولة المهدية، وللمناقشة حول ترشيح ومبايعة الإمام أو عزله.
وكان مجلس الشورى مكوّناً من ٤٦ مندوباً من كلّ منطقة من مناطق السودان، ومهمّته تقديم الرأي والمشورة للخليفة وأداء واجباته في غيابه. وتتداخل سلطة مجلس الشورى مع سلطة مجلس الحل والعقد المكون من ٤٠ شخصاً، ينتخب مجلس الشورى ٣٠ منهم، و١٠ أشخاص يعيّنهم الخليفة عبد الله.
إدارة الدولة المهدية في عهد الخليفة عبد الله
بعد وفاة الإمام المهدي تولّى الخليفة عبد الله قيادة الدولة المهديّة، ولم يُحدِث تغييراً في الشكل الذي رسمه الإمام المهدي للحكومة؛ غير أن فترة حكمه الطويلة فرضت عليه التركيز وملء الثغرات التي ظهرت مع التطبيق.
كان للخليفة سُلطة تنفيذ الأحكام، ولأخيه يعقوب سلطة الشرطة، ولقاضي الإسلام السلطة القضائية. واعتمد الخليفة عبد الله على أمرائه في الأمور العسكرية، كما كان يجتمع بكبار مستشاريه يومياً بديوان الشورى للنظر في أمور الدولة. وقُسِّمت البلاد إداريّاً إلى ٨ عمالات (أقاليم)، وأُطلِق لفظ عامل على كل حاكم عمالة، كما أُطلِق لفظ أمير على قائد الجيش فيها. وانقسمت العمالات إلى نوعين:
- عمالات عسكرية: تقع في أطراف البلاد وعليها التصدّي للغزو الخارجي؛ وأشرف عليها حكام عسكريّون.
- عمالات حضرية: شملت عمالات الوسط، وخضعت لحكم الخليفة عبدالله المباشر، كما أشرف عليها حكام مدنيّون.
تابع الخليفة عبد الله إدارة العمالات باستخدام نظام البريد. وخَصّص لكل عامل عدد من الأمراء لإدارة الجيش، وعدد من المعاونين لجمع الضرائب، وكاتب سرّي للمراسلات مع الخليفة عبد الله. أمّا خلال الأزمات؛ فقد كان الخليفة عبد الله يرسل وفداً من مجلس الأمناء للتحقيق فيها وحلّها. وبرغم أن الخليفة عبد الله لم يعتد زيارة العمالات، إلّا أنه درج على عقد مؤتمرات جامعة لعمّاله في الرجبية (٢٧ رجب)، وفي عيد الأضحى، وعيد الفطر، وذلك لتلقّي التقارير والمشورة في أمور العمالات.
صورة الغلاف: ديوان الشورى © متحف بيت خليفة
ديوان الشورى
يُعد ديوان الشورى من أهمّ الأماكن ببيت الخليفة؛ ففيه كان يجلس الخليفة عبد الله للتشاور وتبادل الآراء مع كبار قادة الدولة المهديّة، إذ كان نظام الشورى هو آليّة صُنع القرار في الدولة المهديّة، وبه كان يُعقد الاجتماع السنويّ لمجلس الشورى، كما كانت فيه غرف الزوّار، وغرف الوزراء، والغرفة العلويّة الخاصة بخلوة الخليفة عبد الله.
كان اجتماع الخليفة عبد الله بمجلس الشورى ومجلس الحل والعقد يُعقد مرة كل عام، كما يمكن عقد الاجتماعات الطارئة في أيّ وقت. ويُعقد الاجتماع السنوي للتشاور على أهمّ الأحداث والقرارات في الدولة المهدية، وللمناقشة حول ترشيح ومبايعة الإمام أو عزله.
وكان مجلس الشورى مكوّناً من ٤٦ مندوباً من كلّ منطقة من مناطق السودان، ومهمّته تقديم الرأي والمشورة للخليفة وأداء واجباته في غيابه. وتتداخل سلطة مجلس الشورى مع سلطة مجلس الحل والعقد المكون من ٤٠ شخصاً، ينتخب مجلس الشورى ٣٠ منهم، و١٠ أشخاص يعيّنهم الخليفة عبد الله.
إدارة الدولة المهدية في عهد الخليفة عبد الله
بعد وفاة الإمام المهدي تولّى الخليفة عبد الله قيادة الدولة المهديّة، ولم يُحدِث تغييراً في الشكل الذي رسمه الإمام المهدي للحكومة؛ غير أن فترة حكمه الطويلة فرضت عليه التركيز وملء الثغرات التي ظهرت مع التطبيق.
كان للخليفة سُلطة تنفيذ الأحكام، ولأخيه يعقوب سلطة الشرطة، ولقاضي الإسلام السلطة القضائية. واعتمد الخليفة عبد الله على أمرائه في الأمور العسكرية، كما كان يجتمع بكبار مستشاريه يومياً بديوان الشورى للنظر في أمور الدولة. وقُسِّمت البلاد إداريّاً إلى ٨ عمالات (أقاليم)، وأُطلِق لفظ عامل على كل حاكم عمالة، كما أُطلِق لفظ أمير على قائد الجيش فيها. وانقسمت العمالات إلى نوعين:
- عمالات عسكرية: تقع في أطراف البلاد وعليها التصدّي للغزو الخارجي؛ وأشرف عليها حكام عسكريّون.
- عمالات حضرية: شملت عمالات الوسط، وخضعت لحكم الخليفة عبدالله المباشر، كما أشرف عليها حكام مدنيّون.
تابع الخليفة عبد الله إدارة العمالات باستخدام نظام البريد. وخَصّص لكل عامل عدد من الأمراء لإدارة الجيش، وعدد من المعاونين لجمع الضرائب، وكاتب سرّي للمراسلات مع الخليفة عبد الله. أمّا خلال الأزمات؛ فقد كان الخليفة عبد الله يرسل وفداً من مجلس الأمناء للتحقيق فيها وحلّها. وبرغم أن الخليفة عبد الله لم يعتد زيارة العمالات، إلّا أنه درج على عقد مؤتمرات جامعة لعمّاله في الرجبية (٢٧ رجب)، وفي عيد الأضحى، وعيد الفطر، وذلك لتلقّي التقارير والمشورة في أمور العمالات.
صورة الغلاف: ديوان الشورى © متحف بيت خليفة
غليون التبغ
غليون التبغ
غليون تبغ بوعاء فخاري ذات جذع خشبي وبوق نحاسي. تم الحصول عليه في الثلاثينيات، عندما تم تصنيع هذا الأنبوب، كان التبغ أحد المحاصيل الرئيسية غير الغذائية في جبال النوبة. تم تدخينه بشكل أساسي من قبل كبار السن من الرجال والنساء كنشاط ترفيهي. بالإضافة إلى الماعز قام الخاطبون بإهداء التبغ لأقارب العروس وغالبًا ما كان يتم توزيع التبغ على الرجال المبتدئين في المهرجانات وغيرها من الأحداث المهمة.
AF1939، 30.43
© أمناء المتحف البريطاني. تمت مشاركتها تحت إسناد المشاع الإبداعي-
رخصة غير تجارية من نوع ALIKE 4.0 International (CC BY-NC-SA 4.0).
غليون تبغ بوعاء فخاري ذات جذع خشبي وبوق نحاسي. تم الحصول عليه في الثلاثينيات، عندما تم تصنيع هذا الأنبوب، كان التبغ أحد المحاصيل الرئيسية غير الغذائية في جبال النوبة. تم تدخينه بشكل أساسي من قبل كبار السن من الرجال والنساء كنشاط ترفيهي. بالإضافة إلى الماعز قام الخاطبون بإهداء التبغ لأقارب العروس وغالبًا ما كان يتم توزيع التبغ على الرجال المبتدئين في المهرجانات وغيرها من الأحداث المهمة.
AF1939، 30.43
© أمناء المتحف البريطاني. تمت مشاركتها تحت إسناد المشاع الإبداعي-
رخصة غير تجارية من نوع ALIKE 4.0 International (CC BY-NC-SA 4.0).
غليون تبغ بوعاء فخاري ذات جذع خشبي وبوق نحاسي. تم الحصول عليه في الثلاثينيات، عندما تم تصنيع هذا الأنبوب، كان التبغ أحد المحاصيل الرئيسية غير الغذائية في جبال النوبة. تم تدخينه بشكل أساسي من قبل كبار السن من الرجال والنساء كنشاط ترفيهي. بالإضافة إلى الماعز قام الخاطبون بإهداء التبغ لأقارب العروس وغالبًا ما كان يتم توزيع التبغ على الرجال المبتدئين في المهرجانات وغيرها من الأحداث المهمة.
AF1939، 30.43
© أمناء المتحف البريطاني. تمت مشاركتها تحت إسناد المشاع الإبداعي-
رخصة غير تجارية من نوع ALIKE 4.0 International (CC BY-NC-SA 4.0).
أشكال فضّ النزاعات والحروب وغيرها في السودان
أشكال فضّ النزاعات والحروب وغيرها في السودان
مقدمة
كان دخول العرب السودان قبل الإسلام في مصادر تاريخية. وكانت هجرتهم الكبرى بعد اتفاقية البَقْط عام ٦٥٢م بين العرب المسلمين والنوبيين الذين كانوا في وجهتهم في دخولهم عن طريق النيل من مصر، ومن جاء إلى السودان منهم قبل الإسلام كان لهم شعر عبارة عن شعار ولأنه شعر جاهلي صعب الفهم، نحوله إلى نثر يقول:
(الناس من غيرنا حضارة، لكننا بدو. هم لهم
حمير ولنا حرابٌ وخيولٌ جيدة. إن غزونا
مَن هو قريبٌ منا ولم نجد شيئاً ننهبه،
غزونا من هو حولنا، نَغِيرُ حتى على بَكْر القبيلة
التي أهلها أخوان لنا، إذا لم نجد ما ننهبه)١.
العمل بهذا الشعار الشِّعري كان دَيدَن القبائل العربية في السودان. فالحروب والإغارات كانت سائدة بينها منذ عهد بعيد.
كان الصوفية أولياء الله الصالحون يخشاهم السودانيون حتى الآن. فكلٌّ منهم لهم قباب هم مدفونون فيها. فمن عَدَا على أهلهم يُصَاب بعطبٍٍ أو بعِلَّة أو مرض أو موت. إزاء ذلك، كان أهل السودان حريصين على بيان أنهم يعيشون على بَرَكَة وَليّ في قراهم ومواضع سَكَنِهم. وقد يبنون قبّة تشير إلى وليّهم وليس له وجود، اتقاءً لأيّ عدوان.
يقول الباحث سمير محمد عبيد نُقُد: (في تاريخ السودان قبل سلطنة سنار، كانت هناك فترة تُسمَّى فترة القَيمان٢، وفيها كانت القبائل تُغير على إبل غيرها من القبائل الأخرى لسلبها وأخذها عنوة، ولا يُعدُّ ذلك لصوصية بل يفتخرون به، إذ يُعدُّ عملاً بطولياً. وكان ذلك واحداً من أهم الأسباب التي جعلت الناس يَدَّعون النسب الشريف للتخلص من هجمات القبائل، والنسب الشريف الانتساب إلى العتره النبوية، وصاحب القبّة دليلٌ على ذلك.
في هذا البحث أن (الإدارة الأهلية) كان العهد الإنجليزي المصري قد كَوَّنها من رموز القبائل العربية وغيرها في السودان. وكان (ناظر) القبيلة هو الحَكَم في أيّ نزاع يَنشب بين أبناء القبيلة، داخل القبيلة أو خارجها، كان ذلك في غرب السودان حيث قبائل عربية، ووسطه حيث الجعليون العرب، ووسطه الشمالي حيث الرباطاب والمناصير والشايقية الذين كان لهم (مَك) بدلاً عن الناظر، أما أقصى شمال السودان فقد كان يَحكُمها العُمَد، والبجا في أقصى الشرق كان لهم ناظر، وهؤلاء الحكّام كان لهم إقامة الحروب وقيادتها.
بعض الحروب في تاريخ السودان مؤرَّخٌ لها، وبعضها لم يُؤرَّخ لها. وهناك حروب داخلية وخارجية. مثلاً، ينقسم شعب البجا إلى بطونٍ عديدة. وكان من شأن هذه البطون أن تتحارَب، وتأتي هذه الحروب من داخل كيان البجا بتخطِّي الناظر نفسه. لكن، غالباً ما يكون هناك سعيٌ نحو السلام الذي ينتهي إلى إصلاح ما بين المتحاربين.
في هذا البحث محتويات هي أشكال الحروب والنزاعات وهي:
- حروب الصلح.
- حروب التحالف.
- حروب الحرب والحرب المضادة.
- حروب تنتهي بالأجاويد.
- الحروب السياسية.
ونوردُ هنا الكيانات التي ندرسها وهي:
- البجا وهم شعب.
- البوادرة: قبيلة عربية.
- الكواهلة: قبيلة عربية.
- الشكرية: قبيلة عربية.
- البطاحين: قبيلة عربية.
- التعايشة: قبيلة عربية.
-
ونختم بفصلٍ عن صور أشكال الصلح والتصالح.
حروب الصُلح:
وغالباً ما يتبنّى فصلها أهلُ الدين. وقد كانت حروب البطاحين كثيرة، خاصة ضدَّ الشكرية. وأول حربٍ لهم ضدَّها كانت واقعة المندرة mundarah. وقد كانت عام ١٨٧١م في منطقة الفاو. وبعدها كانت الواقعة (أب جِبَّة)، و(واقعة الحَجَر) و(عُلْوان)، ولمَّا كثرت هذه الحروب بينها، (كان من بين شيوخ البطاحين من كان حريصاً على علاقة سلام بين البطاحين والشكرية، وهو الشيخ عبد الباقي من أهل الدين من البطاحين. وقد صالح بينها عام ۱۸۰۷م عن طريق معاهدات تمَّت بينه وبين أبناء أحمد بك أبوسن تزوّج كلّ منهم من الطرف الآخر)٣. وكان أحمد بك أبو سن زعيم البطانة وحاكم الخرطوم - أهليَّاً - وسنار ما بين عامي ١٨٦٠-1870، ومن الملاحظ أن هذا الصلح كان في زمن متأخر.
. حروب التحالف:
كان الشيخ برير من البطاحين قد أغار على الكرامة في أَقصَى شمالي أرض البطانة – وكان الكواهلة قد أوفدوا لحربه وقتله، واحداً هو الفارس محمد المليحابي، كي يجمع من البجا الأمرأر المحاربين في تحالف لإبادة جيش البطحاني برير. وأَسْرِهِ وقَتله. مَكث الفارس الكاهلي مع الأمرأر عامين في منطقة الباك bak في ديار البجا ليختار من الأمرأر الأقوياء قساة القلوب، وعاد بِهم إذ انضمَّ الكواهلة والأمرأر في جيشٍ واحد حاربوا به الشيخ الفارس برير وأسروه وقتلوه. وےقطع حمد المليحابي يدي برير وسَلَّمَهما لشَغَبَة، وكانت امرأة لها سهمٌ في الحرب مع فرسان قبيلتها)٤.
يقول الباحث الطيب محمد الطيب: (كانت قبائل عديدة تُسَاكِن الشكرية بأرض البطانة. وأهم هذه القبائل البطاحين والكواهلة والركابيون. وقد قامت عدة حروبات بين تلك القبائل في الثُلث الأول من القرن السادس عشر الميلادي)٥.
ومنها أنه:
(تحَالَف الفونج والركابيون لمحاربة الشكرية الذين كان على رأسهم فارسهم أبو علي. وكان المتحالفون ٤٠٠٠ والشكرية قليلون، لكنهم استطاعوا قتل قادة التحالف، إدريس ود الزاكي وکِرِنکَه أبوسن دوف في بداية المعركة. وبذلك حُسِمَت المعركة لصالح الشكرية)٦.
كان البجا يُساكنون الشكرية في أرض البطانة، إذ انتشروا في طول نهر عطبرة شرق أرض البطانة، وفي موقعة ريره Rerah تحالفوا مع الشكرية لمحاربة البطاحين، واستعدّوا للإغارة عليهم، وكان ذلك عام ١٧٤٤م. وعندها رجع قائد جيش البطاحين التكيت بجيشه منسحباً إلى أرض بعيدة عن الشكرية هي أبو دليق، وهي التي شرق الخرطوم الآن.
تحت عنوان: "علاقات القبائل ببعضها البعض"، يقول الباحثان عبد القادر عوض الكريم الحسن وعمر عبد الرحيم كبوش في كتابهما (وقفات مع شعراء البطانة) يقولان: (العلاقات التي تربط قبائل سهل البطانة ببعضها جيّدة ومتينة، ويحكم بينهم على الدوام العرف الأهلي، وقِلَّة أن نجد خلافات وعداوات بينهم، وإذا حَدَثَ بينهم شيء من ذلك نجد زعماء القبائل يقومون بإصلاح ذات البين حتى يعود الصفاء والودّ)٧.
قبائل أرض البطانة بدوية. ومن شأنها أنها متحاربة لأن هناك ما يَجعلها تحارب، فغالبهم رعاة وأصحاب إبل وضأن وماعز. وديدنهم الحرص على المراعي في الوديان ومجاري المياه وتجمّعها، وقد كان التوسع في الأرض لكسب مزيد من المراعي سبباً للحروب دائماً. ثم إن حروبها لبُعد صيت "الذات القبلية" وتميّزها بين القبائل. كان ذلك في زمانهم القديم. وفي الفقرة السابقة أن فضَّ النزاعات عندها هو "العُرف". وقد كان الاحتكام إلى العرف حديثاً عند قيام مشروع حلفا الجديدة الزراعي الذي حوَّلهم من قبائل مُترحّلة إلى قبائل عاملة في الزراعة المستقرة.
يعني (حروب الحرب والحرب المضادة) أن تحارب قبيلةٌ قبيلةً أخرى أو كياناً آخر، فتردّ هذه الحرب بحربٍ مضادَّة، حتى يتوقّف طرف عن الحرب ولا يعود إليها. قُلنا من قبل إن البجا كانوا قد سكنوا في مجرى نهر عطبرة شرق أرض البطانة. ولم تكن هذه الأرض مملوكة لكيان. لكن تسجيلها لزعيم الشكرية عوض الكريم أبو سن عام ١٧٩١م ملكاً خاصَّاً له، على أن تستوعب أرض البطانة في السكن فيها من يشاء هو، وإجلاء من شاء عن أرضه، خاصة وأن المك (الملك) بادي ولد دكين، سلطان الفونج، قد أعطاه هذا الحق٨.
كان للبجا المحاربين مناوشات لردّ أرضهم من الشكرية لمَّا عَملت على إجلائهم من ضفاف نهر عطبرة، نهض بذلك فرع من الشكرية يُسمى الطرقاب، أبناء أحمد الأطرق، الذين كانوا من أشرس عرب أرض البطانة قتالاً وقيادةً للجيوش. حتى يُقال إنهم فَنوا في الحروب حتى لم يبق منهم غير عائلتين الآن.
بدأ البجا الحرب، وانهزموا في أول حروبهم عند الشكرية ثم أعادوا الحرب مرة أخرى، لكن الطارقاب أعطوا قيادة جيشهم من كان أقوى فيهم، فارس عارف بالحروب هو ود البشير، قال شاعرهم فيه:
(قام ود البشير قَطَع البحر هو عوم
قاصد الـ رِقَّهم بشبه لديح الدّوم
البِج الـ قِبيل كُلْ يوم تَطَلِّع قُوم
خلاَّها البشير عابدَه الصَلاَ والصوم)
المعنى أن ود البشير عامَ قاصداً البجا شرق النهر الذي كان في فيضانه. وفعل فيهم ما فعل. كان البجا تدفع للشكرية (قوم) جيشاً كل يوم. لكن ود البشير في انتصاره الساحق جعلهم يرجعون إلى الله تعالى حيث يعتكفون على الصلاة والصوم. أ.هـ. ولم يعد البجا للحرب مرة أخرى٩.
ومن حروب (الحرب والحرب المضادة) ما كانت بين البوادرة والقُنن، وكلاهما من قبائل أرض البطانة، وقد سَمَّى الباحث ياسر عبد الله عبد الرحيم الخليفة الحرب بين القبيلتين باسم (حرب السياط). يقول الباحث: (كانت شرارة هذه الحرب أن قَطَعَ أحد أبناء القُنن ذيل ثورٍ تابعٍ لإحدى نساء البوادرة. وأَعلنت المرأة حدادها على ذيل ثورها، وأقسمت أن لا تأكل بيمنَاها حتى ترى ما يفعل فرسان البوادرة حيال ما فعل ذلك الفتى القُنَنِيّ بثورها. وهذه عادة قديمة لنساء العرب لحثّ الفرسان إلى الأخذ بالثأر ورفع الظلم الذي وقع عليها.
عندها تحرَّك البوادرة بفرسانهم لمحاربة القنن، وأقسم الفارس ود بِلِيله على فرسان البوادرة بعدم استخدام السيوف وإنما السياط (جمع سوط) فقط، وهي ما يجب عليهم استخدامها لتأديب أبناء القنن. وفعلاً تحركوا وفي أيديهم سياط فقط استهزاءً وسخرية بالقنن الذين الذين يتمتّعون بالشجاعة والقوة. وقد دارت هذه الحرب على مرحلتين هما:
١- معركة السياط.
٢- معركة السيوف والأبطال.
في المرحلة الأولى استخدم البوادرة السياط، وقد كانت فرصة ذهبية لقبيلة القُنن الذين أعدوا العدّة لملاقاة فرسان البوادرة بسيوفهم. وما أن حان وقت القتال إلا وتفاجأ فرسان القنن بسياط أبناء البوادرة على رؤوسهم. وما هي إلا ساعات، حيث تقدَّم فرسان القنن وحصدوا فرسان البوادرة حصداً. وكاد القنن أن ينتصروا على البوادرة لو لا استخدام البوادرة لأسياف القنن، وفي ذلك اليوم أبلى فرسان البوادرة ولكنهم أدركوا خطأهم في معاملة القنن بهذه الطريقة التي كادت أن تشلّ فرسان البوادرة لثقتهم العالية بأنفسهم واحتقار عدوهم. وفي هذه المرحلة تكبَّد البوادرة خسائر كبيرة، حيث توفي كثير من الفرسان جراء هذا التصرف غير المسؤول.
وفي المرحلة الثانية من هذه الحرب، وَفَد إليها أبناء البوادرة بغرب النيل الأزرق بقيادة الفارس عين بر ومعه من البوادرة البياضة والمشاعلة والدباسين وغيرهم. وأقسم الفارس عين بر على إبادة قبيلة القنن عن آخرهم، وفعلاً أبادهم عن آخرهم وترك النساء والأطفال، فقط، وبعد ذلك دارت مواقع منها السادة والركابية بعد الحاجز والملوية malawiyya، وبذلك تشتَّت القنن بشرق السودان وإرتريا وبقي منهم عدد قليل يسكنون الآن أرض البطانة)١٠١٠.
قَلَد galad والبجا
على الرغم من أن تاريخ قبائل أرض البطانة يقول: إن هذه القبائل تعتمد في حلّ النزاعات والإغارات والحروب بالعُرف السائد بينهم كقبائل بدو متحاربة في بداوتهم، وأن هذا العرف أن تنهض ذات القبائل للصلح بين المتحاربين أو المتنازعين، إلا أننا نرى أن ذلك العرف لم يكن له وجود أيام حروبهم في زمانهم القديم، خاصة منذ القرن السادس عشر إلى الثامن عشر الميلاديين. والأخير هو الذي صار الحُكم فيه في يد أحمد بك أبو سن الذي لم يكن له سوى الشدّة في الإغارات والحروب المتتالية في أرض البطانة.
...
في إطار الحروب التي تَدَخَّل الأجاويد فيها، نَذكُر قَلَد البجا. وهو عرف سائد في ديار البجا. والبجا يتكونون من أربعة كيانات يأتي على رأسهم البجا ببطونها العديدة، والبني عامر والحلنقة والبشاريين. وعندما تقول (البجا) نَرمِي إليهم جميعًا. وقَلَد البجا عبارة عن مجموعة من الأجاويد هم الذين يَجلِسُون إلى الطرفين لفضّ أي نزاعات نتشأ في ديارهم وإن كان قتلاً، ولفظ (قَلَد) تعني الاجتماع لفرض فضّ النزاعات. وما يَحكُم به هذا الاجتماع نافذ لا يستطيع رفضه الحاضرون.
يُعَرِّف د. عون الشريف قاسم في قاموسه لفظ (أجاويد). يقول: (أجاويد الجماعة الذين يتوسّطون بين المتخاصمين لحل الخلاف بالحسنى)١١١١. وهذا تعريف ممتاز، وقد كان للبجا حروب هي:
١- قتال الأشراف والكميلاب.
٢- قتال الأشراف والنابتاب.
وعلى الرغم من أن حروب البجا عديدة بين بطونها وشعوبها، إلا أن صاحب الكتاب الذي نأخذ عنه يقول: (كنّا نحن نحب أن لا تُذكر هذه الحوادث حتى لا نُعيد ذكراها)١٢١٢. وربما رأى أن ذكرى هذه الحروب من الممكن أن تثير أحقاداً قديمة. لكن، من الثابت أن نزاعات البجا قد خَضَعت لقَلَد مهما كانت.
وكان البوادرة قد خاضوا حربين بعد مدة طويلة من حربهم مع القنن هما:
١- حرب الحاجز، وهو موضع بين خشم القربة وكسلا.
٢- حرب الملوية، وهي بين المذكورين خشم القربة وكسلا، ومحطة صغيرة للقطار الواصل حتى بورتسودان. يقول الباحث فيها: (سالت الدماء وكأنها دميرة (الدميرة فيضان النيل) حتى توسَّط بينهم السادة الركابية)١٣١٣، والركابية من أهل الدين ينتشرون في أنحاء السودان.
...
الحروب السياسية دائماً ما تأتي من السلاطين والحكام. وأهدافها جعل الكيان المُحَارَب (بفتح الراء) طائِعاً، فطاعة السلطان أو الحاکم تأتي بالطاعة والسلام كما سنرى. والحرب التي نبدأ بها هي الحرب وعَرَب الحَمَر hamar. وكان عرب المعاليا قد قطعوا الطريق على قافلة آتية من مصر إلى دارفور وقتلوا تُجار القافلة الذين كانت بضاعتهم للسلطان أنسجة وسُكَّراً. فغضب السلطان حسين غضباً شديداً، وأرسل في طلب الشيخ مكي ولد منعم شیخ عربان حَمَر وقال له: إني أَبِحتُ لك دماء المعاليا وأموالهم، فجمع الشيخ مكي رجاله وحلفاءه وغزا عرب المعاليا، وكانت واقعة دموية شديدة كان النصر فيها للعرب الحمر، أي لصالح السلطان، وقد سُمِّيت الواقعة بواقعة القرطاس، لأن ساحة الحرب امتلأت بـقراطيس السكر)١٤١٤.
في عام ١٨٢١م، غزا إسماعيل باشا بن خديوي مصر محمد علي باشا السودان. تصدى له الشايقية بقيادة الملك شاويش الذي انهَزم، جازَ الشمال حتى وصل إلى سلطنة الفونج، واستسلم له مَكُّها (ملكها) محمد ود عدلان. سلم السلطة لمحمد الدفتردار حيث صار السودان في يده. وفي عودته لمصر عام ١٨٢٢م، نزَل في دیار الجعليين حيث المك نمر، الذي كان قد أعدَّ العِدَّة لقَتلِه. في المجلس الواسع جلس مع حاشيته، وطلب من المك نمر مطالب من الأنعام والمال مُعجِزة. كان المك نمر قد أحاط المجلس بالحَطَب، وجَعَل فرسانَه متأهّبين للهجوم على الباشا. أشعل النار في الخطب، وهَجم وفرسانه على الباشا وحاشيته وقتلوهم جميعاً حرقاً، هاجر بعدها المك نمر إلى الحبشة مع أهله ثم كانت مقتلة الجعليين المُدمِّرة على يد الدفتردار)١٥١٥.
وكانت الحرب التي أشعلها الخايفة عبد الله التعايشي بعد وفاة محمد أحمد المهدي عام ١٨٨٥م. فقد كان التعايشي خليفة المهدي الذي -من المفترض أن يأتي صاحب السلطة- لكن قرابة المهدي من أهله كانوا يرون أنهم الأولى بالخلافة، وهم أشراف. أي من سلالة العَترة النبوية، ومن هنا كانت الحرب.
تحت عنوان: (الخليفة والأشراف) نقرأ: (إن الصراع الذي نَشَبَ بين الخليفة والأشراف عقب وفاة المهدي، هو صراع حول السلطة، وحول من هو المستحق تولي أمر المهدية: هل هم الأشراف بحكم صِلاتهم الرحمية بالمهدي، أم الخليفة بحكم كونه الرجل الثاني في الدولة حتى في حياة المهدي؟. عَبَّأ الخليفة أم درمان عاصمة المهدي وألقى القبض على المتمردين الأشراف بواسطة أهله التعايشة وجنود من قبائل أخرى من دارفور، وكان قد أمر بسجن الأشراف جميعاً فسُجنوا، وعاد الخليفة لخلافة المهدي حتَّى موقعة كرري التي دخل فيها المستعمر (الإنجليزي المصري) السودان غازياً عام ١٨٩٨م، وهرب الخليفة بمن معه من خاصّته، وقُتِلَ في أم دبيكرات في ذات العام الذي دخل فيه الاستعمار)(١١).
في أيام السلطان حسين بن السلطان محمد الفضل الذي حكم دار نور ما بين عامي ١٨٣٩ - ١٨٧٤م كانت واقعة القرطاس بين عرب المعاليا.
نزاعات تَنتَهِي بالصّلح
(١)
كانت أولى الحروب التي انتهت بالصلح الحرب التي أشعلها عبدالله بن أبي سرح مع النوبة في دنقلا (في شمال السودان) عام 652م، هذه الحرب سُمِّيت باسم (اتفاقيه البقط)، ونصَّت على بنود نُورد منها ثلاثة هي:
- الاسم، بقط
- على العرب اجتياز بلاد النوبة (السودان) دون إقامة، وعلى النوبة اجتياز بلاد العرب (مصر الجزيرة العربية) دون إقامة.
- المسجد الذي بناه ابن أبي سرح في دنقلا، وعلى النوبة إسراجه وتعهّده.
وقد دَرَس مؤرّخون هذه الاتفاقية ونشروها بما يتناقض ما هو صحيح. في قاموس د. عون الشريف قاسم جاء اسم بقط Pactum في معنى معاهدة في طبعته الأولى والثانية. أما في الثالثة، فقد رَجَع د. عون الشريف إلى اسم (بَقت) bagit في معنى (القِسمَة) في نوبيّة أهل دنقلا، وكانت كلمة dactam كلمة لاتينيَّة لا يعرفها العرب ولا النوبيون.
بقي العرب في السودان مخالفين عدم البقاء، وهاجر النوبيون وبقوا في بلاد العرب١٦١٦. أما المسجد، فقد درسه آثاريون وتوصلوا إلى أنّه بناء حديث، وفيه قبر لشيخ أخرجوه١٧١٧. على هذ، من الحق أن نَصل إلى أن اتفاقية البقط مشكوك فيها، أو لا وجود لها. لكن، العطاء الذي قدَّمه كل طرف للآخر هو الذي أتى بالصلح بين الفريقين١٨١٨.
(٢)
في غرب السودان تنشَأ الحروب دائماً بين قبائل العرب في بعضهم، وبين العرب والشعوب غير العربية. كانت ومازالت هناك حروب بين السلامات (قبيلة عربية) وبين قبيلة عربية أخرى هي التعايشة وقبيلة الرزيقات ضدّ أولاد حسين، وقبيلة الكبابيش ضدّ الكواهلة الذين هاجروا إلى كردفان، وقبيلة الحوازمة مع نوبا جبال النوبة، وقبائل عربية ضدَّ الزغاوة في شمال دارفور، والزغاوة شعب غير عربي، ونفس القبائل مع المساليت في شمال دارفور. ولكن المهم أن الإدارة الأهلية، في كلٍّ من دارفور وكردفان، من أعرافها الثابتة حلّ الحروب صُلحاً بتَدَخُّل رموز هذه الإدارات الأهلية في الحروب أو النزاعات بين المتحاربين.
السدارنة المحس الذين ساكنوا الشكرية في أرض البطانة كانت لهم حربٌ مع الرفاعيين، القبيلة العربية التي تسكن على ضفاف النيل الأزرق غير بعيد عن السدارنة شَرق رفاعة؛ كان نزاعهم في الحدود بين المتحاربين. وقد كان تدخّل قبيلة رفاعة والشكرية الذين يسكنون على النيل الأزرق في امتدادهم إلى الجنوب الشرقي، قد صالح بين المتحاربين صُلحاً قَضَى أن يتقاسما الحدود بينهم، بشرط أن يستمر الصلح المحكوم به بينهما.
في أول عهدهم بالسكن في أرض البطانة تحت قبيلة الشكرية، كان بين السدارنة والشكرية حرب لم تكتمل. جنود الشكرية تحركوا للحرب وكذلك جنود السدارنة، لكن الصلح بينهما سرعان ما توصلوا إليه بوساطة بعض عقلاء الشكرية، متضامنين مع رموز السدارنة، خاصّة شيخهم عبد الهادي، وكان شاعر السدارنة قاسم ود عتار قد أرَّخ لهذه الحرب فقال:
مع الشكرية عندنا كنترات وعهود
غير حق المحوره يكونوا لينا جدود
دراجين عواطل في الليالي السود
فارسهم من الجَمْع الفقير ما بحود
شرح صاحب كتاب السدارنة كنترات أنه يقصد عقل العهد، والمجوره: الجوار، درّاجين عواطل: يساندون الآخرين عند الشدائد الجمع الفقير: الجيش كتير العدد. ما بْحود: يثبت ولا يعطيه ظهره، وهذا (العهد) بينهما كان ورقة الصلح بينهما١٩١٩.
بعد تهجير النوبيين من أقصى شمال السودان إلى أرض البطانة عامي ١٩٦٣ـ١٩٦٤، صارت لهم حوَّاشات، كل حوّاشة 15 فدان يزرعونها. كان ما يُزرع فيها مُحدَّداً بقرار سلطويّ: الفول السوداني والقطن. وهم لم يألفوا ذلك، كان أمامهم إمكان الزراعة بالعمال الكثيرين المهاجرين إلى مشروع حلفا الجديدة الزراعي. كانوا من غرب إفريقيا ودارفور. وكانت بينهما -النوبيين والمهاجرين- نزاعات كالآتي:
١- قَتَل أحد النوبيين فرداً من غرب إفريقا في نزاع يعود إلى الزراعة، ونهض أهله منذرين بحرب، لكن كان النوبيون على حلّ الأمر بالصلح بين الفريقين: القرية التي منها القاتل وأهل غرب إفريقيا السائرون وراء الصلح، وتوصلوا إلى أن يدفع النوبيون الديَّة. فرضوا على كل بيت 5 جنيهات في كل قراهم الـ26 وفي كلّ قرية ٢٥٠ بيتاً. يعني ٥×٢٦×٢٥٠. وتساوي: ٣٢,٥٠٠. هذا هو المبلغ الذي طلبته أهالي المَقتول. وقد دفعها النوبيّون بعيداً عن الشرطة والمحاكم التي رفضوها. وكان ذلك مبلغاً مهولاً عام ١٩٩١م. هكذا كانت المصالحة التي استمرت إلى الآن.
وفي العام ٢٠١٠م، كان هناك نزاعٌ آخر. كان عمّال حواشات أهل القرية ١٠ بحلفا الجديدة قد أضربوت وتوقفوا عن الزراعة بحجة أنهم عملوا في هذه الحواشات 35 سنة، وهذا كافٍ بأن تؤول الحواشات لهم حيث هم يسكنون فيها. صار هناك جدل بين الفريقين. كان العمال من الزغاوة المنتشرين بين السودان وتشاد حيث فزّان٢٠٢٠، ورفض أهل القرية 10 ذلك، فكان الصدام. قَتَل العمال إمام مسجد القرية ورجلاً، وأوشك أهل القرية الأخرى على التدخّل، لكن أهل الصلح كانوا جاهزين. أهل الصلح كان منهم ثلاثة في الخرطوم، دعوهم فوصلوا لحلفا الجديدة، وصارت هناك مفاوضات مُضنية، توصّل المُصلِحون في ختامها أن يدفع الزغاوة مبلغ دية للقتيلين. فدفعوها. (٦٥٠٠٠ جنيهاً) وعادوا إلى العمل.
صور أشكال الصلح والتصالح
كانت السلطة القائمة في السودان تنظر إلى الدولة مُقسمةً إلى شمال وجنوب. كان الشمال هو الكيان المُسلم والجنوب هو الكيان المسيحي. انفصل الجنوب عام ٢٠١١م. وصارت الدولة المسلمة في الشمال هي الدولة التي يرضاها أصحاب السلطة وغير قليل من الشعب، هنا صار الاحتكام في حالات النزاع الذي ينشب بين الناس، قتلاً كان أم نزاع حدود أو اكتساب أرضٍ بالامتداد أو صراعاً على مرعى ...إلخ. إلى:
- القرآن.
- الحديث.
- الشريعة الإسلامية.
- العرف القبليي
- الفقه.
غالباً يسري ذلك على القبائل العربية البدوية في السودان. إذن، هذا في البادية. وبوادي السودان في شرقه وغربه. يسري ذلك على البدو العرب باستثناء الحرب التي كانت بين العرب المسلمين والنوبة المسيحيين في اتفاقية البقط في القرن السابع الميلادي عام ٦٥٢م. كان ذلك صلحاً بعد حرب بمقابل من المهزوم. النوبة المسيحين، وشيء من عدس وغيره يدفعه لهم المنتصرون٢١٢١.
الأجواد (الأجاويد) يُعتبرون من العلماء أهل الرأي الصواب الذين يفضّون النزاعات بين الناس بالحسنى٢٢٢٢. وهم من الحكماء. إضافة إلى أصحاب السلطة، قبلية كانت أم أهلية، وسعيهم نحو العمل العام بقدرٍ دائماً، كالعُمَد مثلاً، أما نُظّار القبائل ورجال الدين والصوفية لهم أصحاب سهم عالٍ عند الجميع، وكلامهم سموع.
في الفقه الإسلامي نجد أن غالب أهل السودان على مذهب الإمام مالك، وأهل أقصى شرق السودان على المذهب الشافعي، وفيهم من هو على مذهب أبي حنيفة. واستخدام الفقه كحاكم قليل. ذلك لأنه مُختلفٌ بين الأئمة الأربعة، وغالباً ما يكون في اعتمادات الصُلح نظار القبائل وأهل الدين والصوفية والأجاويد.
في حالة النية على فضّ نزاع، يتنادى المعنيّون بالقيام بالصلح ويجتمعون. فيهم الذين سيتفاوضون بين الطرفين. نُظّار القبائل دائماً ما يُختَارُون للأمور الكبيرة كالحرب والقتل. أما الأمور الصغيرة يمكن أن تُحلّ من دونهم، مثل الصراع على امتداد في الأرض على الحدود، أو نزاع في مرعى فمتروك للآخرين. يجتمع الناوون حلّ نزاعٍ ما، ويتداولون طُرُق الحل، يقولون ما يقولونه عند فضّ النزاع، ويتّفقون عليه مقدّمين العرف القبلي غالباً في حالات النزاع.
في الاجتماع ذاته، يختارون الوفد الذي سينهَض بفضّ النزاع، كلما كان الوفد كبير العدد كلّما كانت هيبته أكبر. هنا يتفق المجتمعون على رجال الوفد من هم. وفي دارفور وكردفان، من المهم استصحاب حَكَّامة. والحكَّامة شاعرة ترتجل ما تقول مَدحَاً للمتنازعين وللحضور، وترتجل شعراً في شرور النزاعات. ويساعد ذلك في تقريب المسافة بين المتخاصمين وما تقول الحكَّامة مهم جداً، لأنه من الممكن أن تهجو من مَدَحت من قبل ليعود إلى عارٍ له.
هناك أمران للجلوس لفضّ النزاع:
١- طلب المتنازعين للحضور في موضع محدد في يوم محدد.
أن يكون عند ناظر يستضيفهم.
٢- الذهاب إليهم في موضع محدد في يوم محدد.
هنا يرسل مناديب لكل من المتنازعين. أفراد من اثنين أو ثلاثة من المعروفين للطرفين. للاتفاق على الجلوس لفض النزاع أولاً، ثم تحديد الزمان والمكان المحددين، وعلى كل منهما اختيار وفدهم الذي سيحضر فض النزاع. المدخل الكلامي لأهل النزاع العرف القبلي غالباً، والتوافق من أطراف النزاع على ما يقول الوفدين دائماً يأتي عند الاقتناع بما قالا، وفي حالات الرفض على المتنازعين الاحتكام إلى القضاء الذي هو غير مرغوب دائماً.
يحضر المتنازعين إلى المكان المحدد والزمان أو يذهب أصحاب فض النزاع في المكان والزمان، تُفتَتح الجلسة بالقرآن الكريم من واحد رجال الدين، وتحوي قراءته علی آیات تدعو إلى السلام:
و(جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) الآية
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) الآية
(إسلام قولاً من رب رحيم) الآية
... إلخ.
تتلو ذلك دعوى صوفية طويلة في انتباه الجميع لما يقول الصوفي بعدها، يجلس فاضو النزاع من المتنازعين متواجهين.
بعد الأيادي المرفوعة في دعوة الصوفي. يشرع القائمون بفض النزاع في تقديم الحَكَّامة٢٣٢٣، لتقول ما تقول. ثم يأتي دورهم في الكلام الذي اتفقوا عليه سلفاً، مع ترصّد خَلَجات أهل النزاع الذين يؤمِّنون على ما قال الفرد من أهل النزاع، أو يرفضونه في أسلوب مهذب، لكن، في كل الأحوال، نجد أن أهل فض النزاع أكثر حِنكَة وحِكمة وتمرساً في الإقناع. هكذا يؤدّي كلٌّ دوره. وإن كان تم رضاء من الطرفين على الصلح لا بد من ذبائح لاستضافة ضيوفهم.
من المُسلَّم به أن الحضور كلهم مسلمون. لذا دائماً ما يصل الحضور جميعاً إلى قناعة تامة بأن الصلح خَيْر، وتُرفَع الفاتحة بقراءة آيات قرآنية في معنى السلم أو كلام بالأخوة الإسلامية في الإسلام، وكل هذا يحدث فيما عدا القَتل، لأنه – حسب الإسلامية- دَفع الديَّة. وهذا دور الصوفية ورجال الدين يُباركونه. وغالباً ما يُدفع في الحال.
صورة الغلاف © مجلس وقضاة، الفاشر ١٩٥٠ إرشيف السودان لجامعة دورهام
مقدمة
كان دخول العرب السودان قبل الإسلام في مصادر تاريخية. وكانت هجرتهم الكبرى بعد اتفاقية البَقْط عام ٦٥٢م بين العرب المسلمين والنوبيين الذين كانوا في وجهتهم في دخولهم عن طريق النيل من مصر، ومن جاء إلى السودان منهم قبل الإسلام كان لهم شعر عبارة عن شعار ولأنه شعر جاهلي صعب الفهم، نحوله إلى نثر يقول:
(الناس من غيرنا حضارة، لكننا بدو. هم لهم
حمير ولنا حرابٌ وخيولٌ جيدة. إن غزونا
مَن هو قريبٌ منا ولم نجد شيئاً ننهبه،
غزونا من هو حولنا، نَغِيرُ حتى على بَكْر القبيلة
التي أهلها أخوان لنا، إذا لم نجد ما ننهبه)١.
العمل بهذا الشعار الشِّعري كان دَيدَن القبائل العربية في السودان. فالحروب والإغارات كانت سائدة بينها منذ عهد بعيد.
كان الصوفية أولياء الله الصالحون يخشاهم السودانيون حتى الآن. فكلٌّ منهم لهم قباب هم مدفونون فيها. فمن عَدَا على أهلهم يُصَاب بعطبٍٍ أو بعِلَّة أو مرض أو موت. إزاء ذلك، كان أهل السودان حريصين على بيان أنهم يعيشون على بَرَكَة وَليّ في قراهم ومواضع سَكَنِهم. وقد يبنون قبّة تشير إلى وليّهم وليس له وجود، اتقاءً لأيّ عدوان.
يقول الباحث سمير محمد عبيد نُقُد: (في تاريخ السودان قبل سلطنة سنار، كانت هناك فترة تُسمَّى فترة القَيمان٢، وفيها كانت القبائل تُغير على إبل غيرها من القبائل الأخرى لسلبها وأخذها عنوة، ولا يُعدُّ ذلك لصوصية بل يفتخرون به، إذ يُعدُّ عملاً بطولياً. وكان ذلك واحداً من أهم الأسباب التي جعلت الناس يَدَّعون النسب الشريف للتخلص من هجمات القبائل، والنسب الشريف الانتساب إلى العتره النبوية، وصاحب القبّة دليلٌ على ذلك.
في هذا البحث أن (الإدارة الأهلية) كان العهد الإنجليزي المصري قد كَوَّنها من رموز القبائل العربية وغيرها في السودان. وكان (ناظر) القبيلة هو الحَكَم في أيّ نزاع يَنشب بين أبناء القبيلة، داخل القبيلة أو خارجها، كان ذلك في غرب السودان حيث قبائل عربية، ووسطه حيث الجعليون العرب، ووسطه الشمالي حيث الرباطاب والمناصير والشايقية الذين كان لهم (مَك) بدلاً عن الناظر، أما أقصى شمال السودان فقد كان يَحكُمها العُمَد، والبجا في أقصى الشرق كان لهم ناظر، وهؤلاء الحكّام كان لهم إقامة الحروب وقيادتها.
بعض الحروب في تاريخ السودان مؤرَّخٌ لها، وبعضها لم يُؤرَّخ لها. وهناك حروب داخلية وخارجية. مثلاً، ينقسم شعب البجا إلى بطونٍ عديدة. وكان من شأن هذه البطون أن تتحارَب، وتأتي هذه الحروب من داخل كيان البجا بتخطِّي الناظر نفسه. لكن، غالباً ما يكون هناك سعيٌ نحو السلام الذي ينتهي إلى إصلاح ما بين المتحاربين.
في هذا البحث محتويات هي أشكال الحروب والنزاعات وهي:
- حروب الصلح.
- حروب التحالف.
- حروب الحرب والحرب المضادة.
- حروب تنتهي بالأجاويد.
- الحروب السياسية.
ونوردُ هنا الكيانات التي ندرسها وهي:
- البجا وهم شعب.
- البوادرة: قبيلة عربية.
- الكواهلة: قبيلة عربية.
- الشكرية: قبيلة عربية.
- البطاحين: قبيلة عربية.
- التعايشة: قبيلة عربية.
-
ونختم بفصلٍ عن صور أشكال الصلح والتصالح.
حروب الصُلح:
وغالباً ما يتبنّى فصلها أهلُ الدين. وقد كانت حروب البطاحين كثيرة، خاصة ضدَّ الشكرية. وأول حربٍ لهم ضدَّها كانت واقعة المندرة mundarah. وقد كانت عام ١٨٧١م في منطقة الفاو. وبعدها كانت الواقعة (أب جِبَّة)، و(واقعة الحَجَر) و(عُلْوان)، ولمَّا كثرت هذه الحروب بينها، (كان من بين شيوخ البطاحين من كان حريصاً على علاقة سلام بين البطاحين والشكرية، وهو الشيخ عبد الباقي من أهل الدين من البطاحين. وقد صالح بينها عام ۱۸۰۷م عن طريق معاهدات تمَّت بينه وبين أبناء أحمد بك أبوسن تزوّج كلّ منهم من الطرف الآخر)٣. وكان أحمد بك أبو سن زعيم البطانة وحاكم الخرطوم - أهليَّاً - وسنار ما بين عامي ١٨٦٠-1870، ومن الملاحظ أن هذا الصلح كان في زمن متأخر.
. حروب التحالف:
كان الشيخ برير من البطاحين قد أغار على الكرامة في أَقصَى شمالي أرض البطانة – وكان الكواهلة قد أوفدوا لحربه وقتله، واحداً هو الفارس محمد المليحابي، كي يجمع من البجا الأمرأر المحاربين في تحالف لإبادة جيش البطحاني برير. وأَسْرِهِ وقَتله. مَكث الفارس الكاهلي مع الأمرأر عامين في منطقة الباك bak في ديار البجا ليختار من الأمرأر الأقوياء قساة القلوب، وعاد بِهم إذ انضمَّ الكواهلة والأمرأر في جيشٍ واحد حاربوا به الشيخ الفارس برير وأسروه وقتلوه. وےقطع حمد المليحابي يدي برير وسَلَّمَهما لشَغَبَة، وكانت امرأة لها سهمٌ في الحرب مع فرسان قبيلتها)٤.
يقول الباحث الطيب محمد الطيب: (كانت قبائل عديدة تُسَاكِن الشكرية بأرض البطانة. وأهم هذه القبائل البطاحين والكواهلة والركابيون. وقد قامت عدة حروبات بين تلك القبائل في الثُلث الأول من القرن السادس عشر الميلادي)٥.
ومنها أنه:
(تحَالَف الفونج والركابيون لمحاربة الشكرية الذين كان على رأسهم فارسهم أبو علي. وكان المتحالفون ٤٠٠٠ والشكرية قليلون، لكنهم استطاعوا قتل قادة التحالف، إدريس ود الزاكي وکِرِنکَه أبوسن دوف في بداية المعركة. وبذلك حُسِمَت المعركة لصالح الشكرية)٦.
كان البجا يُساكنون الشكرية في أرض البطانة، إذ انتشروا في طول نهر عطبرة شرق أرض البطانة، وفي موقعة ريره Rerah تحالفوا مع الشكرية لمحاربة البطاحين، واستعدّوا للإغارة عليهم، وكان ذلك عام ١٧٤٤م. وعندها رجع قائد جيش البطاحين التكيت بجيشه منسحباً إلى أرض بعيدة عن الشكرية هي أبو دليق، وهي التي شرق الخرطوم الآن.
تحت عنوان: "علاقات القبائل ببعضها البعض"، يقول الباحثان عبد القادر عوض الكريم الحسن وعمر عبد الرحيم كبوش في كتابهما (وقفات مع شعراء البطانة) يقولان: (العلاقات التي تربط قبائل سهل البطانة ببعضها جيّدة ومتينة، ويحكم بينهم على الدوام العرف الأهلي، وقِلَّة أن نجد خلافات وعداوات بينهم، وإذا حَدَثَ بينهم شيء من ذلك نجد زعماء القبائل يقومون بإصلاح ذات البين حتى يعود الصفاء والودّ)٧.
قبائل أرض البطانة بدوية. ومن شأنها أنها متحاربة لأن هناك ما يَجعلها تحارب، فغالبهم رعاة وأصحاب إبل وضأن وماعز. وديدنهم الحرص على المراعي في الوديان ومجاري المياه وتجمّعها، وقد كان التوسع في الأرض لكسب مزيد من المراعي سبباً للحروب دائماً. ثم إن حروبها لبُعد صيت "الذات القبلية" وتميّزها بين القبائل. كان ذلك في زمانهم القديم. وفي الفقرة السابقة أن فضَّ النزاعات عندها هو "العُرف". وقد كان الاحتكام إلى العرف حديثاً عند قيام مشروع حلفا الجديدة الزراعي الذي حوَّلهم من قبائل مُترحّلة إلى قبائل عاملة في الزراعة المستقرة.
يعني (حروب الحرب والحرب المضادة) أن تحارب قبيلةٌ قبيلةً أخرى أو كياناً آخر، فتردّ هذه الحرب بحربٍ مضادَّة، حتى يتوقّف طرف عن الحرب ولا يعود إليها. قُلنا من قبل إن البجا كانوا قد سكنوا في مجرى نهر عطبرة شرق أرض البطانة. ولم تكن هذه الأرض مملوكة لكيان. لكن تسجيلها لزعيم الشكرية عوض الكريم أبو سن عام ١٧٩١م ملكاً خاصَّاً له، على أن تستوعب أرض البطانة في السكن فيها من يشاء هو، وإجلاء من شاء عن أرضه، خاصة وأن المك (الملك) بادي ولد دكين، سلطان الفونج، قد أعطاه هذا الحق٨.
كان للبجا المحاربين مناوشات لردّ أرضهم من الشكرية لمَّا عَملت على إجلائهم من ضفاف نهر عطبرة، نهض بذلك فرع من الشكرية يُسمى الطرقاب، أبناء أحمد الأطرق، الذين كانوا من أشرس عرب أرض البطانة قتالاً وقيادةً للجيوش. حتى يُقال إنهم فَنوا في الحروب حتى لم يبق منهم غير عائلتين الآن.
بدأ البجا الحرب، وانهزموا في أول حروبهم عند الشكرية ثم أعادوا الحرب مرة أخرى، لكن الطارقاب أعطوا قيادة جيشهم من كان أقوى فيهم، فارس عارف بالحروب هو ود البشير، قال شاعرهم فيه:
(قام ود البشير قَطَع البحر هو عوم
قاصد الـ رِقَّهم بشبه لديح الدّوم
البِج الـ قِبيل كُلْ يوم تَطَلِّع قُوم
خلاَّها البشير عابدَه الصَلاَ والصوم)
المعنى أن ود البشير عامَ قاصداً البجا شرق النهر الذي كان في فيضانه. وفعل فيهم ما فعل. كان البجا تدفع للشكرية (قوم) جيشاً كل يوم. لكن ود البشير في انتصاره الساحق جعلهم يرجعون إلى الله تعالى حيث يعتكفون على الصلاة والصوم. أ.هـ. ولم يعد البجا للحرب مرة أخرى٩.
ومن حروب (الحرب والحرب المضادة) ما كانت بين البوادرة والقُنن، وكلاهما من قبائل أرض البطانة، وقد سَمَّى الباحث ياسر عبد الله عبد الرحيم الخليفة الحرب بين القبيلتين باسم (حرب السياط). يقول الباحث: (كانت شرارة هذه الحرب أن قَطَعَ أحد أبناء القُنن ذيل ثورٍ تابعٍ لإحدى نساء البوادرة. وأَعلنت المرأة حدادها على ذيل ثورها، وأقسمت أن لا تأكل بيمنَاها حتى ترى ما يفعل فرسان البوادرة حيال ما فعل ذلك الفتى القُنَنِيّ بثورها. وهذه عادة قديمة لنساء العرب لحثّ الفرسان إلى الأخذ بالثأر ورفع الظلم الذي وقع عليها.
عندها تحرَّك البوادرة بفرسانهم لمحاربة القنن، وأقسم الفارس ود بِلِيله على فرسان البوادرة بعدم استخدام السيوف وإنما السياط (جمع سوط) فقط، وهي ما يجب عليهم استخدامها لتأديب أبناء القنن. وفعلاً تحركوا وفي أيديهم سياط فقط استهزاءً وسخرية بالقنن الذين الذين يتمتّعون بالشجاعة والقوة. وقد دارت هذه الحرب على مرحلتين هما:
١- معركة السياط.
٢- معركة السيوف والأبطال.
في المرحلة الأولى استخدم البوادرة السياط، وقد كانت فرصة ذهبية لقبيلة القُنن الذين أعدوا العدّة لملاقاة فرسان البوادرة بسيوفهم. وما أن حان وقت القتال إلا وتفاجأ فرسان القنن بسياط أبناء البوادرة على رؤوسهم. وما هي إلا ساعات، حيث تقدَّم فرسان القنن وحصدوا فرسان البوادرة حصداً. وكاد القنن أن ينتصروا على البوادرة لو لا استخدام البوادرة لأسياف القنن، وفي ذلك اليوم أبلى فرسان البوادرة ولكنهم أدركوا خطأهم في معاملة القنن بهذه الطريقة التي كادت أن تشلّ فرسان البوادرة لثقتهم العالية بأنفسهم واحتقار عدوهم. وفي هذه المرحلة تكبَّد البوادرة خسائر كبيرة، حيث توفي كثير من الفرسان جراء هذا التصرف غير المسؤول.
وفي المرحلة الثانية من هذه الحرب، وَفَد إليها أبناء البوادرة بغرب النيل الأزرق بقيادة الفارس عين بر ومعه من البوادرة البياضة والمشاعلة والدباسين وغيرهم. وأقسم الفارس عين بر على إبادة قبيلة القنن عن آخرهم، وفعلاً أبادهم عن آخرهم وترك النساء والأطفال، فقط، وبعد ذلك دارت مواقع منها السادة والركابية بعد الحاجز والملوية malawiyya، وبذلك تشتَّت القنن بشرق السودان وإرتريا وبقي منهم عدد قليل يسكنون الآن أرض البطانة)١٠١٠.
قَلَد galad والبجا
على الرغم من أن تاريخ قبائل أرض البطانة يقول: إن هذه القبائل تعتمد في حلّ النزاعات والإغارات والحروب بالعُرف السائد بينهم كقبائل بدو متحاربة في بداوتهم، وأن هذا العرف أن تنهض ذات القبائل للصلح بين المتحاربين أو المتنازعين، إلا أننا نرى أن ذلك العرف لم يكن له وجود أيام حروبهم في زمانهم القديم، خاصة منذ القرن السادس عشر إلى الثامن عشر الميلاديين. والأخير هو الذي صار الحُكم فيه في يد أحمد بك أبو سن الذي لم يكن له سوى الشدّة في الإغارات والحروب المتتالية في أرض البطانة.
...
في إطار الحروب التي تَدَخَّل الأجاويد فيها، نَذكُر قَلَد البجا. وهو عرف سائد في ديار البجا. والبجا يتكونون من أربعة كيانات يأتي على رأسهم البجا ببطونها العديدة، والبني عامر والحلنقة والبشاريين. وعندما تقول (البجا) نَرمِي إليهم جميعًا. وقَلَد البجا عبارة عن مجموعة من الأجاويد هم الذين يَجلِسُون إلى الطرفين لفضّ أي نزاعات نتشأ في ديارهم وإن كان قتلاً، ولفظ (قَلَد) تعني الاجتماع لفرض فضّ النزاعات. وما يَحكُم به هذا الاجتماع نافذ لا يستطيع رفضه الحاضرون.
يُعَرِّف د. عون الشريف قاسم في قاموسه لفظ (أجاويد). يقول: (أجاويد الجماعة الذين يتوسّطون بين المتخاصمين لحل الخلاف بالحسنى)١١١١. وهذا تعريف ممتاز، وقد كان للبجا حروب هي:
١- قتال الأشراف والكميلاب.
٢- قتال الأشراف والنابتاب.
وعلى الرغم من أن حروب البجا عديدة بين بطونها وشعوبها، إلا أن صاحب الكتاب الذي نأخذ عنه يقول: (كنّا نحن نحب أن لا تُذكر هذه الحوادث حتى لا نُعيد ذكراها)١٢١٢. وربما رأى أن ذكرى هذه الحروب من الممكن أن تثير أحقاداً قديمة. لكن، من الثابت أن نزاعات البجا قد خَضَعت لقَلَد مهما كانت.
وكان البوادرة قد خاضوا حربين بعد مدة طويلة من حربهم مع القنن هما:
١- حرب الحاجز، وهو موضع بين خشم القربة وكسلا.
٢- حرب الملوية، وهي بين المذكورين خشم القربة وكسلا، ومحطة صغيرة للقطار الواصل حتى بورتسودان. يقول الباحث فيها: (سالت الدماء وكأنها دميرة (الدميرة فيضان النيل) حتى توسَّط بينهم السادة الركابية)١٣١٣، والركابية من أهل الدين ينتشرون في أنحاء السودان.
...
الحروب السياسية دائماً ما تأتي من السلاطين والحكام. وأهدافها جعل الكيان المُحَارَب (بفتح الراء) طائِعاً، فطاعة السلطان أو الحاکم تأتي بالطاعة والسلام كما سنرى. والحرب التي نبدأ بها هي الحرب وعَرَب الحَمَر hamar. وكان عرب المعاليا قد قطعوا الطريق على قافلة آتية من مصر إلى دارفور وقتلوا تُجار القافلة الذين كانت بضاعتهم للسلطان أنسجة وسُكَّراً. فغضب السلطان حسين غضباً شديداً، وأرسل في طلب الشيخ مكي ولد منعم شیخ عربان حَمَر وقال له: إني أَبِحتُ لك دماء المعاليا وأموالهم، فجمع الشيخ مكي رجاله وحلفاءه وغزا عرب المعاليا، وكانت واقعة دموية شديدة كان النصر فيها للعرب الحمر، أي لصالح السلطان، وقد سُمِّيت الواقعة بواقعة القرطاس، لأن ساحة الحرب امتلأت بـقراطيس السكر)١٤١٤.
في عام ١٨٢١م، غزا إسماعيل باشا بن خديوي مصر محمد علي باشا السودان. تصدى له الشايقية بقيادة الملك شاويش الذي انهَزم، جازَ الشمال حتى وصل إلى سلطنة الفونج، واستسلم له مَكُّها (ملكها) محمد ود عدلان. سلم السلطة لمحمد الدفتردار حيث صار السودان في يده. وفي عودته لمصر عام ١٨٢٢م، نزَل في دیار الجعليين حيث المك نمر، الذي كان قد أعدَّ العِدَّة لقَتلِه. في المجلس الواسع جلس مع حاشيته، وطلب من المك نمر مطالب من الأنعام والمال مُعجِزة. كان المك نمر قد أحاط المجلس بالحَطَب، وجَعَل فرسانَه متأهّبين للهجوم على الباشا. أشعل النار في الخطب، وهَجم وفرسانه على الباشا وحاشيته وقتلوهم جميعاً حرقاً، هاجر بعدها المك نمر إلى الحبشة مع أهله ثم كانت مقتلة الجعليين المُدمِّرة على يد الدفتردار)١٥١٥.
وكانت الحرب التي أشعلها الخايفة عبد الله التعايشي بعد وفاة محمد أحمد المهدي عام ١٨٨٥م. فقد كان التعايشي خليفة المهدي الذي -من المفترض أن يأتي صاحب السلطة- لكن قرابة المهدي من أهله كانوا يرون أنهم الأولى بالخلافة، وهم أشراف. أي من سلالة العَترة النبوية، ومن هنا كانت الحرب.
تحت عنوان: (الخليفة والأشراف) نقرأ: (إن الصراع الذي نَشَبَ بين الخليفة والأشراف عقب وفاة المهدي، هو صراع حول السلطة، وحول من هو المستحق تولي أمر المهدية: هل هم الأشراف بحكم صِلاتهم الرحمية بالمهدي، أم الخليفة بحكم كونه الرجل الثاني في الدولة حتى في حياة المهدي؟. عَبَّأ الخليفة أم درمان عاصمة المهدي وألقى القبض على المتمردين الأشراف بواسطة أهله التعايشة وجنود من قبائل أخرى من دارفور، وكان قد أمر بسجن الأشراف جميعاً فسُجنوا، وعاد الخليفة لخلافة المهدي حتَّى موقعة كرري التي دخل فيها المستعمر (الإنجليزي المصري) السودان غازياً عام ١٨٩٨م، وهرب الخليفة بمن معه من خاصّته، وقُتِلَ في أم دبيكرات في ذات العام الذي دخل فيه الاستعمار)(١١).
في أيام السلطان حسين بن السلطان محمد الفضل الذي حكم دار نور ما بين عامي ١٨٣٩ - ١٨٧٤م كانت واقعة القرطاس بين عرب المعاليا.
نزاعات تَنتَهِي بالصّلح
(١)
كانت أولى الحروب التي انتهت بالصلح الحرب التي أشعلها عبدالله بن أبي سرح مع النوبة في دنقلا (في شمال السودان) عام 652م، هذه الحرب سُمِّيت باسم (اتفاقيه البقط)، ونصَّت على بنود نُورد منها ثلاثة هي:
- الاسم، بقط
- على العرب اجتياز بلاد النوبة (السودان) دون إقامة، وعلى النوبة اجتياز بلاد العرب (مصر الجزيرة العربية) دون إقامة.
- المسجد الذي بناه ابن أبي سرح في دنقلا، وعلى النوبة إسراجه وتعهّده.
وقد دَرَس مؤرّخون هذه الاتفاقية ونشروها بما يتناقض ما هو صحيح. في قاموس د. عون الشريف قاسم جاء اسم بقط Pactum في معنى معاهدة في طبعته الأولى والثانية. أما في الثالثة، فقد رَجَع د. عون الشريف إلى اسم (بَقت) bagit في معنى (القِسمَة) في نوبيّة أهل دنقلا، وكانت كلمة dactam كلمة لاتينيَّة لا يعرفها العرب ولا النوبيون.
بقي العرب في السودان مخالفين عدم البقاء، وهاجر النوبيون وبقوا في بلاد العرب١٦١٦. أما المسجد، فقد درسه آثاريون وتوصلوا إلى أنّه بناء حديث، وفيه قبر لشيخ أخرجوه١٧١٧. على هذ، من الحق أن نَصل إلى أن اتفاقية البقط مشكوك فيها، أو لا وجود لها. لكن، العطاء الذي قدَّمه كل طرف للآخر هو الذي أتى بالصلح بين الفريقين١٨١٨.
(٢)
في غرب السودان تنشَأ الحروب دائماً بين قبائل العرب في بعضهم، وبين العرب والشعوب غير العربية. كانت ومازالت هناك حروب بين السلامات (قبيلة عربية) وبين قبيلة عربية أخرى هي التعايشة وقبيلة الرزيقات ضدّ أولاد حسين، وقبيلة الكبابيش ضدّ الكواهلة الذين هاجروا إلى كردفان، وقبيلة الحوازمة مع نوبا جبال النوبة، وقبائل عربية ضدَّ الزغاوة في شمال دارفور، والزغاوة شعب غير عربي، ونفس القبائل مع المساليت في شمال دارفور. ولكن المهم أن الإدارة الأهلية، في كلٍّ من دارفور وكردفان، من أعرافها الثابتة حلّ الحروب صُلحاً بتَدَخُّل رموز هذه الإدارات الأهلية في الحروب أو النزاعات بين المتحاربين.
السدارنة المحس الذين ساكنوا الشكرية في أرض البطانة كانت لهم حربٌ مع الرفاعيين، القبيلة العربية التي تسكن على ضفاف النيل الأزرق غير بعيد عن السدارنة شَرق رفاعة؛ كان نزاعهم في الحدود بين المتحاربين. وقد كان تدخّل قبيلة رفاعة والشكرية الذين يسكنون على النيل الأزرق في امتدادهم إلى الجنوب الشرقي، قد صالح بين المتحاربين صُلحاً قَضَى أن يتقاسما الحدود بينهم، بشرط أن يستمر الصلح المحكوم به بينهما.
في أول عهدهم بالسكن في أرض البطانة تحت قبيلة الشكرية، كان بين السدارنة والشكرية حرب لم تكتمل. جنود الشكرية تحركوا للحرب وكذلك جنود السدارنة، لكن الصلح بينهما سرعان ما توصلوا إليه بوساطة بعض عقلاء الشكرية، متضامنين مع رموز السدارنة، خاصّة شيخهم عبد الهادي، وكان شاعر السدارنة قاسم ود عتار قد أرَّخ لهذه الحرب فقال:
مع الشكرية عندنا كنترات وعهود
غير حق المحوره يكونوا لينا جدود
دراجين عواطل في الليالي السود
فارسهم من الجَمْع الفقير ما بحود
شرح صاحب كتاب السدارنة كنترات أنه يقصد عقل العهد، والمجوره: الجوار، درّاجين عواطل: يساندون الآخرين عند الشدائد الجمع الفقير: الجيش كتير العدد. ما بْحود: يثبت ولا يعطيه ظهره، وهذا (العهد) بينهما كان ورقة الصلح بينهما١٩١٩.
بعد تهجير النوبيين من أقصى شمال السودان إلى أرض البطانة عامي ١٩٦٣ـ١٩٦٤، صارت لهم حوَّاشات، كل حوّاشة 15 فدان يزرعونها. كان ما يُزرع فيها مُحدَّداً بقرار سلطويّ: الفول السوداني والقطن. وهم لم يألفوا ذلك، كان أمامهم إمكان الزراعة بالعمال الكثيرين المهاجرين إلى مشروع حلفا الجديدة الزراعي. كانوا من غرب إفريقيا ودارفور. وكانت بينهما -النوبيين والمهاجرين- نزاعات كالآتي:
١- قَتَل أحد النوبيين فرداً من غرب إفريقا في نزاع يعود إلى الزراعة، ونهض أهله منذرين بحرب، لكن كان النوبيون على حلّ الأمر بالصلح بين الفريقين: القرية التي منها القاتل وأهل غرب إفريقيا السائرون وراء الصلح، وتوصلوا إلى أن يدفع النوبيون الديَّة. فرضوا على كل بيت 5 جنيهات في كل قراهم الـ26 وفي كلّ قرية ٢٥٠ بيتاً. يعني ٥×٢٦×٢٥٠. وتساوي: ٣٢,٥٠٠. هذا هو المبلغ الذي طلبته أهالي المَقتول. وقد دفعها النوبيّون بعيداً عن الشرطة والمحاكم التي رفضوها. وكان ذلك مبلغاً مهولاً عام ١٩٩١م. هكذا كانت المصالحة التي استمرت إلى الآن.
وفي العام ٢٠١٠م، كان هناك نزاعٌ آخر. كان عمّال حواشات أهل القرية ١٠ بحلفا الجديدة قد أضربوت وتوقفوا عن الزراعة بحجة أنهم عملوا في هذه الحواشات 35 سنة، وهذا كافٍ بأن تؤول الحواشات لهم حيث هم يسكنون فيها. صار هناك جدل بين الفريقين. كان العمال من الزغاوة المنتشرين بين السودان وتشاد حيث فزّان٢٠٢٠، ورفض أهل القرية 10 ذلك، فكان الصدام. قَتَل العمال إمام مسجد القرية ورجلاً، وأوشك أهل القرية الأخرى على التدخّل، لكن أهل الصلح كانوا جاهزين. أهل الصلح كان منهم ثلاثة في الخرطوم، دعوهم فوصلوا لحلفا الجديدة، وصارت هناك مفاوضات مُضنية، توصّل المُصلِحون في ختامها أن يدفع الزغاوة مبلغ دية للقتيلين. فدفعوها. (٦٥٠٠٠ جنيهاً) وعادوا إلى العمل.
صور أشكال الصلح والتصالح
كانت السلطة القائمة في السودان تنظر إلى الدولة مُقسمةً إلى شمال وجنوب. كان الشمال هو الكيان المُسلم والجنوب هو الكيان المسيحي. انفصل الجنوب عام ٢٠١١م. وصارت الدولة المسلمة في الشمال هي الدولة التي يرضاها أصحاب السلطة وغير قليل من الشعب، هنا صار الاحتكام في حالات النزاع الذي ينشب بين الناس، قتلاً كان أم نزاع حدود أو اكتساب أرضٍ بالامتداد أو صراعاً على مرعى ...إلخ. إلى:
- القرآن.
- الحديث.
- الشريعة الإسلامية.
- العرف القبليي
- الفقه.
غالباً يسري ذلك على القبائل العربية البدوية في السودان. إذن، هذا في البادية. وبوادي السودان في شرقه وغربه. يسري ذلك على البدو العرب باستثناء الحرب التي كانت بين العرب المسلمين والنوبة المسيحيين في اتفاقية البقط في القرن السابع الميلادي عام ٦٥٢م. كان ذلك صلحاً بعد حرب بمقابل من المهزوم. النوبة المسيحين، وشيء من عدس وغيره يدفعه لهم المنتصرون٢١٢١.
الأجواد (الأجاويد) يُعتبرون من العلماء أهل الرأي الصواب الذين يفضّون النزاعات بين الناس بالحسنى٢٢٢٢. وهم من الحكماء. إضافة إلى أصحاب السلطة، قبلية كانت أم أهلية، وسعيهم نحو العمل العام بقدرٍ دائماً، كالعُمَد مثلاً، أما نُظّار القبائل ورجال الدين والصوفية لهم أصحاب سهم عالٍ عند الجميع، وكلامهم سموع.
في الفقه الإسلامي نجد أن غالب أهل السودان على مذهب الإمام مالك، وأهل أقصى شرق السودان على المذهب الشافعي، وفيهم من هو على مذهب أبي حنيفة. واستخدام الفقه كحاكم قليل. ذلك لأنه مُختلفٌ بين الأئمة الأربعة، وغالباً ما يكون في اعتمادات الصُلح نظار القبائل وأهل الدين والصوفية والأجاويد.
في حالة النية على فضّ نزاع، يتنادى المعنيّون بالقيام بالصلح ويجتمعون. فيهم الذين سيتفاوضون بين الطرفين. نُظّار القبائل دائماً ما يُختَارُون للأمور الكبيرة كالحرب والقتل. أما الأمور الصغيرة يمكن أن تُحلّ من دونهم، مثل الصراع على امتداد في الأرض على الحدود، أو نزاع في مرعى فمتروك للآخرين. يجتمع الناوون حلّ نزاعٍ ما، ويتداولون طُرُق الحل، يقولون ما يقولونه عند فضّ النزاع، ويتّفقون عليه مقدّمين العرف القبلي غالباً في حالات النزاع.
في الاجتماع ذاته، يختارون الوفد الذي سينهَض بفضّ النزاع، كلما كان الوفد كبير العدد كلّما كانت هيبته أكبر. هنا يتفق المجتمعون على رجال الوفد من هم. وفي دارفور وكردفان، من المهم استصحاب حَكَّامة. والحكَّامة شاعرة ترتجل ما تقول مَدحَاً للمتنازعين وللحضور، وترتجل شعراً في شرور النزاعات. ويساعد ذلك في تقريب المسافة بين المتخاصمين وما تقول الحكَّامة مهم جداً، لأنه من الممكن أن تهجو من مَدَحت من قبل ليعود إلى عارٍ له.
هناك أمران للجلوس لفضّ النزاع:
١- طلب المتنازعين للحضور في موضع محدد في يوم محدد.
أن يكون عند ناظر يستضيفهم.
٢- الذهاب إليهم في موضع محدد في يوم محدد.
هنا يرسل مناديب لكل من المتنازعين. أفراد من اثنين أو ثلاثة من المعروفين للطرفين. للاتفاق على الجلوس لفض النزاع أولاً، ثم تحديد الزمان والمكان المحددين، وعلى كل منهما اختيار وفدهم الذي سيحضر فض النزاع. المدخل الكلامي لأهل النزاع العرف القبلي غالباً، والتوافق من أطراف النزاع على ما يقول الوفدين دائماً يأتي عند الاقتناع بما قالا، وفي حالات الرفض على المتنازعين الاحتكام إلى القضاء الذي هو غير مرغوب دائماً.
يحضر المتنازعين إلى المكان المحدد والزمان أو يذهب أصحاب فض النزاع في المكان والزمان، تُفتَتح الجلسة بالقرآن الكريم من واحد رجال الدين، وتحوي قراءته علی آیات تدعو إلى السلام:
و(جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) الآية
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) الآية
(إسلام قولاً من رب رحيم) الآية
... إلخ.
تتلو ذلك دعوى صوفية طويلة في انتباه الجميع لما يقول الصوفي بعدها، يجلس فاضو النزاع من المتنازعين متواجهين.
بعد الأيادي المرفوعة في دعوة الصوفي. يشرع القائمون بفض النزاع في تقديم الحَكَّامة٢٣٢٣، لتقول ما تقول. ثم يأتي دورهم في الكلام الذي اتفقوا عليه سلفاً، مع ترصّد خَلَجات أهل النزاع الذين يؤمِّنون على ما قال الفرد من أهل النزاع، أو يرفضونه في أسلوب مهذب، لكن، في كل الأحوال، نجد أن أهل فض النزاع أكثر حِنكَة وحِكمة وتمرساً في الإقناع. هكذا يؤدّي كلٌّ دوره. وإن كان تم رضاء من الطرفين على الصلح لا بد من ذبائح لاستضافة ضيوفهم.
من المُسلَّم به أن الحضور كلهم مسلمون. لذا دائماً ما يصل الحضور جميعاً إلى قناعة تامة بأن الصلح خَيْر، وتُرفَع الفاتحة بقراءة آيات قرآنية في معنى السلم أو كلام بالأخوة الإسلامية في الإسلام، وكل هذا يحدث فيما عدا القَتل، لأنه – حسب الإسلامية- دَفع الديَّة. وهذا دور الصوفية ورجال الدين يُباركونه. وغالباً ما يُدفع في الحال.
صورة الغلاف © مجلس وقضاة، الفاشر ١٩٥٠ إرشيف السودان لجامعة دورهام
مقدمة
كان دخول العرب السودان قبل الإسلام في مصادر تاريخية. وكانت هجرتهم الكبرى بعد اتفاقية البَقْط عام ٦٥٢م بين العرب المسلمين والنوبيين الذين كانوا في وجهتهم في دخولهم عن طريق النيل من مصر، ومن جاء إلى السودان منهم قبل الإسلام كان لهم شعر عبارة عن شعار ولأنه شعر جاهلي صعب الفهم، نحوله إلى نثر يقول:
(الناس من غيرنا حضارة، لكننا بدو. هم لهم
حمير ولنا حرابٌ وخيولٌ جيدة. إن غزونا
مَن هو قريبٌ منا ولم نجد شيئاً ننهبه،
غزونا من هو حولنا، نَغِيرُ حتى على بَكْر القبيلة
التي أهلها أخوان لنا، إذا لم نجد ما ننهبه)١.
العمل بهذا الشعار الشِّعري كان دَيدَن القبائل العربية في السودان. فالحروب والإغارات كانت سائدة بينها منذ عهد بعيد.
كان الصوفية أولياء الله الصالحون يخشاهم السودانيون حتى الآن. فكلٌّ منهم لهم قباب هم مدفونون فيها. فمن عَدَا على أهلهم يُصَاب بعطبٍٍ أو بعِلَّة أو مرض أو موت. إزاء ذلك، كان أهل السودان حريصين على بيان أنهم يعيشون على بَرَكَة وَليّ في قراهم ومواضع سَكَنِهم. وقد يبنون قبّة تشير إلى وليّهم وليس له وجود، اتقاءً لأيّ عدوان.
يقول الباحث سمير محمد عبيد نُقُد: (في تاريخ السودان قبل سلطنة سنار، كانت هناك فترة تُسمَّى فترة القَيمان٢، وفيها كانت القبائل تُغير على إبل غيرها من القبائل الأخرى لسلبها وأخذها عنوة، ولا يُعدُّ ذلك لصوصية بل يفتخرون به، إذ يُعدُّ عملاً بطولياً. وكان ذلك واحداً من أهم الأسباب التي جعلت الناس يَدَّعون النسب الشريف للتخلص من هجمات القبائل، والنسب الشريف الانتساب إلى العتره النبوية، وصاحب القبّة دليلٌ على ذلك.
في هذا البحث أن (الإدارة الأهلية) كان العهد الإنجليزي المصري قد كَوَّنها من رموز القبائل العربية وغيرها في السودان. وكان (ناظر) القبيلة هو الحَكَم في أيّ نزاع يَنشب بين أبناء القبيلة، داخل القبيلة أو خارجها، كان ذلك في غرب السودان حيث قبائل عربية، ووسطه حيث الجعليون العرب، ووسطه الشمالي حيث الرباطاب والمناصير والشايقية الذين كان لهم (مَك) بدلاً عن الناظر، أما أقصى شمال السودان فقد كان يَحكُمها العُمَد، والبجا في أقصى الشرق كان لهم ناظر، وهؤلاء الحكّام كان لهم إقامة الحروب وقيادتها.
بعض الحروب في تاريخ السودان مؤرَّخٌ لها، وبعضها لم يُؤرَّخ لها. وهناك حروب داخلية وخارجية. مثلاً، ينقسم شعب البجا إلى بطونٍ عديدة. وكان من شأن هذه البطون أن تتحارَب، وتأتي هذه الحروب من داخل كيان البجا بتخطِّي الناظر نفسه. لكن، غالباً ما يكون هناك سعيٌ نحو السلام الذي ينتهي إلى إصلاح ما بين المتحاربين.
في هذا البحث محتويات هي أشكال الحروب والنزاعات وهي:
- حروب الصلح.
- حروب التحالف.
- حروب الحرب والحرب المضادة.
- حروب تنتهي بالأجاويد.
- الحروب السياسية.
ونوردُ هنا الكيانات التي ندرسها وهي:
- البجا وهم شعب.
- البوادرة: قبيلة عربية.
- الكواهلة: قبيلة عربية.
- الشكرية: قبيلة عربية.
- البطاحين: قبيلة عربية.
- التعايشة: قبيلة عربية.
-
ونختم بفصلٍ عن صور أشكال الصلح والتصالح.
حروب الصُلح:
وغالباً ما يتبنّى فصلها أهلُ الدين. وقد كانت حروب البطاحين كثيرة، خاصة ضدَّ الشكرية. وأول حربٍ لهم ضدَّها كانت واقعة المندرة mundarah. وقد كانت عام ١٨٧١م في منطقة الفاو. وبعدها كانت الواقعة (أب جِبَّة)، و(واقعة الحَجَر) و(عُلْوان)، ولمَّا كثرت هذه الحروب بينها، (كان من بين شيوخ البطاحين من كان حريصاً على علاقة سلام بين البطاحين والشكرية، وهو الشيخ عبد الباقي من أهل الدين من البطاحين. وقد صالح بينها عام ۱۸۰۷م عن طريق معاهدات تمَّت بينه وبين أبناء أحمد بك أبوسن تزوّج كلّ منهم من الطرف الآخر)٣. وكان أحمد بك أبو سن زعيم البطانة وحاكم الخرطوم - أهليَّاً - وسنار ما بين عامي ١٨٦٠-1870، ومن الملاحظ أن هذا الصلح كان في زمن متأخر.
. حروب التحالف:
كان الشيخ برير من البطاحين قد أغار على الكرامة في أَقصَى شمالي أرض البطانة – وكان الكواهلة قد أوفدوا لحربه وقتله، واحداً هو الفارس محمد المليحابي، كي يجمع من البجا الأمرأر المحاربين في تحالف لإبادة جيش البطحاني برير. وأَسْرِهِ وقَتله. مَكث الفارس الكاهلي مع الأمرأر عامين في منطقة الباك bak في ديار البجا ليختار من الأمرأر الأقوياء قساة القلوب، وعاد بِهم إذ انضمَّ الكواهلة والأمرأر في جيشٍ واحد حاربوا به الشيخ الفارس برير وأسروه وقتلوه. وےقطع حمد المليحابي يدي برير وسَلَّمَهما لشَغَبَة، وكانت امرأة لها سهمٌ في الحرب مع فرسان قبيلتها)٤.
يقول الباحث الطيب محمد الطيب: (كانت قبائل عديدة تُسَاكِن الشكرية بأرض البطانة. وأهم هذه القبائل البطاحين والكواهلة والركابيون. وقد قامت عدة حروبات بين تلك القبائل في الثُلث الأول من القرن السادس عشر الميلادي)٥.
ومنها أنه:
(تحَالَف الفونج والركابيون لمحاربة الشكرية الذين كان على رأسهم فارسهم أبو علي. وكان المتحالفون ٤٠٠٠ والشكرية قليلون، لكنهم استطاعوا قتل قادة التحالف، إدريس ود الزاكي وکِرِنکَه أبوسن دوف في بداية المعركة. وبذلك حُسِمَت المعركة لصالح الشكرية)٦.
كان البجا يُساكنون الشكرية في أرض البطانة، إذ انتشروا في طول نهر عطبرة شرق أرض البطانة، وفي موقعة ريره Rerah تحالفوا مع الشكرية لمحاربة البطاحين، واستعدّوا للإغارة عليهم، وكان ذلك عام ١٧٤٤م. وعندها رجع قائد جيش البطاحين التكيت بجيشه منسحباً إلى أرض بعيدة عن الشكرية هي أبو دليق، وهي التي شرق الخرطوم الآن.
تحت عنوان: "علاقات القبائل ببعضها البعض"، يقول الباحثان عبد القادر عوض الكريم الحسن وعمر عبد الرحيم كبوش في كتابهما (وقفات مع شعراء البطانة) يقولان: (العلاقات التي تربط قبائل سهل البطانة ببعضها جيّدة ومتينة، ويحكم بينهم على الدوام العرف الأهلي، وقِلَّة أن نجد خلافات وعداوات بينهم، وإذا حَدَثَ بينهم شيء من ذلك نجد زعماء القبائل يقومون بإصلاح ذات البين حتى يعود الصفاء والودّ)٧.
قبائل أرض البطانة بدوية. ومن شأنها أنها متحاربة لأن هناك ما يَجعلها تحارب، فغالبهم رعاة وأصحاب إبل وضأن وماعز. وديدنهم الحرص على المراعي في الوديان ومجاري المياه وتجمّعها، وقد كان التوسع في الأرض لكسب مزيد من المراعي سبباً للحروب دائماً. ثم إن حروبها لبُعد صيت "الذات القبلية" وتميّزها بين القبائل. كان ذلك في زمانهم القديم. وفي الفقرة السابقة أن فضَّ النزاعات عندها هو "العُرف". وقد كان الاحتكام إلى العرف حديثاً عند قيام مشروع حلفا الجديدة الزراعي الذي حوَّلهم من قبائل مُترحّلة إلى قبائل عاملة في الزراعة المستقرة.
يعني (حروب الحرب والحرب المضادة) أن تحارب قبيلةٌ قبيلةً أخرى أو كياناً آخر، فتردّ هذه الحرب بحربٍ مضادَّة، حتى يتوقّف طرف عن الحرب ولا يعود إليها. قُلنا من قبل إن البجا كانوا قد سكنوا في مجرى نهر عطبرة شرق أرض البطانة. ولم تكن هذه الأرض مملوكة لكيان. لكن تسجيلها لزعيم الشكرية عوض الكريم أبو سن عام ١٧٩١م ملكاً خاصَّاً له، على أن تستوعب أرض البطانة في السكن فيها من يشاء هو، وإجلاء من شاء عن أرضه، خاصة وأن المك (الملك) بادي ولد دكين، سلطان الفونج، قد أعطاه هذا الحق٨.
كان للبجا المحاربين مناوشات لردّ أرضهم من الشكرية لمَّا عَملت على إجلائهم من ضفاف نهر عطبرة، نهض بذلك فرع من الشكرية يُسمى الطرقاب، أبناء أحمد الأطرق، الذين كانوا من أشرس عرب أرض البطانة قتالاً وقيادةً للجيوش. حتى يُقال إنهم فَنوا في الحروب حتى لم يبق منهم غير عائلتين الآن.
بدأ البجا الحرب، وانهزموا في أول حروبهم عند الشكرية ثم أعادوا الحرب مرة أخرى، لكن الطارقاب أعطوا قيادة جيشهم من كان أقوى فيهم، فارس عارف بالحروب هو ود البشير، قال شاعرهم فيه:
(قام ود البشير قَطَع البحر هو عوم
قاصد الـ رِقَّهم بشبه لديح الدّوم
البِج الـ قِبيل كُلْ يوم تَطَلِّع قُوم
خلاَّها البشير عابدَه الصَلاَ والصوم)
المعنى أن ود البشير عامَ قاصداً البجا شرق النهر الذي كان في فيضانه. وفعل فيهم ما فعل. كان البجا تدفع للشكرية (قوم) جيشاً كل يوم. لكن ود البشير في انتصاره الساحق جعلهم يرجعون إلى الله تعالى حيث يعتكفون على الصلاة والصوم. أ.هـ. ولم يعد البجا للحرب مرة أخرى٩.
ومن حروب (الحرب والحرب المضادة) ما كانت بين البوادرة والقُنن، وكلاهما من قبائل أرض البطانة، وقد سَمَّى الباحث ياسر عبد الله عبد الرحيم الخليفة الحرب بين القبيلتين باسم (حرب السياط). يقول الباحث: (كانت شرارة هذه الحرب أن قَطَعَ أحد أبناء القُنن ذيل ثورٍ تابعٍ لإحدى نساء البوادرة. وأَعلنت المرأة حدادها على ذيل ثورها، وأقسمت أن لا تأكل بيمنَاها حتى ترى ما يفعل فرسان البوادرة حيال ما فعل ذلك الفتى القُنَنِيّ بثورها. وهذه عادة قديمة لنساء العرب لحثّ الفرسان إلى الأخذ بالثأر ورفع الظلم الذي وقع عليها.
عندها تحرَّك البوادرة بفرسانهم لمحاربة القنن، وأقسم الفارس ود بِلِيله على فرسان البوادرة بعدم استخدام السيوف وإنما السياط (جمع سوط) فقط، وهي ما يجب عليهم استخدامها لتأديب أبناء القنن. وفعلاً تحركوا وفي أيديهم سياط فقط استهزاءً وسخرية بالقنن الذين الذين يتمتّعون بالشجاعة والقوة. وقد دارت هذه الحرب على مرحلتين هما:
١- معركة السياط.
٢- معركة السيوف والأبطال.
في المرحلة الأولى استخدم البوادرة السياط، وقد كانت فرصة ذهبية لقبيلة القُنن الذين أعدوا العدّة لملاقاة فرسان البوادرة بسيوفهم. وما أن حان وقت القتال إلا وتفاجأ فرسان القنن بسياط أبناء البوادرة على رؤوسهم. وما هي إلا ساعات، حيث تقدَّم فرسان القنن وحصدوا فرسان البوادرة حصداً. وكاد القنن أن ينتصروا على البوادرة لو لا استخدام البوادرة لأسياف القنن، وفي ذلك اليوم أبلى فرسان البوادرة ولكنهم أدركوا خطأهم في معاملة القنن بهذه الطريقة التي كادت أن تشلّ فرسان البوادرة لثقتهم العالية بأنفسهم واحتقار عدوهم. وفي هذه المرحلة تكبَّد البوادرة خسائر كبيرة، حيث توفي كثير من الفرسان جراء هذا التصرف غير المسؤول.
وفي المرحلة الثانية من هذه الحرب، وَفَد إليها أبناء البوادرة بغرب النيل الأزرق بقيادة الفارس عين بر ومعه من البوادرة البياضة والمشاعلة والدباسين وغيرهم. وأقسم الفارس عين بر على إبادة قبيلة القنن عن آخرهم، وفعلاً أبادهم عن آخرهم وترك النساء والأطفال، فقط، وبعد ذلك دارت مواقع منها السادة والركابية بعد الحاجز والملوية malawiyya، وبذلك تشتَّت القنن بشرق السودان وإرتريا وبقي منهم عدد قليل يسكنون الآن أرض البطانة)١٠١٠.
قَلَد galad والبجا
على الرغم من أن تاريخ قبائل أرض البطانة يقول: إن هذه القبائل تعتمد في حلّ النزاعات والإغارات والحروب بالعُرف السائد بينهم كقبائل بدو متحاربة في بداوتهم، وأن هذا العرف أن تنهض ذات القبائل للصلح بين المتحاربين أو المتنازعين، إلا أننا نرى أن ذلك العرف لم يكن له وجود أيام حروبهم في زمانهم القديم، خاصة منذ القرن السادس عشر إلى الثامن عشر الميلاديين. والأخير هو الذي صار الحُكم فيه في يد أحمد بك أبو سن الذي لم يكن له سوى الشدّة في الإغارات والحروب المتتالية في أرض البطانة.
...
في إطار الحروب التي تَدَخَّل الأجاويد فيها، نَذكُر قَلَد البجا. وهو عرف سائد في ديار البجا. والبجا يتكونون من أربعة كيانات يأتي على رأسهم البجا ببطونها العديدة، والبني عامر والحلنقة والبشاريين. وعندما تقول (البجا) نَرمِي إليهم جميعًا. وقَلَد البجا عبارة عن مجموعة من الأجاويد هم الذين يَجلِسُون إلى الطرفين لفضّ أي نزاعات نتشأ في ديارهم وإن كان قتلاً، ولفظ (قَلَد) تعني الاجتماع لفرض فضّ النزاعات. وما يَحكُم به هذا الاجتماع نافذ لا يستطيع رفضه الحاضرون.
يُعَرِّف د. عون الشريف قاسم في قاموسه لفظ (أجاويد). يقول: (أجاويد الجماعة الذين يتوسّطون بين المتخاصمين لحل الخلاف بالحسنى)١١١١. وهذا تعريف ممتاز، وقد كان للبجا حروب هي:
١- قتال الأشراف والكميلاب.
٢- قتال الأشراف والنابتاب.
وعلى الرغم من أن حروب البجا عديدة بين بطونها وشعوبها، إلا أن صاحب الكتاب الذي نأخذ عنه يقول: (كنّا نحن نحب أن لا تُذكر هذه الحوادث حتى لا نُعيد ذكراها)١٢١٢. وربما رأى أن ذكرى هذه الحروب من الممكن أن تثير أحقاداً قديمة. لكن، من الثابت أن نزاعات البجا قد خَضَعت لقَلَد مهما كانت.
وكان البوادرة قد خاضوا حربين بعد مدة طويلة من حربهم مع القنن هما:
١- حرب الحاجز، وهو موضع بين خشم القربة وكسلا.
٢- حرب الملوية، وهي بين المذكورين خشم القربة وكسلا، ومحطة صغيرة للقطار الواصل حتى بورتسودان. يقول الباحث فيها: (سالت الدماء وكأنها دميرة (الدميرة فيضان النيل) حتى توسَّط بينهم السادة الركابية)١٣١٣، والركابية من أهل الدين ينتشرون في أنحاء السودان.
...
الحروب السياسية دائماً ما تأتي من السلاطين والحكام. وأهدافها جعل الكيان المُحَارَب (بفتح الراء) طائِعاً، فطاعة السلطان أو الحاکم تأتي بالطاعة والسلام كما سنرى. والحرب التي نبدأ بها هي الحرب وعَرَب الحَمَر hamar. وكان عرب المعاليا قد قطعوا الطريق على قافلة آتية من مصر إلى دارفور وقتلوا تُجار القافلة الذين كانت بضاعتهم للسلطان أنسجة وسُكَّراً. فغضب السلطان حسين غضباً شديداً، وأرسل في طلب الشيخ مكي ولد منعم شیخ عربان حَمَر وقال له: إني أَبِحتُ لك دماء المعاليا وأموالهم، فجمع الشيخ مكي رجاله وحلفاءه وغزا عرب المعاليا، وكانت واقعة دموية شديدة كان النصر فيها للعرب الحمر، أي لصالح السلطان، وقد سُمِّيت الواقعة بواقعة القرطاس، لأن ساحة الحرب امتلأت بـقراطيس السكر)١٤١٤.
في عام ١٨٢١م، غزا إسماعيل باشا بن خديوي مصر محمد علي باشا السودان. تصدى له الشايقية بقيادة الملك شاويش الذي انهَزم، جازَ الشمال حتى وصل إلى سلطنة الفونج، واستسلم له مَكُّها (ملكها) محمد ود عدلان. سلم السلطة لمحمد الدفتردار حيث صار السودان في يده. وفي عودته لمصر عام ١٨٢٢م، نزَل في دیار الجعليين حيث المك نمر، الذي كان قد أعدَّ العِدَّة لقَتلِه. في المجلس الواسع جلس مع حاشيته، وطلب من المك نمر مطالب من الأنعام والمال مُعجِزة. كان المك نمر قد أحاط المجلس بالحَطَب، وجَعَل فرسانَه متأهّبين للهجوم على الباشا. أشعل النار في الخطب، وهَجم وفرسانه على الباشا وحاشيته وقتلوهم جميعاً حرقاً، هاجر بعدها المك نمر إلى الحبشة مع أهله ثم كانت مقتلة الجعليين المُدمِّرة على يد الدفتردار)١٥١٥.
وكانت الحرب التي أشعلها الخايفة عبد الله التعايشي بعد وفاة محمد أحمد المهدي عام ١٨٨٥م. فقد كان التعايشي خليفة المهدي الذي -من المفترض أن يأتي صاحب السلطة- لكن قرابة المهدي من أهله كانوا يرون أنهم الأولى بالخلافة، وهم أشراف. أي من سلالة العَترة النبوية، ومن هنا كانت الحرب.
تحت عنوان: (الخليفة والأشراف) نقرأ: (إن الصراع الذي نَشَبَ بين الخليفة والأشراف عقب وفاة المهدي، هو صراع حول السلطة، وحول من هو المستحق تولي أمر المهدية: هل هم الأشراف بحكم صِلاتهم الرحمية بالمهدي، أم الخليفة بحكم كونه الرجل الثاني في الدولة حتى في حياة المهدي؟. عَبَّأ الخليفة أم درمان عاصمة المهدي وألقى القبض على المتمردين الأشراف بواسطة أهله التعايشة وجنود من قبائل أخرى من دارفور، وكان قد أمر بسجن الأشراف جميعاً فسُجنوا، وعاد الخليفة لخلافة المهدي حتَّى موقعة كرري التي دخل فيها المستعمر (الإنجليزي المصري) السودان غازياً عام ١٨٩٨م، وهرب الخليفة بمن معه من خاصّته، وقُتِلَ في أم دبيكرات في ذات العام الذي دخل فيه الاستعمار)(١١).
في أيام السلطان حسين بن السلطان محمد الفضل الذي حكم دار نور ما بين عامي ١٨٣٩ - ١٨٧٤م كانت واقعة القرطاس بين عرب المعاليا.
نزاعات تَنتَهِي بالصّلح
(١)
كانت أولى الحروب التي انتهت بالصلح الحرب التي أشعلها عبدالله بن أبي سرح مع النوبة في دنقلا (في شمال السودان) عام 652م، هذه الحرب سُمِّيت باسم (اتفاقيه البقط)، ونصَّت على بنود نُورد منها ثلاثة هي:
- الاسم، بقط
- على العرب اجتياز بلاد النوبة (السودان) دون إقامة، وعلى النوبة اجتياز بلاد العرب (مصر الجزيرة العربية) دون إقامة.
- المسجد الذي بناه ابن أبي سرح في دنقلا، وعلى النوبة إسراجه وتعهّده.
وقد دَرَس مؤرّخون هذه الاتفاقية ونشروها بما يتناقض ما هو صحيح. في قاموس د. عون الشريف قاسم جاء اسم بقط Pactum في معنى معاهدة في طبعته الأولى والثانية. أما في الثالثة، فقد رَجَع د. عون الشريف إلى اسم (بَقت) bagit في معنى (القِسمَة) في نوبيّة أهل دنقلا، وكانت كلمة dactam كلمة لاتينيَّة لا يعرفها العرب ولا النوبيون.
بقي العرب في السودان مخالفين عدم البقاء، وهاجر النوبيون وبقوا في بلاد العرب١٦١٦. أما المسجد، فقد درسه آثاريون وتوصلوا إلى أنّه بناء حديث، وفيه قبر لشيخ أخرجوه١٧١٧. على هذ، من الحق أن نَصل إلى أن اتفاقية البقط مشكوك فيها، أو لا وجود لها. لكن، العطاء الذي قدَّمه كل طرف للآخر هو الذي أتى بالصلح بين الفريقين١٨١٨.
(٢)
في غرب السودان تنشَأ الحروب دائماً بين قبائل العرب في بعضهم، وبين العرب والشعوب غير العربية. كانت ومازالت هناك حروب بين السلامات (قبيلة عربية) وبين قبيلة عربية أخرى هي التعايشة وقبيلة الرزيقات ضدّ أولاد حسين، وقبيلة الكبابيش ضدّ الكواهلة الذين هاجروا إلى كردفان، وقبيلة الحوازمة مع نوبا جبال النوبة، وقبائل عربية ضدَّ الزغاوة في شمال دارفور، والزغاوة شعب غير عربي، ونفس القبائل مع المساليت في شمال دارفور. ولكن المهم أن الإدارة الأهلية، في كلٍّ من دارفور وكردفان، من أعرافها الثابتة حلّ الحروب صُلحاً بتَدَخُّل رموز هذه الإدارات الأهلية في الحروب أو النزاعات بين المتحاربين.
السدارنة المحس الذين ساكنوا الشكرية في أرض البطانة كانت لهم حربٌ مع الرفاعيين، القبيلة العربية التي تسكن على ضفاف النيل الأزرق غير بعيد عن السدارنة شَرق رفاعة؛ كان نزاعهم في الحدود بين المتحاربين. وقد كان تدخّل قبيلة رفاعة والشكرية الذين يسكنون على النيل الأزرق في امتدادهم إلى الجنوب الشرقي، قد صالح بين المتحاربين صُلحاً قَضَى أن يتقاسما الحدود بينهم، بشرط أن يستمر الصلح المحكوم به بينهما.
في أول عهدهم بالسكن في أرض البطانة تحت قبيلة الشكرية، كان بين السدارنة والشكرية حرب لم تكتمل. جنود الشكرية تحركوا للحرب وكذلك جنود السدارنة، لكن الصلح بينهما سرعان ما توصلوا إليه بوساطة بعض عقلاء الشكرية، متضامنين مع رموز السدارنة، خاصّة شيخهم عبد الهادي، وكان شاعر السدارنة قاسم ود عتار قد أرَّخ لهذه الحرب فقال:
مع الشكرية عندنا كنترات وعهود
غير حق المحوره يكونوا لينا جدود
دراجين عواطل في الليالي السود
فارسهم من الجَمْع الفقير ما بحود
شرح صاحب كتاب السدارنة كنترات أنه يقصد عقل العهد، والمجوره: الجوار، درّاجين عواطل: يساندون الآخرين عند الشدائد الجمع الفقير: الجيش كتير العدد. ما بْحود: يثبت ولا يعطيه ظهره، وهذا (العهد) بينهما كان ورقة الصلح بينهما١٩١٩.
بعد تهجير النوبيين من أقصى شمال السودان إلى أرض البطانة عامي ١٩٦٣ـ١٩٦٤، صارت لهم حوَّاشات، كل حوّاشة 15 فدان يزرعونها. كان ما يُزرع فيها مُحدَّداً بقرار سلطويّ: الفول السوداني والقطن. وهم لم يألفوا ذلك، كان أمامهم إمكان الزراعة بالعمال الكثيرين المهاجرين إلى مشروع حلفا الجديدة الزراعي. كانوا من غرب إفريقيا ودارفور. وكانت بينهما -النوبيين والمهاجرين- نزاعات كالآتي:
١- قَتَل أحد النوبيين فرداً من غرب إفريقا في نزاع يعود إلى الزراعة، ونهض أهله منذرين بحرب، لكن كان النوبيون على حلّ الأمر بالصلح بين الفريقين: القرية التي منها القاتل وأهل غرب إفريقيا السائرون وراء الصلح، وتوصلوا إلى أن يدفع النوبيون الديَّة. فرضوا على كل بيت 5 جنيهات في كل قراهم الـ26 وفي كلّ قرية ٢٥٠ بيتاً. يعني ٥×٢٦×٢٥٠. وتساوي: ٣٢,٥٠٠. هذا هو المبلغ الذي طلبته أهالي المَقتول. وقد دفعها النوبيّون بعيداً عن الشرطة والمحاكم التي رفضوها. وكان ذلك مبلغاً مهولاً عام ١٩٩١م. هكذا كانت المصالحة التي استمرت إلى الآن.
وفي العام ٢٠١٠م، كان هناك نزاعٌ آخر. كان عمّال حواشات أهل القرية ١٠ بحلفا الجديدة قد أضربوت وتوقفوا عن الزراعة بحجة أنهم عملوا في هذه الحواشات 35 سنة، وهذا كافٍ بأن تؤول الحواشات لهم حيث هم يسكنون فيها. صار هناك جدل بين الفريقين. كان العمال من الزغاوة المنتشرين بين السودان وتشاد حيث فزّان٢٠٢٠، ورفض أهل القرية 10 ذلك، فكان الصدام. قَتَل العمال إمام مسجد القرية ورجلاً، وأوشك أهل القرية الأخرى على التدخّل، لكن أهل الصلح كانوا جاهزين. أهل الصلح كان منهم ثلاثة في الخرطوم، دعوهم فوصلوا لحلفا الجديدة، وصارت هناك مفاوضات مُضنية، توصّل المُصلِحون في ختامها أن يدفع الزغاوة مبلغ دية للقتيلين. فدفعوها. (٦٥٠٠٠ جنيهاً) وعادوا إلى العمل.
صور أشكال الصلح والتصالح
كانت السلطة القائمة في السودان تنظر إلى الدولة مُقسمةً إلى شمال وجنوب. كان الشمال هو الكيان المُسلم والجنوب هو الكيان المسيحي. انفصل الجنوب عام ٢٠١١م. وصارت الدولة المسلمة في الشمال هي الدولة التي يرضاها أصحاب السلطة وغير قليل من الشعب، هنا صار الاحتكام في حالات النزاع الذي ينشب بين الناس، قتلاً كان أم نزاع حدود أو اكتساب أرضٍ بالامتداد أو صراعاً على مرعى ...إلخ. إلى:
- القرآن.
- الحديث.
- الشريعة الإسلامية.
- العرف القبليي
- الفقه.
غالباً يسري ذلك على القبائل العربية البدوية في السودان. إذن، هذا في البادية. وبوادي السودان في شرقه وغربه. يسري ذلك على البدو العرب باستثناء الحرب التي كانت بين العرب المسلمين والنوبة المسيحيين في اتفاقية البقط في القرن السابع الميلادي عام ٦٥٢م. كان ذلك صلحاً بعد حرب بمقابل من المهزوم. النوبة المسيحين، وشيء من عدس وغيره يدفعه لهم المنتصرون٢١٢١.
الأجواد (الأجاويد) يُعتبرون من العلماء أهل الرأي الصواب الذين يفضّون النزاعات بين الناس بالحسنى٢٢٢٢. وهم من الحكماء. إضافة إلى أصحاب السلطة، قبلية كانت أم أهلية، وسعيهم نحو العمل العام بقدرٍ دائماً، كالعُمَد مثلاً، أما نُظّار القبائل ورجال الدين والصوفية لهم أصحاب سهم عالٍ عند الجميع، وكلامهم سموع.
في الفقه الإسلامي نجد أن غالب أهل السودان على مذهب الإمام مالك، وأهل أقصى شرق السودان على المذهب الشافعي، وفيهم من هو على مذهب أبي حنيفة. واستخدام الفقه كحاكم قليل. ذلك لأنه مُختلفٌ بين الأئمة الأربعة، وغالباً ما يكون في اعتمادات الصُلح نظار القبائل وأهل الدين والصوفية والأجاويد.
في حالة النية على فضّ نزاع، يتنادى المعنيّون بالقيام بالصلح ويجتمعون. فيهم الذين سيتفاوضون بين الطرفين. نُظّار القبائل دائماً ما يُختَارُون للأمور الكبيرة كالحرب والقتل. أما الأمور الصغيرة يمكن أن تُحلّ من دونهم، مثل الصراع على امتداد في الأرض على الحدود، أو نزاع في مرعى فمتروك للآخرين. يجتمع الناوون حلّ نزاعٍ ما، ويتداولون طُرُق الحل، يقولون ما يقولونه عند فضّ النزاع، ويتّفقون عليه مقدّمين العرف القبلي غالباً في حالات النزاع.
في الاجتماع ذاته، يختارون الوفد الذي سينهَض بفضّ النزاع، كلما كان الوفد كبير العدد كلّما كانت هيبته أكبر. هنا يتفق المجتمعون على رجال الوفد من هم. وفي دارفور وكردفان، من المهم استصحاب حَكَّامة. والحكَّامة شاعرة ترتجل ما تقول مَدحَاً للمتنازعين وللحضور، وترتجل شعراً في شرور النزاعات. ويساعد ذلك في تقريب المسافة بين المتخاصمين وما تقول الحكَّامة مهم جداً، لأنه من الممكن أن تهجو من مَدَحت من قبل ليعود إلى عارٍ له.
هناك أمران للجلوس لفضّ النزاع:
١- طلب المتنازعين للحضور في موضع محدد في يوم محدد.
أن يكون عند ناظر يستضيفهم.
٢- الذهاب إليهم في موضع محدد في يوم محدد.
هنا يرسل مناديب لكل من المتنازعين. أفراد من اثنين أو ثلاثة من المعروفين للطرفين. للاتفاق على الجلوس لفض النزاع أولاً، ثم تحديد الزمان والمكان المحددين، وعلى كل منهما اختيار وفدهم الذي سيحضر فض النزاع. المدخل الكلامي لأهل النزاع العرف القبلي غالباً، والتوافق من أطراف النزاع على ما يقول الوفدين دائماً يأتي عند الاقتناع بما قالا، وفي حالات الرفض على المتنازعين الاحتكام إلى القضاء الذي هو غير مرغوب دائماً.
يحضر المتنازعين إلى المكان المحدد والزمان أو يذهب أصحاب فض النزاع في المكان والزمان، تُفتَتح الجلسة بالقرآن الكريم من واحد رجال الدين، وتحوي قراءته علی آیات تدعو إلى السلام:
و(جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) الآية
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) الآية
(إسلام قولاً من رب رحيم) الآية
... إلخ.
تتلو ذلك دعوى صوفية طويلة في انتباه الجميع لما يقول الصوفي بعدها، يجلس فاضو النزاع من المتنازعين متواجهين.
بعد الأيادي المرفوعة في دعوة الصوفي. يشرع القائمون بفض النزاع في تقديم الحَكَّامة٢٣٢٣، لتقول ما تقول. ثم يأتي دورهم في الكلام الذي اتفقوا عليه سلفاً، مع ترصّد خَلَجات أهل النزاع الذين يؤمِّنون على ما قال الفرد من أهل النزاع، أو يرفضونه في أسلوب مهذب، لكن، في كل الأحوال، نجد أن أهل فض النزاع أكثر حِنكَة وحِكمة وتمرساً في الإقناع. هكذا يؤدّي كلٌّ دوره. وإن كان تم رضاء من الطرفين على الصلح لا بد من ذبائح لاستضافة ضيوفهم.
من المُسلَّم به أن الحضور كلهم مسلمون. لذا دائماً ما يصل الحضور جميعاً إلى قناعة تامة بأن الصلح خَيْر، وتُرفَع الفاتحة بقراءة آيات قرآنية في معنى السلم أو كلام بالأخوة الإسلامية في الإسلام، وكل هذا يحدث فيما عدا القَتل، لأنه – حسب الإسلامية- دَفع الديَّة. وهذا دور الصوفية ورجال الدين يُباركونه. وغالباً ما يُدفع في الحال.
صورة الغلاف © مجلس وقضاة، الفاشر ١٩٥٠ إرشيف السودان لجامعة دورهام
الجبة
الجبة
الجبة
الجبّة تعتبر رمزاً مهدوياً/ صوفياً للزهد والبساطة واحتقار الدنيا، وأشكالها تكون كيفما أُتفق وتفتقر إلى التزويق. وكانت رمزية الجبّة هي أنها محاولة لتشجيع الوحدة الوطنية في أوساط الأنصار، وترمز الرّقع إلى مكانة مُرتديها ومركزه. في بداية عهد الخليفة أصبح البعض يتفنّن في تزويق أنماطها. وفي السنوات الأخيرة للمهدية، بدأ تحوّل الجبّة المرقّعة إلى زي بالغ التأنّق تستخدم فيه أقمشة إنجليزيّة ومصريّة، ويتطلّب صنعه مهارات مهنيّة عالية، فقد أصبحت تلك القطع التي تخاط على قماش الجبّة توضع بكثير من الاهتمام الفنّي والتوازن والتماثل. كما أصبحت الجبب المهدوية تخاط بصورة شخصية للغاية.
لم تكن الجبة هي الزي الوحيد المميز للأنصار، فقد ارتدى الأنصار أيضاً جلابية جناح أم جَكّو؛ وهي جلابية صُممت لتُلبس بالاتجاهين على عجل بتصميم يساعد على امتطاء الجواد بسرعة، كما يُراعي التصميم للجو الصحراوي، ويكون ثوباً اقتصادياً يساعد لبسه بالجانبين على ألا يبلى بسرعة من كثرة الجلوس في حلقة الذكر.
الطاقية ام قرينات
ظهرت الطاقية أم قرينات في الممالك المسيحية ثم في سلطة الفونج الإسلامية في سنّار (١٥٠٤-١٨٢١م)؛ حيث ارتداها الملوك وأصبح ارتداؤها - لاحقاً - يدل على التميز والمكانة العالية. وبعد انهيار وتفكك السلطنة أصبحت تستخدم في ممارسات بعض الطرق الصوفية حتى وقت المهدية، حيث كانت تستخدم في التتويج السنّاري عند ترقّي السالك في الطريقة وانتقاله لمقام الشيخ، ويرتديها المتصوفة حتى يومنا هذا في هذه الطقوس في حلقات الذكر. أما في فترة الدولة المهدية فقد كان يتميز بارتدائها الأمراء وأفراد حرس الخليفة المعروفين بإسم المشمراتية.
العمامة البيضاء
ارتدى الرجال مع الجبة العمامة البيضاء بحافة تنزل الى الكتف وتسمى العَزَبة، وتحتها طاقية الطرطور مخروطية الشكل التي تميز بها الأنصار، أو طاقية القش.
صورة الغلاف:جبة من مجموعة بيت الخليفة © نوري طه، تمت إضافته بواسطة إسحاق أليسون، ١٨ مارس ٢٠٢٣، أعيد إنتاجه بإذن من المجلس الثقافي البريطاني. تصوير نوري طه.
الجبة
الجبّة تعتبر رمزاً مهدوياً/ صوفياً للزهد والبساطة واحتقار الدنيا، وأشكالها تكون كيفما أُتفق وتفتقر إلى التزويق. وكانت رمزية الجبّة هي أنها محاولة لتشجيع الوحدة الوطنية في أوساط الأنصار، وترمز الرّقع إلى مكانة مُرتديها ومركزه. في بداية عهد الخليفة أصبح البعض يتفنّن في تزويق أنماطها. وفي السنوات الأخيرة للمهدية، بدأ تحوّل الجبّة المرقّعة إلى زي بالغ التأنّق تستخدم فيه أقمشة إنجليزيّة ومصريّة، ويتطلّب صنعه مهارات مهنيّة عالية، فقد أصبحت تلك القطع التي تخاط على قماش الجبّة توضع بكثير من الاهتمام الفنّي والتوازن والتماثل. كما أصبحت الجبب المهدوية تخاط بصورة شخصية للغاية.
لم تكن الجبة هي الزي الوحيد المميز للأنصار، فقد ارتدى الأنصار أيضاً جلابية جناح أم جَكّو؛ وهي جلابية صُممت لتُلبس بالاتجاهين على عجل بتصميم يساعد على امتطاء الجواد بسرعة، كما يُراعي التصميم للجو الصحراوي، ويكون ثوباً اقتصادياً يساعد لبسه بالجانبين على ألا يبلى بسرعة من كثرة الجلوس في حلقة الذكر.
الطاقية ام قرينات
ظهرت الطاقية أم قرينات في الممالك المسيحية ثم في سلطة الفونج الإسلامية في سنّار (١٥٠٤-١٨٢١م)؛ حيث ارتداها الملوك وأصبح ارتداؤها - لاحقاً - يدل على التميز والمكانة العالية. وبعد انهيار وتفكك السلطنة أصبحت تستخدم في ممارسات بعض الطرق الصوفية حتى وقت المهدية، حيث كانت تستخدم في التتويج السنّاري عند ترقّي السالك في الطريقة وانتقاله لمقام الشيخ، ويرتديها المتصوفة حتى يومنا هذا في هذه الطقوس في حلقات الذكر. أما في فترة الدولة المهدية فقد كان يتميز بارتدائها الأمراء وأفراد حرس الخليفة المعروفين بإسم المشمراتية.
العمامة البيضاء
ارتدى الرجال مع الجبة العمامة البيضاء بحافة تنزل الى الكتف وتسمى العَزَبة، وتحتها طاقية الطرطور مخروطية الشكل التي تميز بها الأنصار، أو طاقية القش.
صورة الغلاف:جبة من مجموعة بيت الخليفة © نوري طه، تمت إضافته بواسطة إسحاق أليسون، ١٨ مارس ٢٠٢٣، أعيد إنتاجه بإذن من المجلس الثقافي البريطاني. تصوير نوري طه.
الجبة
الجبّة تعتبر رمزاً مهدوياً/ صوفياً للزهد والبساطة واحتقار الدنيا، وأشكالها تكون كيفما أُتفق وتفتقر إلى التزويق. وكانت رمزية الجبّة هي أنها محاولة لتشجيع الوحدة الوطنية في أوساط الأنصار، وترمز الرّقع إلى مكانة مُرتديها ومركزه. في بداية عهد الخليفة أصبح البعض يتفنّن في تزويق أنماطها. وفي السنوات الأخيرة للمهدية، بدأ تحوّل الجبّة المرقّعة إلى زي بالغ التأنّق تستخدم فيه أقمشة إنجليزيّة ومصريّة، ويتطلّب صنعه مهارات مهنيّة عالية، فقد أصبحت تلك القطع التي تخاط على قماش الجبّة توضع بكثير من الاهتمام الفنّي والتوازن والتماثل. كما أصبحت الجبب المهدوية تخاط بصورة شخصية للغاية.
لم تكن الجبة هي الزي الوحيد المميز للأنصار، فقد ارتدى الأنصار أيضاً جلابية جناح أم جَكّو؛ وهي جلابية صُممت لتُلبس بالاتجاهين على عجل بتصميم يساعد على امتطاء الجواد بسرعة، كما يُراعي التصميم للجو الصحراوي، ويكون ثوباً اقتصادياً يساعد لبسه بالجانبين على ألا يبلى بسرعة من كثرة الجلوس في حلقة الذكر.
الطاقية ام قرينات
ظهرت الطاقية أم قرينات في الممالك المسيحية ثم في سلطة الفونج الإسلامية في سنّار (١٥٠٤-١٨٢١م)؛ حيث ارتداها الملوك وأصبح ارتداؤها - لاحقاً - يدل على التميز والمكانة العالية. وبعد انهيار وتفكك السلطنة أصبحت تستخدم في ممارسات بعض الطرق الصوفية حتى وقت المهدية، حيث كانت تستخدم في التتويج السنّاري عند ترقّي السالك في الطريقة وانتقاله لمقام الشيخ، ويرتديها المتصوفة حتى يومنا هذا في هذه الطقوس في حلقات الذكر. أما في فترة الدولة المهدية فقد كان يتميز بارتدائها الأمراء وأفراد حرس الخليفة المعروفين بإسم المشمراتية.
العمامة البيضاء
ارتدى الرجال مع الجبة العمامة البيضاء بحافة تنزل الى الكتف وتسمى العَزَبة، وتحتها طاقية الطرطور مخروطية الشكل التي تميز بها الأنصار، أو طاقية القش.
صورة الغلاف:جبة من مجموعة بيت الخليفة © نوري طه، تمت إضافته بواسطة إسحاق أليسون، ١٨ مارس ٢٠٢٣، أعيد إنتاجه بإذن من المجلس الثقافي البريطاني. تصوير نوري طه.
فضاءات السلام والحرب
الحياة مليئة بالتعقيدات. يمكن أن يوجد السلام والصراع في مكان واحد سواء كان ذلك تحت شجرة أو في قاعة محكمة أو حتى في حلبة مصارعة.
مصارعة النوبة
مصارعة النوبة
كيف تحولت المصارعة السودانية من طقس ثقافي بجبال النوبة إلى رياضة شعبية واسعة الانتشار؟
بقلم: مجاهد الدومة
نُشرت لأول مرة بموقع (بيم ريبورتس) بتاريخ ١/١٢/٢٠٢٢
للوهلة الأولى التي تسمع فيها هتافات وتشجيع الجمهور، قد تعتقد أنك في حدث يخص كرة القدم، ولكن ما إن تقترب للساحة التي يحفها المشجعون، حتى ينكشف الأمر، فهناك مصارعان يتوسطان ساحة مفروشة بالرمل، ويتعاركان بالأيدي في سبيل إسقاط المنافس أرضاً والفوز بإحدى جولات المصارعة السودانية (الصُراع).
وللمصارعة (الصُّراع) تاريخ ضارب القدم في جنوب كردفان (إقليم جبال النوبة)، حيث بدأت من هناك كممارسة ثقافية وجزء من هوية المجموعات القبلية المختلفة وهي ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية كذلك.
ارتبط الصُراع في الأساس بالاحتفالات والمهرجانات المصاحبة لموسم الحصاد؛ ما بين أغسطس وديسمبر من كل عام. حيث تتضمن عرضاً فنياً يقدمه المتصارعون قبل المباراة. وجزء من هذه الثقافة، أن لكل مجموعة قبلية عدداً من المصارعين الشُبان التي تحرص على تدريبهم وخلق نظام غذائي متكامل (يتضمن اللبن الطازج واللحوم والعسل والسمسم) حتى يتمكنوا من منافسة المصارعين من المجموعات القبلية الأخرى.
فضاءات جديدة
مع الحروب الأهلية المتواترة التي شهدها السودان، والتي كان إقليم جنوب كردفان ضمن نطاقها، فإن الكثيرين بدأوا في النزوح منذ السبعينات، هرباً من ويلات الحروب، وبحثاً عن مساحات جديدة وآمنة. وحملت حركة النزوح، التي كانت إلى عدد من الولايات الأخرى، ولكنها تمركزت في العاصمة الخرطوم وأطرافها بصورة كبيرة، علاوة على تراث وثقافة وطقوس المجموعات النازحة، مثل الرقصات ومنها (الكرنك، الكمبلا) وكذلك المصارعة. لتلقى الأخيرة إقبالاً واسعاً كرياضة، ولاحقاً انشأت العديد من حلبات المصارعة في منطقة الحاج يوسف (شرق النيل) ومنطقة أبو حمد (مدينة أمدرمان) حيث يتجمع فيها جمهورمتنوع من السودانيين والأجانب مرتين كل أسبوع من أجل الفرجة وتشجيع المصارعين.
صاحب تحول المصارعة من كونها ممارسة ثقافية إلى رياضة تغييراً في بعض قواعدها، وحتى الطريقة التي يتزين بها المصارعون (الفرسان كما يطلق عليهم في جبال النوبة) وأصبح لهذه الرياضة قوانين وقواعد تحكمها، كما وأنه تأسس اتحاد المصارعة السودانية الذي يشرف عليها. وصار انتماء اللاعبين إلى أندية وليس إلى مجموعاتهم القبيلة التي يتحدرون منها.
ونظراً للتشابه الكبير بين المصارعة السودانية ومصارعة السومو اليابانية، فقد شهدت ساحات المصارعة السودانية مشاركة بعض اليابانيين فيها، ومن ضمنهم الدبلوماسي الياباني ياسوهيرو موروتاتسو في عدة مناسبات.
في مارس 2022 اختتمت بمدينة خشم القربة (ولاية كسلا) الدورة الخامسة لبطولة الجمهورية للمصارعة. الفعالية التي بدأ الاتحاد الرياضي السوداني للمصارعة في تنظيمها لأول مرة في العام 2017م بمدينة الخرطوم، لتصبح بعدها محفلاً سنوياً شهدته كل من: ولايات القضارف، كسلا، النيل الأزرق ثم كسلا مرة أخرى في مارس 2022م. حيث جاءت البطولة تحت شعار “بالمصارعة نعزز السلام” وشاركت فيها ست ولايات؛ وهي: جنوب كردفان – النيل الأبيض – القضارف – الخرطوم – البحر الأحمر وكسلا) فيما اعتذرت ولايات غرب وشمال كردفان، وسنار والشمالية والنيل الأزرق.
مشاركات دولية
خلال الأعوام الماضية، شارك منتخب السودان للمصارعة في عدد من البطولات الأفريقية والعربية، واستطاع المنتخب، أن يظفر بعدد مقدر من التتويجات والميداليات؛ ميداليتين برونزيتين في البطولة الأفريقية في نيجيريا عام 2018م، وخمس ميداليات أخرى بالبطولة العربية في شرم الشيخ (جمهورية مصر العربية). وعزز المنتخب من خبرته ومشاركته العالمية ليتوج ذلك بحصد 12 ميدالية في البطولة العربية 2019م وبطولة إبراهيم مصطفى الدولية.
وشهد مايو الماضي اختراقاً جديداً للمصارعة السودانية في المحافل الدولية، حيث حققت لاعبة المصارعة السودانية، باتريسيا سيف الدين، وهي أول مصارعة تشارك في بطولة خارجية، المركز الثالث والميدالية البرونزية في وزن 68 كجم خلال البطولة الأفريقية التي استضافتها المغرب بمشاركة 34 دولة.
وتجدر الإشارة إلى أن باتريسيا هي واحدة ضمن فتيات كثر انخرطنْ في رياضة المصارعة، ضمن مشروع اكتشاف المواهب، البرنامج الذي ينظم بشراكة بين اللجنة الأولمبية الدولية والاتحادات الدولية، الأمر الذي استفاد منه اتحاد المصارعة في العام 2018م. وحجزت باتريسيا أحد المراكز الأولى ضمن برنامج المواهب، وهي تخوض استعداداتٍ للمشاركة في أولمبياد باريس 2024م.
أجيال جديدة
عزز ازدهار المصارعة وقدرتها على خلق جمهور من كل الفئات العمرية من ضرورة وجود مؤسسات ترعى وتقدم التدريب للأجيال الشابة من الجنسين، وهو ما شرع فيه اتحاد المصارعة بتنظيمه دورة الفنون القتالية للبنين والبنات (ما بين 7 – 19 سنة) في سبيل تطوير رياضة المصارعة عبر توفير التدريب والمهارات اللازمة لها.
وشهد يوليو من العام الماضي، إقامة الدورة الخامسة من مشروع مدرسة الفنون القتالية، المشروع الذي يستهدف طلاب وطالبات المدارس، حيث شارك ١٥٠ طالباً وطالبة من مدرستي الوحدة الوطنية أساس بنين وبنات (شرق النيل). وينفذ المشروع بواسطة الاتحاد الرياضي السوداني للمصارعة عن طريقة شراكة مع المركز الدولي للفنون القتالية (دولة كوريا الجنوبية) تحت رعاية منظمة اليونسكو.
انتشار المصارعة وتحولها من نشاط اجتماعي وطقوسي ارتبط بمواسم الحصاد والاحتفالات في إقليم جبال النوبة، إلى رياضة تنتشر في أرجاء السودان المختلفة، ويتابعها جمهور متنوع، يُقدّم ملمحاً عن التداخل الثقافي بين كقيمة تعتمد على انفتاح هذه الثقافات على بعضها البعض.
يعرض الفيديو لقطات من مهرجان النوبة ٢٠٢٠ الذي أقيم في الخرطوم، وتضمن المهرجان الرقص التقليدي ومصارعة النوبة التقليدية، وهي رياضة شعبية تجذب مئات الأشخاص كل أسبوع لمشاهدتها. تم تصويره من قبل ابراهيم سنوب لمشروع المتاحف المجتمعية في غرب السودان
صورة الغلاف: كل يوم جمعة، تجري المصارعة السودانية بين قبائل النوبة وجنوب السودان في حاج يوسف © محمد عثمان، الخرطوم
كيف تحولت المصارعة السودانية من طقس ثقافي بجبال النوبة إلى رياضة شعبية واسعة الانتشار؟
بقلم: مجاهد الدومة
نُشرت لأول مرة بموقع (بيم ريبورتس) بتاريخ ١/١٢/٢٠٢٢
للوهلة الأولى التي تسمع فيها هتافات وتشجيع الجمهور، قد تعتقد أنك في حدث يخص كرة القدم، ولكن ما إن تقترب للساحة التي يحفها المشجعون، حتى ينكشف الأمر، فهناك مصارعان يتوسطان ساحة مفروشة بالرمل، ويتعاركان بالأيدي في سبيل إسقاط المنافس أرضاً والفوز بإحدى جولات المصارعة السودانية (الصُراع).
وللمصارعة (الصُّراع) تاريخ ضارب القدم في جنوب كردفان (إقليم جبال النوبة)، حيث بدأت من هناك كممارسة ثقافية وجزء من هوية المجموعات القبلية المختلفة وهي ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية كذلك.
ارتبط الصُراع في الأساس بالاحتفالات والمهرجانات المصاحبة لموسم الحصاد؛ ما بين أغسطس وديسمبر من كل عام. حيث تتضمن عرضاً فنياً يقدمه المتصارعون قبل المباراة. وجزء من هذه الثقافة، أن لكل مجموعة قبلية عدداً من المصارعين الشُبان التي تحرص على تدريبهم وخلق نظام غذائي متكامل (يتضمن اللبن الطازج واللحوم والعسل والسمسم) حتى يتمكنوا من منافسة المصارعين من المجموعات القبلية الأخرى.
فضاءات جديدة
مع الحروب الأهلية المتواترة التي شهدها السودان، والتي كان إقليم جنوب كردفان ضمن نطاقها، فإن الكثيرين بدأوا في النزوح منذ السبعينات، هرباً من ويلات الحروب، وبحثاً عن مساحات جديدة وآمنة. وحملت حركة النزوح، التي كانت إلى عدد من الولايات الأخرى، ولكنها تمركزت في العاصمة الخرطوم وأطرافها بصورة كبيرة، علاوة على تراث وثقافة وطقوس المجموعات النازحة، مثل الرقصات ومنها (الكرنك، الكمبلا) وكذلك المصارعة. لتلقى الأخيرة إقبالاً واسعاً كرياضة، ولاحقاً انشأت العديد من حلبات المصارعة في منطقة الحاج يوسف (شرق النيل) ومنطقة أبو حمد (مدينة أمدرمان) حيث يتجمع فيها جمهورمتنوع من السودانيين والأجانب مرتين كل أسبوع من أجل الفرجة وتشجيع المصارعين.
صاحب تحول المصارعة من كونها ممارسة ثقافية إلى رياضة تغييراً في بعض قواعدها، وحتى الطريقة التي يتزين بها المصارعون (الفرسان كما يطلق عليهم في جبال النوبة) وأصبح لهذه الرياضة قوانين وقواعد تحكمها، كما وأنه تأسس اتحاد المصارعة السودانية الذي يشرف عليها. وصار انتماء اللاعبين إلى أندية وليس إلى مجموعاتهم القبيلة التي يتحدرون منها.
ونظراً للتشابه الكبير بين المصارعة السودانية ومصارعة السومو اليابانية، فقد شهدت ساحات المصارعة السودانية مشاركة بعض اليابانيين فيها، ومن ضمنهم الدبلوماسي الياباني ياسوهيرو موروتاتسو في عدة مناسبات.
في مارس 2022 اختتمت بمدينة خشم القربة (ولاية كسلا) الدورة الخامسة لبطولة الجمهورية للمصارعة. الفعالية التي بدأ الاتحاد الرياضي السوداني للمصارعة في تنظيمها لأول مرة في العام 2017م بمدينة الخرطوم، لتصبح بعدها محفلاً سنوياً شهدته كل من: ولايات القضارف، كسلا، النيل الأزرق ثم كسلا مرة أخرى في مارس 2022م. حيث جاءت البطولة تحت شعار “بالمصارعة نعزز السلام” وشاركت فيها ست ولايات؛ وهي: جنوب كردفان – النيل الأبيض – القضارف – الخرطوم – البحر الأحمر وكسلا) فيما اعتذرت ولايات غرب وشمال كردفان، وسنار والشمالية والنيل الأزرق.
مشاركات دولية
خلال الأعوام الماضية، شارك منتخب السودان للمصارعة في عدد من البطولات الأفريقية والعربية، واستطاع المنتخب، أن يظفر بعدد مقدر من التتويجات والميداليات؛ ميداليتين برونزيتين في البطولة الأفريقية في نيجيريا عام 2018م، وخمس ميداليات أخرى بالبطولة العربية في شرم الشيخ (جمهورية مصر العربية). وعزز المنتخب من خبرته ومشاركته العالمية ليتوج ذلك بحصد 12 ميدالية في البطولة العربية 2019م وبطولة إبراهيم مصطفى الدولية.
وشهد مايو الماضي اختراقاً جديداً للمصارعة السودانية في المحافل الدولية، حيث حققت لاعبة المصارعة السودانية، باتريسيا سيف الدين، وهي أول مصارعة تشارك في بطولة خارجية، المركز الثالث والميدالية البرونزية في وزن 68 كجم خلال البطولة الأفريقية التي استضافتها المغرب بمشاركة 34 دولة.
وتجدر الإشارة إلى أن باتريسيا هي واحدة ضمن فتيات كثر انخرطنْ في رياضة المصارعة، ضمن مشروع اكتشاف المواهب، البرنامج الذي ينظم بشراكة بين اللجنة الأولمبية الدولية والاتحادات الدولية، الأمر الذي استفاد منه اتحاد المصارعة في العام 2018م. وحجزت باتريسيا أحد المراكز الأولى ضمن برنامج المواهب، وهي تخوض استعداداتٍ للمشاركة في أولمبياد باريس 2024م.
أجيال جديدة
عزز ازدهار المصارعة وقدرتها على خلق جمهور من كل الفئات العمرية من ضرورة وجود مؤسسات ترعى وتقدم التدريب للأجيال الشابة من الجنسين، وهو ما شرع فيه اتحاد المصارعة بتنظيمه دورة الفنون القتالية للبنين والبنات (ما بين 7 – 19 سنة) في سبيل تطوير رياضة المصارعة عبر توفير التدريب والمهارات اللازمة لها.
وشهد يوليو من العام الماضي، إقامة الدورة الخامسة من مشروع مدرسة الفنون القتالية، المشروع الذي يستهدف طلاب وطالبات المدارس، حيث شارك ١٥٠ طالباً وطالبة من مدرستي الوحدة الوطنية أساس بنين وبنات (شرق النيل). وينفذ المشروع بواسطة الاتحاد الرياضي السوداني للمصارعة عن طريقة شراكة مع المركز الدولي للفنون القتالية (دولة كوريا الجنوبية) تحت رعاية منظمة اليونسكو.
انتشار المصارعة وتحولها من نشاط اجتماعي وطقوسي ارتبط بمواسم الحصاد والاحتفالات في إقليم جبال النوبة، إلى رياضة تنتشر في أرجاء السودان المختلفة، ويتابعها جمهور متنوع، يُقدّم ملمحاً عن التداخل الثقافي بين كقيمة تعتمد على انفتاح هذه الثقافات على بعضها البعض.
يعرض الفيديو لقطات من مهرجان النوبة ٢٠٢٠ الذي أقيم في الخرطوم، وتضمن المهرجان الرقص التقليدي ومصارعة النوبة التقليدية، وهي رياضة شعبية تجذب مئات الأشخاص كل أسبوع لمشاهدتها. تم تصويره من قبل ابراهيم سنوب لمشروع المتاحف المجتمعية في غرب السودان
صورة الغلاف: كل يوم جمعة، تجري المصارعة السودانية بين قبائل النوبة وجنوب السودان في حاج يوسف © محمد عثمان، الخرطوم
كيف تحولت المصارعة السودانية من طقس ثقافي بجبال النوبة إلى رياضة شعبية واسعة الانتشار؟
بقلم: مجاهد الدومة
نُشرت لأول مرة بموقع (بيم ريبورتس) بتاريخ ١/١٢/٢٠٢٢
للوهلة الأولى التي تسمع فيها هتافات وتشجيع الجمهور، قد تعتقد أنك في حدث يخص كرة القدم، ولكن ما إن تقترب للساحة التي يحفها المشجعون، حتى ينكشف الأمر، فهناك مصارعان يتوسطان ساحة مفروشة بالرمل، ويتعاركان بالأيدي في سبيل إسقاط المنافس أرضاً والفوز بإحدى جولات المصارعة السودانية (الصُراع).
وللمصارعة (الصُّراع) تاريخ ضارب القدم في جنوب كردفان (إقليم جبال النوبة)، حيث بدأت من هناك كممارسة ثقافية وجزء من هوية المجموعات القبلية المختلفة وهي ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية كذلك.
ارتبط الصُراع في الأساس بالاحتفالات والمهرجانات المصاحبة لموسم الحصاد؛ ما بين أغسطس وديسمبر من كل عام. حيث تتضمن عرضاً فنياً يقدمه المتصارعون قبل المباراة. وجزء من هذه الثقافة، أن لكل مجموعة قبلية عدداً من المصارعين الشُبان التي تحرص على تدريبهم وخلق نظام غذائي متكامل (يتضمن اللبن الطازج واللحوم والعسل والسمسم) حتى يتمكنوا من منافسة المصارعين من المجموعات القبلية الأخرى.
فضاءات جديدة
مع الحروب الأهلية المتواترة التي شهدها السودان، والتي كان إقليم جنوب كردفان ضمن نطاقها، فإن الكثيرين بدأوا في النزوح منذ السبعينات، هرباً من ويلات الحروب، وبحثاً عن مساحات جديدة وآمنة. وحملت حركة النزوح، التي كانت إلى عدد من الولايات الأخرى، ولكنها تمركزت في العاصمة الخرطوم وأطرافها بصورة كبيرة، علاوة على تراث وثقافة وطقوس المجموعات النازحة، مثل الرقصات ومنها (الكرنك، الكمبلا) وكذلك المصارعة. لتلقى الأخيرة إقبالاً واسعاً كرياضة، ولاحقاً انشأت العديد من حلبات المصارعة في منطقة الحاج يوسف (شرق النيل) ومنطقة أبو حمد (مدينة أمدرمان) حيث يتجمع فيها جمهورمتنوع من السودانيين والأجانب مرتين كل أسبوع من أجل الفرجة وتشجيع المصارعين.
صاحب تحول المصارعة من كونها ممارسة ثقافية إلى رياضة تغييراً في بعض قواعدها، وحتى الطريقة التي يتزين بها المصارعون (الفرسان كما يطلق عليهم في جبال النوبة) وأصبح لهذه الرياضة قوانين وقواعد تحكمها، كما وأنه تأسس اتحاد المصارعة السودانية الذي يشرف عليها. وصار انتماء اللاعبين إلى أندية وليس إلى مجموعاتهم القبيلة التي يتحدرون منها.
ونظراً للتشابه الكبير بين المصارعة السودانية ومصارعة السومو اليابانية، فقد شهدت ساحات المصارعة السودانية مشاركة بعض اليابانيين فيها، ومن ضمنهم الدبلوماسي الياباني ياسوهيرو موروتاتسو في عدة مناسبات.
في مارس 2022 اختتمت بمدينة خشم القربة (ولاية كسلا) الدورة الخامسة لبطولة الجمهورية للمصارعة. الفعالية التي بدأ الاتحاد الرياضي السوداني للمصارعة في تنظيمها لأول مرة في العام 2017م بمدينة الخرطوم، لتصبح بعدها محفلاً سنوياً شهدته كل من: ولايات القضارف، كسلا، النيل الأزرق ثم كسلا مرة أخرى في مارس 2022م. حيث جاءت البطولة تحت شعار “بالمصارعة نعزز السلام” وشاركت فيها ست ولايات؛ وهي: جنوب كردفان – النيل الأبيض – القضارف – الخرطوم – البحر الأحمر وكسلا) فيما اعتذرت ولايات غرب وشمال كردفان، وسنار والشمالية والنيل الأزرق.
مشاركات دولية
خلال الأعوام الماضية، شارك منتخب السودان للمصارعة في عدد من البطولات الأفريقية والعربية، واستطاع المنتخب، أن يظفر بعدد مقدر من التتويجات والميداليات؛ ميداليتين برونزيتين في البطولة الأفريقية في نيجيريا عام 2018م، وخمس ميداليات أخرى بالبطولة العربية في شرم الشيخ (جمهورية مصر العربية). وعزز المنتخب من خبرته ومشاركته العالمية ليتوج ذلك بحصد 12 ميدالية في البطولة العربية 2019م وبطولة إبراهيم مصطفى الدولية.
وشهد مايو الماضي اختراقاً جديداً للمصارعة السودانية في المحافل الدولية، حيث حققت لاعبة المصارعة السودانية، باتريسيا سيف الدين، وهي أول مصارعة تشارك في بطولة خارجية، المركز الثالث والميدالية البرونزية في وزن 68 كجم خلال البطولة الأفريقية التي استضافتها المغرب بمشاركة 34 دولة.
وتجدر الإشارة إلى أن باتريسيا هي واحدة ضمن فتيات كثر انخرطنْ في رياضة المصارعة، ضمن مشروع اكتشاف المواهب، البرنامج الذي ينظم بشراكة بين اللجنة الأولمبية الدولية والاتحادات الدولية، الأمر الذي استفاد منه اتحاد المصارعة في العام 2018م. وحجزت باتريسيا أحد المراكز الأولى ضمن برنامج المواهب، وهي تخوض استعداداتٍ للمشاركة في أولمبياد باريس 2024م.
أجيال جديدة
عزز ازدهار المصارعة وقدرتها على خلق جمهور من كل الفئات العمرية من ضرورة وجود مؤسسات ترعى وتقدم التدريب للأجيال الشابة من الجنسين، وهو ما شرع فيه اتحاد المصارعة بتنظيمه دورة الفنون القتالية للبنين والبنات (ما بين 7 – 19 سنة) في سبيل تطوير رياضة المصارعة عبر توفير التدريب والمهارات اللازمة لها.
وشهد يوليو من العام الماضي، إقامة الدورة الخامسة من مشروع مدرسة الفنون القتالية، المشروع الذي يستهدف طلاب وطالبات المدارس، حيث شارك ١٥٠ طالباً وطالبة من مدرستي الوحدة الوطنية أساس بنين وبنات (شرق النيل). وينفذ المشروع بواسطة الاتحاد الرياضي السوداني للمصارعة عن طريقة شراكة مع المركز الدولي للفنون القتالية (دولة كوريا الجنوبية) تحت رعاية منظمة اليونسكو.
انتشار المصارعة وتحولها من نشاط اجتماعي وطقوسي ارتبط بمواسم الحصاد والاحتفالات في إقليم جبال النوبة، إلى رياضة تنتشر في أرجاء السودان المختلفة، ويتابعها جمهور متنوع، يُقدّم ملمحاً عن التداخل الثقافي بين كقيمة تعتمد على انفتاح هذه الثقافات على بعضها البعض.
يعرض الفيديو لقطات من مهرجان النوبة ٢٠٢٠ الذي أقيم في الخرطوم، وتضمن المهرجان الرقص التقليدي ومصارعة النوبة التقليدية، وهي رياضة شعبية تجذب مئات الأشخاص كل أسبوع لمشاهدتها. تم تصويره من قبل ابراهيم سنوب لمشروع المتاحف المجتمعية في غرب السودان
صورة الغلاف: كل يوم جمعة، تجري المصارعة السودانية بين قبائل النوبة وجنوب السودان في حاج يوسف © محمد عثمان، الخرطوم
ديوان الشورى
ديوان الشورى
ديوان الشورى
يُعد ديوان الشورى من أهمّ الأماكن ببيت الخليفة؛ ففيه كان يجلس الخليفة عبد الله للتشاور وتبادل الآراء مع كبار قادة الدولة المهديّة، إذ كان نظام الشورى هو آليّة صُنع القرار في الدولة المهديّة، وبه كان يُعقد الاجتماع السنويّ لمجلس الشورى، كما كانت فيه غرف الزوّار، وغرف الوزراء، والغرفة العلويّة الخاصة بخلوة الخليفة عبد الله.
كان اجتماع الخليفة عبد الله بمجلس الشورى ومجلس الحل والعقد يُعقد مرة كل عام، كما يمكن عقد الاجتماعات الطارئة في أيّ وقت. ويُعقد الاجتماع السنوي للتشاور على أهمّ الأحداث والقرارات في الدولة المهدية، وللمناقشة حول ترشيح ومبايعة الإمام أو عزله.
وكان مجلس الشورى مكوّناً من ٤٦ مندوباً من كلّ منطقة من مناطق السودان، ومهمّته تقديم الرأي والمشورة للخليفة وأداء واجباته في غيابه. وتتداخل سلطة مجلس الشورى مع سلطة مجلس الحل والعقد المكون من ٤٠ شخصاً، ينتخب مجلس الشورى ٣٠ منهم، و١٠ أشخاص يعيّنهم الخليفة عبد الله.
إدارة الدولة المهدية في عهد الخليفة عبد الله
بعد وفاة الإمام المهدي تولّى الخليفة عبد الله قيادة الدولة المهديّة، ولم يُحدِث تغييراً في الشكل الذي رسمه الإمام المهدي للحكومة؛ غير أن فترة حكمه الطويلة فرضت عليه التركيز وملء الثغرات التي ظهرت مع التطبيق.
كان للخليفة سُلطة تنفيذ الأحكام، ولأخيه يعقوب سلطة الشرطة، ولقاضي الإسلام السلطة القضائية. واعتمد الخليفة عبد الله على أمرائه في الأمور العسكرية، كما كان يجتمع بكبار مستشاريه يومياً بديوان الشورى للنظر في أمور الدولة. وقُسِّمت البلاد إداريّاً إلى ٨ عمالات (أقاليم)، وأُطلِق لفظ عامل على كل حاكم عمالة، كما أُطلِق لفظ أمير على قائد الجيش فيها. وانقسمت العمالات إلى نوعين:
- عمالات عسكرية: تقع في أطراف البلاد وعليها التصدّي للغزو الخارجي؛ وأشرف عليها حكام عسكريّون.
- عمالات حضرية: شملت عمالات الوسط، وخضعت لحكم الخليفة عبدالله المباشر، كما أشرف عليها حكام مدنيّون.
تابع الخليفة عبد الله إدارة العمالات باستخدام نظام البريد. وخَصّص لكل عامل عدد من الأمراء لإدارة الجيش، وعدد من المعاونين لجمع الضرائب، وكاتب سرّي للمراسلات مع الخليفة عبد الله. أمّا خلال الأزمات؛ فقد كان الخليفة عبد الله يرسل وفداً من مجلس الأمناء للتحقيق فيها وحلّها. وبرغم أن الخليفة عبد الله لم يعتد زيارة العمالات، إلّا أنه درج على عقد مؤتمرات جامعة لعمّاله في الرجبية (٢٧ رجب)، وفي عيد الأضحى، وعيد الفطر، وذلك لتلقّي التقارير والمشورة في أمور العمالات.
صورة الغلاف: ديوان الشورى © متحف بيت خليفة
ديوان الشورى
يُعد ديوان الشورى من أهمّ الأماكن ببيت الخليفة؛ ففيه كان يجلس الخليفة عبد الله للتشاور وتبادل الآراء مع كبار قادة الدولة المهديّة، إذ كان نظام الشورى هو آليّة صُنع القرار في الدولة المهديّة، وبه كان يُعقد الاجتماع السنويّ لمجلس الشورى، كما كانت فيه غرف الزوّار، وغرف الوزراء، والغرفة العلويّة الخاصة بخلوة الخليفة عبد الله.
كان اجتماع الخليفة عبد الله بمجلس الشورى ومجلس الحل والعقد يُعقد مرة كل عام، كما يمكن عقد الاجتماعات الطارئة في أيّ وقت. ويُعقد الاجتماع السنوي للتشاور على أهمّ الأحداث والقرارات في الدولة المهدية، وللمناقشة حول ترشيح ومبايعة الإمام أو عزله.
وكان مجلس الشورى مكوّناً من ٤٦ مندوباً من كلّ منطقة من مناطق السودان، ومهمّته تقديم الرأي والمشورة للخليفة وأداء واجباته في غيابه. وتتداخل سلطة مجلس الشورى مع سلطة مجلس الحل والعقد المكون من ٤٠ شخصاً، ينتخب مجلس الشورى ٣٠ منهم، و١٠ أشخاص يعيّنهم الخليفة عبد الله.
إدارة الدولة المهدية في عهد الخليفة عبد الله
بعد وفاة الإمام المهدي تولّى الخليفة عبد الله قيادة الدولة المهديّة، ولم يُحدِث تغييراً في الشكل الذي رسمه الإمام المهدي للحكومة؛ غير أن فترة حكمه الطويلة فرضت عليه التركيز وملء الثغرات التي ظهرت مع التطبيق.
كان للخليفة سُلطة تنفيذ الأحكام، ولأخيه يعقوب سلطة الشرطة، ولقاضي الإسلام السلطة القضائية. واعتمد الخليفة عبد الله على أمرائه في الأمور العسكرية، كما كان يجتمع بكبار مستشاريه يومياً بديوان الشورى للنظر في أمور الدولة. وقُسِّمت البلاد إداريّاً إلى ٨ عمالات (أقاليم)، وأُطلِق لفظ عامل على كل حاكم عمالة، كما أُطلِق لفظ أمير على قائد الجيش فيها. وانقسمت العمالات إلى نوعين:
- عمالات عسكرية: تقع في أطراف البلاد وعليها التصدّي للغزو الخارجي؛ وأشرف عليها حكام عسكريّون.
- عمالات حضرية: شملت عمالات الوسط، وخضعت لحكم الخليفة عبدالله المباشر، كما أشرف عليها حكام مدنيّون.
تابع الخليفة عبد الله إدارة العمالات باستخدام نظام البريد. وخَصّص لكل عامل عدد من الأمراء لإدارة الجيش، وعدد من المعاونين لجمع الضرائب، وكاتب سرّي للمراسلات مع الخليفة عبد الله. أمّا خلال الأزمات؛ فقد كان الخليفة عبد الله يرسل وفداً من مجلس الأمناء للتحقيق فيها وحلّها. وبرغم أن الخليفة عبد الله لم يعتد زيارة العمالات، إلّا أنه درج على عقد مؤتمرات جامعة لعمّاله في الرجبية (٢٧ رجب)، وفي عيد الأضحى، وعيد الفطر، وذلك لتلقّي التقارير والمشورة في أمور العمالات.
صورة الغلاف: ديوان الشورى © متحف بيت خليفة
ديوان الشورى
يُعد ديوان الشورى من أهمّ الأماكن ببيت الخليفة؛ ففيه كان يجلس الخليفة عبد الله للتشاور وتبادل الآراء مع كبار قادة الدولة المهديّة، إذ كان نظام الشورى هو آليّة صُنع القرار في الدولة المهديّة، وبه كان يُعقد الاجتماع السنويّ لمجلس الشورى، كما كانت فيه غرف الزوّار، وغرف الوزراء، والغرفة العلويّة الخاصة بخلوة الخليفة عبد الله.
كان اجتماع الخليفة عبد الله بمجلس الشورى ومجلس الحل والعقد يُعقد مرة كل عام، كما يمكن عقد الاجتماعات الطارئة في أيّ وقت. ويُعقد الاجتماع السنوي للتشاور على أهمّ الأحداث والقرارات في الدولة المهدية، وللمناقشة حول ترشيح ومبايعة الإمام أو عزله.
وكان مجلس الشورى مكوّناً من ٤٦ مندوباً من كلّ منطقة من مناطق السودان، ومهمّته تقديم الرأي والمشورة للخليفة وأداء واجباته في غيابه. وتتداخل سلطة مجلس الشورى مع سلطة مجلس الحل والعقد المكون من ٤٠ شخصاً، ينتخب مجلس الشورى ٣٠ منهم، و١٠ أشخاص يعيّنهم الخليفة عبد الله.
إدارة الدولة المهدية في عهد الخليفة عبد الله
بعد وفاة الإمام المهدي تولّى الخليفة عبد الله قيادة الدولة المهديّة، ولم يُحدِث تغييراً في الشكل الذي رسمه الإمام المهدي للحكومة؛ غير أن فترة حكمه الطويلة فرضت عليه التركيز وملء الثغرات التي ظهرت مع التطبيق.
كان للخليفة سُلطة تنفيذ الأحكام، ولأخيه يعقوب سلطة الشرطة، ولقاضي الإسلام السلطة القضائية. واعتمد الخليفة عبد الله على أمرائه في الأمور العسكرية، كما كان يجتمع بكبار مستشاريه يومياً بديوان الشورى للنظر في أمور الدولة. وقُسِّمت البلاد إداريّاً إلى ٨ عمالات (أقاليم)، وأُطلِق لفظ عامل على كل حاكم عمالة، كما أُطلِق لفظ أمير على قائد الجيش فيها. وانقسمت العمالات إلى نوعين:
- عمالات عسكرية: تقع في أطراف البلاد وعليها التصدّي للغزو الخارجي؛ وأشرف عليها حكام عسكريّون.
- عمالات حضرية: شملت عمالات الوسط، وخضعت لحكم الخليفة عبدالله المباشر، كما أشرف عليها حكام مدنيّون.
تابع الخليفة عبد الله إدارة العمالات باستخدام نظام البريد. وخَصّص لكل عامل عدد من الأمراء لإدارة الجيش، وعدد من المعاونين لجمع الضرائب، وكاتب سرّي للمراسلات مع الخليفة عبد الله. أمّا خلال الأزمات؛ فقد كان الخليفة عبد الله يرسل وفداً من مجلس الأمناء للتحقيق فيها وحلّها. وبرغم أن الخليفة عبد الله لم يعتد زيارة العمالات، إلّا أنه درج على عقد مؤتمرات جامعة لعمّاله في الرجبية (٢٧ رجب)، وفي عيد الأضحى، وعيد الفطر، وذلك لتلقّي التقارير والمشورة في أمور العمالات.
صورة الغلاف: ديوان الشورى © متحف بيت خليفة
غليون التبغ
غليون التبغ
غليون تبغ بوعاء فخاري ذات جذع خشبي وبوق نحاسي. تم الحصول عليه في الثلاثينيات، عندما تم تصنيع هذا الأنبوب، كان التبغ أحد المحاصيل الرئيسية غير الغذائية في جبال النوبة. تم تدخينه بشكل أساسي من قبل كبار السن من الرجال والنساء كنشاط ترفيهي. بالإضافة إلى الماعز قام الخاطبون بإهداء التبغ لأقارب العروس وغالبًا ما كان يتم توزيع التبغ على الرجال المبتدئين في المهرجانات وغيرها من الأحداث المهمة.
AF1939، 30.43
© أمناء المتحف البريطاني. تمت مشاركتها تحت إسناد المشاع الإبداعي-
رخصة غير تجارية من نوع ALIKE 4.0 International (CC BY-NC-SA 4.0).
غليون تبغ بوعاء فخاري ذات جذع خشبي وبوق نحاسي. تم الحصول عليه في الثلاثينيات، عندما تم تصنيع هذا الأنبوب، كان التبغ أحد المحاصيل الرئيسية غير الغذائية في جبال النوبة. تم تدخينه بشكل أساسي من قبل كبار السن من الرجال والنساء كنشاط ترفيهي. بالإضافة إلى الماعز قام الخاطبون بإهداء التبغ لأقارب العروس وغالبًا ما كان يتم توزيع التبغ على الرجال المبتدئين في المهرجانات وغيرها من الأحداث المهمة.
AF1939، 30.43
© أمناء المتحف البريطاني. تمت مشاركتها تحت إسناد المشاع الإبداعي-
رخصة غير تجارية من نوع ALIKE 4.0 International (CC BY-NC-SA 4.0).
غليون تبغ بوعاء فخاري ذات جذع خشبي وبوق نحاسي. تم الحصول عليه في الثلاثينيات، عندما تم تصنيع هذا الأنبوب، كان التبغ أحد المحاصيل الرئيسية غير الغذائية في جبال النوبة. تم تدخينه بشكل أساسي من قبل كبار السن من الرجال والنساء كنشاط ترفيهي. بالإضافة إلى الماعز قام الخاطبون بإهداء التبغ لأقارب العروس وغالبًا ما كان يتم توزيع التبغ على الرجال المبتدئين في المهرجانات وغيرها من الأحداث المهمة.
AF1939، 30.43
© أمناء المتحف البريطاني. تمت مشاركتها تحت إسناد المشاع الإبداعي-
رخصة غير تجارية من نوع ALIKE 4.0 International (CC BY-NC-SA 4.0).
أشكال فضّ النزاعات والحروب وغيرها في السودان
أشكال فضّ النزاعات والحروب وغيرها في السودان
مقدمة
كان دخول العرب السودان قبل الإسلام في مصادر تاريخية. وكانت هجرتهم الكبرى بعد اتفاقية البَقْط عام ٦٥٢م بين العرب المسلمين والنوبيين الذين كانوا في وجهتهم في دخولهم عن طريق النيل من مصر، ومن جاء إلى السودان منهم قبل الإسلام كان لهم شعر عبارة عن شعار ولأنه شعر جاهلي صعب الفهم، نحوله إلى نثر يقول:
(الناس من غيرنا حضارة، لكننا بدو. هم لهم
حمير ولنا حرابٌ وخيولٌ جيدة. إن غزونا
مَن هو قريبٌ منا ولم نجد شيئاً ننهبه،
غزونا من هو حولنا، نَغِيرُ حتى على بَكْر القبيلة
التي أهلها أخوان لنا، إذا لم نجد ما ننهبه)١.
العمل بهذا الشعار الشِّعري كان دَيدَن القبائل العربية في السودان. فالحروب والإغارات كانت سائدة بينها منذ عهد بعيد.
كان الصوفية أولياء الله الصالحون يخشاهم السودانيون حتى الآن. فكلٌّ منهم لهم قباب هم مدفونون فيها. فمن عَدَا على أهلهم يُصَاب بعطبٍٍ أو بعِلَّة أو مرض أو موت. إزاء ذلك، كان أهل السودان حريصين على بيان أنهم يعيشون على بَرَكَة وَليّ في قراهم ومواضع سَكَنِهم. وقد يبنون قبّة تشير إلى وليّهم وليس له وجود، اتقاءً لأيّ عدوان.
يقول الباحث سمير محمد عبيد نُقُد: (في تاريخ السودان قبل سلطنة سنار، كانت هناك فترة تُسمَّى فترة القَيمان٢، وفيها كانت القبائل تُغير على إبل غيرها من القبائل الأخرى لسلبها وأخذها عنوة، ولا يُعدُّ ذلك لصوصية بل يفتخرون به، إذ يُعدُّ عملاً بطولياً. وكان ذلك واحداً من أهم الأسباب التي جعلت الناس يَدَّعون النسب الشريف للتخلص من هجمات القبائل، والنسب الشريف الانتساب إلى العتره النبوية، وصاحب القبّة دليلٌ على ذلك.
في هذا البحث أن (الإدارة الأهلية) كان العهد الإنجليزي المصري قد كَوَّنها من رموز القبائل العربية وغيرها في السودان. وكان (ناظر) القبيلة هو الحَكَم في أيّ نزاع يَنشب بين أبناء القبيلة، داخل القبيلة أو خارجها، كان ذلك في غرب السودان حيث قبائل عربية، ووسطه حيث الجعليون العرب، ووسطه الشمالي حيث الرباطاب والمناصير والشايقية الذين كان لهم (مَك) بدلاً عن الناظر، أما أقصى شمال السودان فقد كان يَحكُمها العُمَد، والبجا في أقصى الشرق كان لهم ناظر، وهؤلاء الحكّام كان لهم إقامة الحروب وقيادتها.
بعض الحروب في تاريخ السودان مؤرَّخٌ لها، وبعضها لم يُؤرَّخ لها. وهناك حروب داخلية وخارجية. مثلاً، ينقسم شعب البجا إلى بطونٍ عديدة. وكان من شأن هذه البطون أن تتحارَب، وتأتي هذه الحروب من داخل كيان البجا بتخطِّي الناظر نفسه. لكن، غالباً ما يكون هناك سعيٌ نحو السلام الذي ينتهي إلى إصلاح ما بين المتحاربين.
في هذا البحث محتويات هي أشكال الحروب والنزاعات وهي:
- حروب الصلح.
- حروب التحالف.
- حروب الحرب والحرب المضادة.
- حروب تنتهي بالأجاويد.
- الحروب السياسية.
ونوردُ هنا الكيانات التي ندرسها وهي:
- البجا وهم شعب.
- البوادرة: قبيلة عربية.
- الكواهلة: قبيلة عربية.
- الشكرية: قبيلة عربية.
- البطاحين: قبيلة عربية.
- التعايشة: قبيلة عربية.
-
ونختم بفصلٍ عن صور أشكال الصلح والتصالح.
حروب الصُلح:
وغالباً ما يتبنّى فصلها أهلُ الدين. وقد كانت حروب البطاحين كثيرة، خاصة ضدَّ الشكرية. وأول حربٍ لهم ضدَّها كانت واقعة المندرة mundarah. وقد كانت عام ١٨٧١م في منطقة الفاو. وبعدها كانت الواقعة (أب جِبَّة)، و(واقعة الحَجَر) و(عُلْوان)، ولمَّا كثرت هذه الحروب بينها، (كان من بين شيوخ البطاحين من كان حريصاً على علاقة سلام بين البطاحين والشكرية، وهو الشيخ عبد الباقي من أهل الدين من البطاحين. وقد صالح بينها عام ۱۸۰۷م عن طريق معاهدات تمَّت بينه وبين أبناء أحمد بك أبوسن تزوّج كلّ منهم من الطرف الآخر)٣. وكان أحمد بك أبو سن زعيم البطانة وحاكم الخرطوم - أهليَّاً - وسنار ما بين عامي ١٨٦٠-1870، ومن الملاحظ أن هذا الصلح كان في زمن متأخر.
. حروب التحالف:
كان الشيخ برير من البطاحين قد أغار على الكرامة في أَقصَى شمالي أرض البطانة – وكان الكواهلة قد أوفدوا لحربه وقتله، واحداً هو الفارس محمد المليحابي، كي يجمع من البجا الأمرأر المحاربين في تحالف لإبادة جيش البطحاني برير. وأَسْرِهِ وقَتله. مَكث الفارس الكاهلي مع الأمرأر عامين في منطقة الباك bak في ديار البجا ليختار من الأمرأر الأقوياء قساة القلوب، وعاد بِهم إذ انضمَّ الكواهلة والأمرأر في جيشٍ واحد حاربوا به الشيخ الفارس برير وأسروه وقتلوه. وےقطع حمد المليحابي يدي برير وسَلَّمَهما لشَغَبَة، وكانت امرأة لها سهمٌ في الحرب مع فرسان قبيلتها)٤.
يقول الباحث الطيب محمد الطيب: (كانت قبائل عديدة تُسَاكِن الشكرية بأرض البطانة. وأهم هذه القبائل البطاحين والكواهلة والركابيون. وقد قامت عدة حروبات بين تلك القبائل في الثُلث الأول من القرن السادس عشر الميلادي)٥.
ومنها أنه:
(تحَالَف الفونج والركابيون لمحاربة الشكرية الذين كان على رأسهم فارسهم أبو علي. وكان المتحالفون ٤٠٠٠ والشكرية قليلون، لكنهم استطاعوا قتل قادة التحالف، إدريس ود الزاكي وکِرِنکَه أبوسن دوف في بداية المعركة. وبذلك حُسِمَت المعركة لصالح الشكرية)٦.
كان البجا يُساكنون الشكرية في أرض البطانة، إذ انتشروا في طول نهر عطبرة شرق أرض البطانة، وفي موقعة ريره Rerah تحالفوا مع الشكرية لمحاربة البطاحين، واستعدّوا للإغارة عليهم، وكان ذلك عام ١٧٤٤م. وعندها رجع قائد جيش البطاحين التكيت بجيشه منسحباً إلى أرض بعيدة عن الشكرية هي أبو دليق، وهي التي شرق الخرطوم الآن.
تحت عنوان: "علاقات القبائل ببعضها البعض"، يقول الباحثان عبد القادر عوض الكريم الحسن وعمر عبد الرحيم كبوش في كتابهما (وقفات مع شعراء البطانة) يقولان: (العلاقات التي تربط قبائل سهل البطانة ببعضها جيّدة ومتينة، ويحكم بينهم على الدوام العرف الأهلي، وقِلَّة أن نجد خلافات وعداوات بينهم، وإذا حَدَثَ بينهم شيء من ذلك نجد زعماء القبائل يقومون بإصلاح ذات البين حتى يعود الصفاء والودّ)٧.
قبائل أرض البطانة بدوية. ومن شأنها أنها متحاربة لأن هناك ما يَجعلها تحارب، فغالبهم رعاة وأصحاب إبل وضأن وماعز. وديدنهم الحرص على المراعي في الوديان ومجاري المياه وتجمّعها، وقد كان التوسع في الأرض لكسب مزيد من المراعي سبباً للحروب دائماً. ثم إن حروبها لبُعد صيت "الذات القبلية" وتميّزها بين القبائل. كان ذلك في زمانهم القديم. وفي الفقرة السابقة أن فضَّ النزاعات عندها هو "العُرف". وقد كان الاحتكام إلى العرف حديثاً عند قيام مشروع حلفا الجديدة الزراعي الذي حوَّلهم من قبائل مُترحّلة إلى قبائل عاملة في الزراعة المستقرة.
يعني (حروب الحرب والحرب المضادة) أن تحارب قبيلةٌ قبيلةً أخرى أو كياناً آخر، فتردّ هذه الحرب بحربٍ مضادَّة، حتى يتوقّف طرف عن الحرب ولا يعود إليها. قُلنا من قبل إن البجا كانوا قد سكنوا في مجرى نهر عطبرة شرق أرض البطانة. ولم تكن هذه الأرض مملوكة لكيان. لكن تسجيلها لزعيم الشكرية عوض الكريم أبو سن عام ١٧٩١م ملكاً خاصَّاً له، على أن تستوعب أرض البطانة في السكن فيها من يشاء هو، وإجلاء من شاء عن أرضه، خاصة وأن المك (الملك) بادي ولد دكين، سلطان الفونج، قد أعطاه هذا الحق٨.
كان للبجا المحاربين مناوشات لردّ أرضهم من الشكرية لمَّا عَملت على إجلائهم من ضفاف نهر عطبرة، نهض بذلك فرع من الشكرية يُسمى الطرقاب، أبناء أحمد الأطرق، الذين كانوا من أشرس عرب أرض البطانة قتالاً وقيادةً للجيوش. حتى يُقال إنهم فَنوا في الحروب حتى لم يبق منهم غير عائلتين الآن.
بدأ البجا الحرب، وانهزموا في أول حروبهم عند الشكرية ثم أعادوا الحرب مرة أخرى، لكن الطارقاب أعطوا قيادة جيشهم من كان أقوى فيهم، فارس عارف بالحروب هو ود البشير، قال شاعرهم فيه:
(قام ود البشير قَطَع البحر هو عوم
قاصد الـ رِقَّهم بشبه لديح الدّوم
البِج الـ قِبيل كُلْ يوم تَطَلِّع قُوم
خلاَّها البشير عابدَه الصَلاَ والصوم)
المعنى أن ود البشير عامَ قاصداً البجا شرق النهر الذي كان في فيضانه. وفعل فيهم ما فعل. كان البجا تدفع للشكرية (قوم) جيشاً كل يوم. لكن ود البشير في انتصاره الساحق جعلهم يرجعون إلى الله تعالى حيث يعتكفون على الصلاة والصوم. أ.هـ. ولم يعد البجا للحرب مرة أخرى٩.
ومن حروب (الحرب والحرب المضادة) ما كانت بين البوادرة والقُنن، وكلاهما من قبائل أرض البطانة، وقد سَمَّى الباحث ياسر عبد الله عبد الرحيم الخليفة الحرب بين القبيلتين باسم (حرب السياط). يقول الباحث: (كانت شرارة هذه الحرب أن قَطَعَ أحد أبناء القُنن ذيل ثورٍ تابعٍ لإحدى نساء البوادرة. وأَعلنت المرأة حدادها على ذيل ثورها، وأقسمت أن لا تأكل بيمنَاها حتى ترى ما يفعل فرسان البوادرة حيال ما فعل ذلك الفتى القُنَنِيّ بثورها. وهذه عادة قديمة لنساء العرب لحثّ الفرسان إلى الأخذ بالثأر ورفع الظلم الذي وقع عليها.
عندها تحرَّك البوادرة بفرسانهم لمحاربة القنن، وأقسم الفارس ود بِلِيله على فرسان البوادرة بعدم استخدام السيوف وإنما السياط (جمع سوط) فقط، وهي ما يجب عليهم استخدامها لتأديب أبناء القنن. وفعلاً تحركوا وفي أيديهم سياط فقط استهزاءً وسخرية بالقنن الذين الذين يتمتّعون بالشجاعة والقوة. وقد دارت هذه الحرب على مرحلتين هما:
١- معركة السياط.
٢- معركة السيوف والأبطال.
في المرحلة الأولى استخدم البوادرة السياط، وقد كانت فرصة ذهبية لقبيلة القُنن الذين أعدوا العدّة لملاقاة فرسان البوادرة بسيوفهم. وما أن حان وقت القتال إلا وتفاجأ فرسان القنن بسياط أبناء البوادرة على رؤوسهم. وما هي إلا ساعات، حيث تقدَّم فرسان القنن وحصدوا فرسان البوادرة حصداً. وكاد القنن أن ينتصروا على البوادرة لو لا استخدام البوادرة لأسياف القنن، وفي ذلك اليوم أبلى فرسان البوادرة ولكنهم أدركوا خطأهم في معاملة القنن بهذه الطريقة التي كادت أن تشلّ فرسان البوادرة لثقتهم العالية بأنفسهم واحتقار عدوهم. وفي هذه المرحلة تكبَّد البوادرة خسائر كبيرة، حيث توفي كثير من الفرسان جراء هذا التصرف غير المسؤول.
وفي المرحلة الثانية من هذه الحرب، وَفَد إليها أبناء البوادرة بغرب النيل الأزرق بقيادة الفارس عين بر ومعه من البوادرة البياضة والمشاعلة والدباسين وغيرهم. وأقسم الفارس عين بر على إبادة قبيلة القنن عن آخرهم، وفعلاً أبادهم عن آخرهم وترك النساء والأطفال، فقط، وبعد ذلك دارت مواقع منها السادة والركابية بعد الحاجز والملوية malawiyya، وبذلك تشتَّت القنن بشرق السودان وإرتريا وبقي منهم عدد قليل يسكنون الآن أرض البطانة)١٠١٠.
قَلَد galad والبجا
على الرغم من أن تاريخ قبائل أرض البطانة يقول: إن هذه القبائل تعتمد في حلّ النزاعات والإغارات والحروب بالعُرف السائد بينهم كقبائل بدو متحاربة في بداوتهم، وأن هذا العرف أن تنهض ذات القبائل للصلح بين المتحاربين أو المتنازعين، إلا أننا نرى أن ذلك العرف لم يكن له وجود أيام حروبهم في زمانهم القديم، خاصة منذ القرن السادس عشر إلى الثامن عشر الميلاديين. والأخير هو الذي صار الحُكم فيه في يد أحمد بك أبو سن الذي لم يكن له سوى الشدّة في الإغارات والحروب المتتالية في أرض البطانة.
...
في إطار الحروب التي تَدَخَّل الأجاويد فيها، نَذكُر قَلَد البجا. وهو عرف سائد في ديار البجا. والبجا يتكونون من أربعة كيانات يأتي على رأسهم البجا ببطونها العديدة، والبني عامر والحلنقة والبشاريين. وعندما تقول (البجا) نَرمِي إليهم جميعًا. وقَلَد البجا عبارة عن مجموعة من الأجاويد هم الذين يَجلِسُون إلى الطرفين لفضّ أي نزاعات نتشأ في ديارهم وإن كان قتلاً، ولفظ (قَلَد) تعني الاجتماع لفرض فضّ النزاعات. وما يَحكُم به هذا الاجتماع نافذ لا يستطيع رفضه الحاضرون.
يُعَرِّف د. عون الشريف قاسم في قاموسه لفظ (أجاويد). يقول: (أجاويد الجماعة الذين يتوسّطون بين المتخاصمين لحل الخلاف بالحسنى)١١١١. وهذا تعريف ممتاز، وقد كان للبجا حروب هي:
١- قتال الأشراف والكميلاب.
٢- قتال الأشراف والنابتاب.
وعلى الرغم من أن حروب البجا عديدة بين بطونها وشعوبها، إلا أن صاحب الكتاب الذي نأخذ عنه يقول: (كنّا نحن نحب أن لا تُذكر هذه الحوادث حتى لا نُعيد ذكراها)١٢١٢. وربما رأى أن ذكرى هذه الحروب من الممكن أن تثير أحقاداً قديمة. لكن، من الثابت أن نزاعات البجا قد خَضَعت لقَلَد مهما كانت.
وكان البوادرة قد خاضوا حربين بعد مدة طويلة من حربهم مع القنن هما:
١- حرب الحاجز، وهو موضع بين خشم القربة وكسلا.
٢- حرب الملوية، وهي بين المذكورين خشم القربة وكسلا، ومحطة صغيرة للقطار الواصل حتى بورتسودان. يقول الباحث فيها: (سالت الدماء وكأنها دميرة (الدميرة فيضان النيل) حتى توسَّط بينهم السادة الركابية)١٣١٣، والركابية من أهل الدين ينتشرون في أنحاء السودان.
...
الحروب السياسية دائماً ما تأتي من السلاطين والحكام. وأهدافها جعل الكيان المُحَارَب (بفتح الراء) طائِعاً، فطاعة السلطان أو الحاکم تأتي بالطاعة والسلام كما سنرى. والحرب التي نبدأ بها هي الحرب وعَرَب الحَمَر hamar. وكان عرب المعاليا قد قطعوا الطريق على قافلة آتية من مصر إلى دارفور وقتلوا تُجار القافلة الذين كانت بضاعتهم للسلطان أنسجة وسُكَّراً. فغضب السلطان حسين غضباً شديداً، وأرسل في طلب الشيخ مكي ولد منعم شیخ عربان حَمَر وقال له: إني أَبِحتُ لك دماء المعاليا وأموالهم، فجمع الشيخ مكي رجاله وحلفاءه وغزا عرب المعاليا، وكانت واقعة دموية شديدة كان النصر فيها للعرب الحمر، أي لصالح السلطان، وقد سُمِّيت الواقعة بواقعة القرطاس، لأن ساحة الحرب امتلأت بـقراطيس السكر)١٤١٤.
في عام ١٨٢١م، غزا إسماعيل باشا بن خديوي مصر محمد علي باشا السودان. تصدى له الشايقية بقيادة الملك شاويش الذي انهَزم، جازَ الشمال حتى وصل إلى سلطنة الفونج، واستسلم له مَكُّها (ملكها) محمد ود عدلان. سلم السلطة لمحمد الدفتردار حيث صار السودان في يده. وفي عودته لمصر عام ١٨٢٢م، نزَل في دیار الجعليين حيث المك نمر، الذي كان قد أعدَّ العِدَّة لقَتلِه. في المجلس الواسع جلس مع حاشيته، وطلب من المك نمر مطالب من الأنعام والمال مُعجِزة. كان المك نمر قد أحاط المجلس بالحَطَب، وجَعَل فرسانَه متأهّبين للهجوم على الباشا. أشعل النار في الخطب، وهَجم وفرسانه على الباشا وحاشيته وقتلوهم جميعاً حرقاً، هاجر بعدها المك نمر إلى الحبشة مع أهله ثم كانت مقتلة الجعليين المُدمِّرة على يد الدفتردار)١٥١٥.
وكانت الحرب التي أشعلها الخايفة عبد الله التعايشي بعد وفاة محمد أحمد المهدي عام ١٨٨٥م. فقد كان التعايشي خليفة المهدي الذي -من المفترض أن يأتي صاحب السلطة- لكن قرابة المهدي من أهله كانوا يرون أنهم الأولى بالخلافة، وهم أشراف. أي من سلالة العَترة النبوية، ومن هنا كانت الحرب.
تحت عنوان: (الخليفة والأشراف) نقرأ: (إن الصراع الذي نَشَبَ بين الخليفة والأشراف عقب وفاة المهدي، هو صراع حول السلطة، وحول من هو المستحق تولي أمر المهدية: هل هم الأشراف بحكم صِلاتهم الرحمية بالمهدي، أم الخليفة بحكم كونه الرجل الثاني في الدولة حتى في حياة المهدي؟. عَبَّأ الخليفة أم درمان عاصمة المهدي وألقى القبض على المتمردين الأشراف بواسطة أهله التعايشة وجنود من قبائل أخرى من دارفور، وكان قد أمر بسجن الأشراف جميعاً فسُجنوا، وعاد الخليفة لخلافة المهدي حتَّى موقعة كرري التي دخل فيها المستعمر (الإنجليزي المصري) السودان غازياً عام ١٨٩٨م، وهرب الخليفة بمن معه من خاصّته، وقُتِلَ في أم دبيكرات في ذات العام الذي دخل فيه الاستعمار)(١١).
في أيام السلطان حسين بن السلطان محمد الفضل الذي حكم دار نور ما بين عامي ١٨٣٩ - ١٨٧٤م كانت واقعة القرطاس بين عرب المعاليا.
نزاعات تَنتَهِي بالصّلح
(١)
كانت أولى الحروب التي انتهت بالصلح الحرب التي أشعلها عبدالله بن أبي سرح مع النوبة في دنقلا (في شمال السودان) عام 652م، هذه الحرب سُمِّيت باسم (اتفاقيه البقط)، ونصَّت على بنود نُورد منها ثلاثة هي:
- الاسم، بقط
- على العرب اجتياز بلاد النوبة (السودان) دون إقامة، وعلى النوبة اجتياز بلاد العرب (مصر الجزيرة العربية) دون إقامة.
- المسجد الذي بناه ابن أبي سرح في دنقلا، وعلى النوبة إسراجه وتعهّده.
وقد دَرَس مؤرّخون هذه الاتفاقية ونشروها بما يتناقض ما هو صحيح. في قاموس د. عون الشريف قاسم جاء اسم بقط Pactum في معنى معاهدة في طبعته الأولى والثانية. أما في الثالثة، فقد رَجَع د. عون الشريف إلى اسم (بَقت) bagit في معنى (القِسمَة) في نوبيّة أهل دنقلا، وكانت كلمة dactam كلمة لاتينيَّة لا يعرفها العرب ولا النوبيون.
بقي العرب في السودان مخالفين عدم البقاء، وهاجر النوبيون وبقوا في بلاد العرب١٦١٦. أما المسجد، فقد درسه آثاريون وتوصلوا إلى أنّه بناء حديث، وفيه قبر لشيخ أخرجوه١٧١٧. على هذ، من الحق أن نَصل إلى أن اتفاقية البقط مشكوك فيها، أو لا وجود لها. لكن، العطاء الذي قدَّمه كل طرف للآخر هو الذي أتى بالصلح بين الفريقين١٨١٨.
(٢)
في غرب السودان تنشَأ الحروب دائماً بين قبائل العرب في بعضهم، وبين العرب والشعوب غير العربية. كانت ومازالت هناك حروب بين السلامات (قبيلة عربية) وبين قبيلة عربية أخرى هي التعايشة وقبيلة الرزيقات ضدّ أولاد حسين، وقبيلة الكبابيش ضدّ الكواهلة الذين هاجروا إلى كردفان، وقبيلة الحوازمة مع نوبا جبال النوبة، وقبائل عربية ضدَّ الزغاوة في شمال دارفور، والزغاوة شعب غير عربي، ونفس القبائل مع المساليت في شمال دارفور. ولكن المهم أن الإدارة الأهلية، في كلٍّ من دارفور وكردفان، من أعرافها الثابتة حلّ الحروب صُلحاً بتَدَخُّل رموز هذه الإدارات الأهلية في الحروب أو النزاعات بين المتحاربين.
السدارنة المحس الذين ساكنوا الشكرية في أرض البطانة كانت لهم حربٌ مع الرفاعيين، القبيلة العربية التي تسكن على ضفاف النيل الأزرق غير بعيد عن السدارنة شَرق رفاعة؛ كان نزاعهم في الحدود بين المتحاربين. وقد كان تدخّل قبيلة رفاعة والشكرية الذين يسكنون على النيل الأزرق في امتدادهم إلى الجنوب الشرقي، قد صالح بين المتحاربين صُلحاً قَضَى أن يتقاسما الحدود بينهم، بشرط أن يستمر الصلح المحكوم به بينهما.
في أول عهدهم بالسكن في أرض البطانة تحت قبيلة الشكرية، كان بين السدارنة والشكرية حرب لم تكتمل. جنود الشكرية تحركوا للحرب وكذلك جنود السدارنة، لكن الصلح بينهما سرعان ما توصلوا إليه بوساطة بعض عقلاء الشكرية، متضامنين مع رموز السدارنة، خاصّة شيخهم عبد الهادي، وكان شاعر السدارنة قاسم ود عتار قد أرَّخ لهذه الحرب فقال:
مع الشكرية عندنا كنترات وعهود
غير حق المحوره يكونوا لينا جدود
دراجين عواطل في الليالي السود
فارسهم من الجَمْع الفقير ما بحود
شرح صاحب كتاب السدارنة كنترات أنه يقصد عقل العهد، والمجوره: الجوار، درّاجين عواطل: يساندون الآخرين عند الشدائد الجمع الفقير: الجيش كتير العدد. ما بْحود: يثبت ولا يعطيه ظهره، وهذا (العهد) بينهما كان ورقة الصلح بينهما١٩١٩.
بعد تهجير النوبيين من أقصى شمال السودان إلى أرض البطانة عامي ١٩٦٣ـ١٩٦٤، صارت لهم حوَّاشات، كل حوّاشة 15 فدان يزرعونها. كان ما يُزرع فيها مُحدَّداً بقرار سلطويّ: الفول السوداني والقطن. وهم لم يألفوا ذلك، كان أمامهم إمكان الزراعة بالعمال الكثيرين المهاجرين إلى مشروع حلفا الجديدة الزراعي. كانوا من غرب إفريقيا ودارفور. وكانت بينهما -النوبيين والمهاجرين- نزاعات كالآتي:
١- قَتَل أحد النوبيين فرداً من غرب إفريقا في نزاع يعود إلى الزراعة، ونهض أهله منذرين بحرب، لكن كان النوبيون على حلّ الأمر بالصلح بين الفريقين: القرية التي منها القاتل وأهل غرب إفريقيا السائرون وراء الصلح، وتوصلوا إلى أن يدفع النوبيون الديَّة. فرضوا على كل بيت 5 جنيهات في كل قراهم الـ26 وفي كلّ قرية ٢٥٠ بيتاً. يعني ٥×٢٦×٢٥٠. وتساوي: ٣٢,٥٠٠. هذا هو المبلغ الذي طلبته أهالي المَقتول. وقد دفعها النوبيّون بعيداً عن الشرطة والمحاكم التي رفضوها. وكان ذلك مبلغاً مهولاً عام ١٩٩١م. هكذا كانت المصالحة التي استمرت إلى الآن.
وفي العام ٢٠١٠م، كان هناك نزاعٌ آخر. كان عمّال حواشات أهل القرية ١٠ بحلفا الجديدة قد أضربوت وتوقفوا عن الزراعة بحجة أنهم عملوا في هذه الحواشات 35 سنة، وهذا كافٍ بأن تؤول الحواشات لهم حيث هم يسكنون فيها. صار هناك جدل بين الفريقين. كان العمال من الزغاوة المنتشرين بين السودان وتشاد حيث فزّان٢٠٢٠، ورفض أهل القرية 10 ذلك، فكان الصدام. قَتَل العمال إمام مسجد القرية ورجلاً، وأوشك أهل القرية الأخرى على التدخّل، لكن أهل الصلح كانوا جاهزين. أهل الصلح كان منهم ثلاثة في الخرطوم، دعوهم فوصلوا لحلفا الجديدة، وصارت هناك مفاوضات مُضنية، توصّل المُصلِحون في ختامها أن يدفع الزغاوة مبلغ دية للقتيلين. فدفعوها. (٦٥٠٠٠ جنيهاً) وعادوا إلى العمل.
صور أشكال الصلح والتصالح
كانت السلطة القائمة في السودان تنظر إلى الدولة مُقسمةً إلى شمال وجنوب. كان الشمال هو الكيان المُسلم والجنوب هو الكيان المسيحي. انفصل الجنوب عام ٢٠١١م. وصارت الدولة المسلمة في الشمال هي الدولة التي يرضاها أصحاب السلطة وغير قليل من الشعب، هنا صار الاحتكام في حالات النزاع الذي ينشب بين الناس، قتلاً كان أم نزاع حدود أو اكتساب أرضٍ بالامتداد أو صراعاً على مرعى ...إلخ. إلى:
- القرآن.
- الحديث.
- الشريعة الإسلامية.
- العرف القبليي
- الفقه.
غالباً يسري ذلك على القبائل العربية البدوية في السودان. إذن، هذا في البادية. وبوادي السودان في شرقه وغربه. يسري ذلك على البدو العرب باستثناء الحرب التي كانت بين العرب المسلمين والنوبة المسيحيين في اتفاقية البقط في القرن السابع الميلادي عام ٦٥٢م. كان ذلك صلحاً بعد حرب بمقابل من المهزوم. النوبة المسيحين، وشيء من عدس وغيره يدفعه لهم المنتصرون٢١٢١.
الأجواد (الأجاويد) يُعتبرون من العلماء أهل الرأي الصواب الذين يفضّون النزاعات بين الناس بالحسنى٢٢٢٢. وهم من الحكماء. إضافة إلى أصحاب السلطة، قبلية كانت أم أهلية، وسعيهم نحو العمل العام بقدرٍ دائماً، كالعُمَد مثلاً، أما نُظّار القبائل ورجال الدين والصوفية لهم أصحاب سهم عالٍ عند الجميع، وكلامهم سموع.
في الفقه الإسلامي نجد أن غالب أهل السودان على مذهب الإمام مالك، وأهل أقصى شرق السودان على المذهب الشافعي، وفيهم من هو على مذهب أبي حنيفة. واستخدام الفقه كحاكم قليل. ذلك لأنه مُختلفٌ بين الأئمة الأربعة، وغالباً ما يكون في اعتمادات الصُلح نظار القبائل وأهل الدين والصوفية والأجاويد.
في حالة النية على فضّ نزاع، يتنادى المعنيّون بالقيام بالصلح ويجتمعون. فيهم الذين سيتفاوضون بين الطرفين. نُظّار القبائل دائماً ما يُختَارُون للأمور الكبيرة كالحرب والقتل. أما الأمور الصغيرة يمكن أن تُحلّ من دونهم، مثل الصراع على امتداد في الأرض على الحدود، أو نزاع في مرعى فمتروك للآخرين. يجتمع الناوون حلّ نزاعٍ ما، ويتداولون طُرُق الحل، يقولون ما يقولونه عند فضّ النزاع، ويتّفقون عليه مقدّمين العرف القبلي غالباً في حالات النزاع.
في الاجتماع ذاته، يختارون الوفد الذي سينهَض بفضّ النزاع، كلما كان الوفد كبير العدد كلّما كانت هيبته أكبر. هنا يتفق المجتمعون على رجال الوفد من هم. وفي دارفور وكردفان، من المهم استصحاب حَكَّامة. والحكَّامة شاعرة ترتجل ما تقول مَدحَاً للمتنازعين وللحضور، وترتجل شعراً في شرور النزاعات. ويساعد ذلك في تقريب المسافة بين المتخاصمين وما تقول الحكَّامة مهم جداً، لأنه من الممكن أن تهجو من مَدَحت من قبل ليعود إلى عارٍ له.
هناك أمران للجلوس لفضّ النزاع:
١- طلب المتنازعين للحضور في موضع محدد في يوم محدد.
أن يكون عند ناظر يستضيفهم.
٢- الذهاب إليهم في موضع محدد في يوم محدد.
هنا يرسل مناديب لكل من المتنازعين. أفراد من اثنين أو ثلاثة من المعروفين للطرفين. للاتفاق على الجلوس لفض النزاع أولاً، ثم تحديد الزمان والمكان المحددين، وعلى كل منهما اختيار وفدهم الذي سيحضر فض النزاع. المدخل الكلامي لأهل النزاع العرف القبلي غالباً، والتوافق من أطراف النزاع على ما يقول الوفدين دائماً يأتي عند الاقتناع بما قالا، وفي حالات الرفض على المتنازعين الاحتكام إلى القضاء الذي هو غير مرغوب دائماً.
يحضر المتنازعين إلى المكان المحدد والزمان أو يذهب أصحاب فض النزاع في المكان والزمان، تُفتَتح الجلسة بالقرآن الكريم من واحد رجال الدين، وتحوي قراءته علی آیات تدعو إلى السلام:
و(جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) الآية
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) الآية
(إسلام قولاً من رب رحيم) الآية
... إلخ.
تتلو ذلك دعوى صوفية طويلة في انتباه الجميع لما يقول الصوفي بعدها، يجلس فاضو النزاع من المتنازعين متواجهين.
بعد الأيادي المرفوعة في دعوة الصوفي. يشرع القائمون بفض النزاع في تقديم الحَكَّامة٢٣٢٣، لتقول ما تقول. ثم يأتي دورهم في الكلام الذي اتفقوا عليه سلفاً، مع ترصّد خَلَجات أهل النزاع الذين يؤمِّنون على ما قال الفرد من أهل النزاع، أو يرفضونه في أسلوب مهذب، لكن، في كل الأحوال، نجد أن أهل فض النزاع أكثر حِنكَة وحِكمة وتمرساً في الإقناع. هكذا يؤدّي كلٌّ دوره. وإن كان تم رضاء من الطرفين على الصلح لا بد من ذبائح لاستضافة ضيوفهم.
من المُسلَّم به أن الحضور كلهم مسلمون. لذا دائماً ما يصل الحضور جميعاً إلى قناعة تامة بأن الصلح خَيْر، وتُرفَع الفاتحة بقراءة آيات قرآنية في معنى السلم أو كلام بالأخوة الإسلامية في الإسلام، وكل هذا يحدث فيما عدا القَتل، لأنه – حسب الإسلامية- دَفع الديَّة. وهذا دور الصوفية ورجال الدين يُباركونه. وغالباً ما يُدفع في الحال.
صورة الغلاف © مجلس وقضاة، الفاشر ١٩٥٠ إرشيف السودان لجامعة دورهام
مقدمة
كان دخول العرب السودان قبل الإسلام في مصادر تاريخية. وكانت هجرتهم الكبرى بعد اتفاقية البَقْط عام ٦٥٢م بين العرب المسلمين والنوبيين الذين كانوا في وجهتهم في دخولهم عن طريق النيل من مصر، ومن جاء إلى السودان منهم قبل الإسلام كان لهم شعر عبارة عن شعار ولأنه شعر جاهلي صعب الفهم، نحوله إلى نثر يقول:
(الناس من غيرنا حضارة، لكننا بدو. هم لهم
حمير ولنا حرابٌ وخيولٌ جيدة. إن غزونا
مَن هو قريبٌ منا ولم نجد شيئاً ننهبه،
غزونا من هو حولنا، نَغِيرُ حتى على بَكْر القبيلة
التي أهلها أخوان لنا، إذا لم نجد ما ننهبه)١.
العمل بهذا الشعار الشِّعري كان دَيدَن القبائل العربية في السودان. فالحروب والإغارات كانت سائدة بينها منذ عهد بعيد.
كان الصوفية أولياء الله الصالحون يخشاهم السودانيون حتى الآن. فكلٌّ منهم لهم قباب هم مدفونون فيها. فمن عَدَا على أهلهم يُصَاب بعطبٍٍ أو بعِلَّة أو مرض أو موت. إزاء ذلك، كان أهل السودان حريصين على بيان أنهم يعيشون على بَرَكَة وَليّ في قراهم ومواضع سَكَنِهم. وقد يبنون قبّة تشير إلى وليّهم وليس له وجود، اتقاءً لأيّ عدوان.
يقول الباحث سمير محمد عبيد نُقُد: (في تاريخ السودان قبل سلطنة سنار، كانت هناك فترة تُسمَّى فترة القَيمان٢، وفيها كانت القبائل تُغير على إبل غيرها من القبائل الأخرى لسلبها وأخذها عنوة، ولا يُعدُّ ذلك لصوصية بل يفتخرون به، إذ يُعدُّ عملاً بطولياً. وكان ذلك واحداً من أهم الأسباب التي جعلت الناس يَدَّعون النسب الشريف للتخلص من هجمات القبائل، والنسب الشريف الانتساب إلى العتره النبوية، وصاحب القبّة دليلٌ على ذلك.
في هذا البحث أن (الإدارة الأهلية) كان العهد الإنجليزي المصري قد كَوَّنها من رموز القبائل العربية وغيرها في السودان. وكان (ناظر) القبيلة هو الحَكَم في أيّ نزاع يَنشب بين أبناء القبيلة، داخل القبيلة أو خارجها، كان ذلك في غرب السودان حيث قبائل عربية، ووسطه حيث الجعليون العرب، ووسطه الشمالي حيث الرباطاب والمناصير والشايقية الذين كان لهم (مَك) بدلاً عن الناظر، أما أقصى شمال السودان فقد كان يَحكُمها العُمَد، والبجا في أقصى الشرق كان لهم ناظر، وهؤلاء الحكّام كان لهم إقامة الحروب وقيادتها.
بعض الحروب في تاريخ السودان مؤرَّخٌ لها، وبعضها لم يُؤرَّخ لها. وهناك حروب داخلية وخارجية. مثلاً، ينقسم شعب البجا إلى بطونٍ عديدة. وكان من شأن هذه البطون أن تتحارَب، وتأتي هذه الحروب من داخل كيان البجا بتخطِّي الناظر نفسه. لكن، غالباً ما يكون هناك سعيٌ نحو السلام الذي ينتهي إلى إصلاح ما بين المتحاربين.
في هذا البحث محتويات هي أشكال الحروب والنزاعات وهي:
- حروب الصلح.
- حروب التحالف.
- حروب الحرب والحرب المضادة.
- حروب تنتهي بالأجاويد.
- الحروب السياسية.
ونوردُ هنا الكيانات التي ندرسها وهي:
- البجا وهم شعب.
- البوادرة: قبيلة عربية.
- الكواهلة: قبيلة عربية.
- الشكرية: قبيلة عربية.
- البطاحين: قبيلة عربية.
- التعايشة: قبيلة عربية.
-
ونختم بفصلٍ عن صور أشكال الصلح والتصالح.
حروب الصُلح:
وغالباً ما يتبنّى فصلها أهلُ الدين. وقد كانت حروب البطاحين كثيرة، خاصة ضدَّ الشكرية. وأول حربٍ لهم ضدَّها كانت واقعة المندرة mundarah. وقد كانت عام ١٨٧١م في منطقة الفاو. وبعدها كانت الواقعة (أب جِبَّة)، و(واقعة الحَجَر) و(عُلْوان)، ولمَّا كثرت هذه الحروب بينها، (كان من بين شيوخ البطاحين من كان حريصاً على علاقة سلام بين البطاحين والشكرية، وهو الشيخ عبد الباقي من أهل الدين من البطاحين. وقد صالح بينها عام ۱۸۰۷م عن طريق معاهدات تمَّت بينه وبين أبناء أحمد بك أبوسن تزوّج كلّ منهم من الطرف الآخر)٣. وكان أحمد بك أبو سن زعيم البطانة وحاكم الخرطوم - أهليَّاً - وسنار ما بين عامي ١٨٦٠-1870، ومن الملاحظ أن هذا الصلح كان في زمن متأخر.
. حروب التحالف:
كان الشيخ برير من البطاحين قد أغار على الكرامة في أَقصَى شمالي أرض البطانة – وكان الكواهلة قد أوفدوا لحربه وقتله، واحداً هو الفارس محمد المليحابي، كي يجمع من البجا الأمرأر المحاربين في تحالف لإبادة جيش البطحاني برير. وأَسْرِهِ وقَتله. مَكث الفارس الكاهلي مع الأمرأر عامين في منطقة الباك bak في ديار البجا ليختار من الأمرأر الأقوياء قساة القلوب، وعاد بِهم إذ انضمَّ الكواهلة والأمرأر في جيشٍ واحد حاربوا به الشيخ الفارس برير وأسروه وقتلوه. وےقطع حمد المليحابي يدي برير وسَلَّمَهما لشَغَبَة، وكانت امرأة لها سهمٌ في الحرب مع فرسان قبيلتها)٤.
يقول الباحث الطيب محمد الطيب: (كانت قبائل عديدة تُسَاكِن الشكرية بأرض البطانة. وأهم هذه القبائل البطاحين والكواهلة والركابيون. وقد قامت عدة حروبات بين تلك القبائل في الثُلث الأول من القرن السادس عشر الميلادي)٥.
ومنها أنه:
(تحَالَف الفونج والركابيون لمحاربة الشكرية الذين كان على رأسهم فارسهم أبو علي. وكان المتحالفون ٤٠٠٠ والشكرية قليلون، لكنهم استطاعوا قتل قادة التحالف، إدريس ود الزاكي وکِرِنکَه أبوسن دوف في بداية المعركة. وبذلك حُسِمَت المعركة لصالح الشكرية)٦.
كان البجا يُساكنون الشكرية في أرض البطانة، إذ انتشروا في طول نهر عطبرة شرق أرض البطانة، وفي موقعة ريره Rerah تحالفوا مع الشكرية لمحاربة البطاحين، واستعدّوا للإغارة عليهم، وكان ذلك عام ١٧٤٤م. وعندها رجع قائد جيش البطاحين التكيت بجيشه منسحباً إلى أرض بعيدة عن الشكرية هي أبو دليق، وهي التي شرق الخرطوم الآن.
تحت عنوان: "علاقات القبائل ببعضها البعض"، يقول الباحثان عبد القادر عوض الكريم الحسن وعمر عبد الرحيم كبوش في كتابهما (وقفات مع شعراء البطانة) يقولان: (العلاقات التي تربط قبائل سهل البطانة ببعضها جيّدة ومتينة، ويحكم بينهم على الدوام العرف الأهلي، وقِلَّة أن نجد خلافات وعداوات بينهم، وإذا حَدَثَ بينهم شيء من ذلك نجد زعماء القبائل يقومون بإصلاح ذات البين حتى يعود الصفاء والودّ)٧.
قبائل أرض البطانة بدوية. ومن شأنها أنها متحاربة لأن هناك ما يَجعلها تحارب، فغالبهم رعاة وأصحاب إبل وضأن وماعز. وديدنهم الحرص على المراعي في الوديان ومجاري المياه وتجمّعها، وقد كان التوسع في الأرض لكسب مزيد من المراعي سبباً للحروب دائماً. ثم إن حروبها لبُعد صيت "الذات القبلية" وتميّزها بين القبائل. كان ذلك في زمانهم القديم. وفي الفقرة السابقة أن فضَّ النزاعات عندها هو "العُرف". وقد كان الاحتكام إلى العرف حديثاً عند قيام مشروع حلفا الجديدة الزراعي الذي حوَّلهم من قبائل مُترحّلة إلى قبائل عاملة في الزراعة المستقرة.
يعني (حروب الحرب والحرب المضادة) أن تحارب قبيلةٌ قبيلةً أخرى أو كياناً آخر، فتردّ هذه الحرب بحربٍ مضادَّة، حتى يتوقّف طرف عن الحرب ولا يعود إليها. قُلنا من قبل إن البجا كانوا قد سكنوا في مجرى نهر عطبرة شرق أرض البطانة. ولم تكن هذه الأرض مملوكة لكيان. لكن تسجيلها لزعيم الشكرية عوض الكريم أبو سن عام ١٧٩١م ملكاً خاصَّاً له، على أن تستوعب أرض البطانة في السكن فيها من يشاء هو، وإجلاء من شاء عن أرضه، خاصة وأن المك (الملك) بادي ولد دكين، سلطان الفونج، قد أعطاه هذا الحق٨.
كان للبجا المحاربين مناوشات لردّ أرضهم من الشكرية لمَّا عَملت على إجلائهم من ضفاف نهر عطبرة، نهض بذلك فرع من الشكرية يُسمى الطرقاب، أبناء أحمد الأطرق، الذين كانوا من أشرس عرب أرض البطانة قتالاً وقيادةً للجيوش. حتى يُقال إنهم فَنوا في الحروب حتى لم يبق منهم غير عائلتين الآن.
بدأ البجا الحرب، وانهزموا في أول حروبهم عند الشكرية ثم أعادوا الحرب مرة أخرى، لكن الطارقاب أعطوا قيادة جيشهم من كان أقوى فيهم، فارس عارف بالحروب هو ود البشير، قال شاعرهم فيه:
(قام ود البشير قَطَع البحر هو عوم
قاصد الـ رِقَّهم بشبه لديح الدّوم
البِج الـ قِبيل كُلْ يوم تَطَلِّع قُوم
خلاَّها البشير عابدَه الصَلاَ والصوم)
المعنى أن ود البشير عامَ قاصداً البجا شرق النهر الذي كان في فيضانه. وفعل فيهم ما فعل. كان البجا تدفع للشكرية (قوم) جيشاً كل يوم. لكن ود البشير في انتصاره الساحق جعلهم يرجعون إلى الله تعالى حيث يعتكفون على الصلاة والصوم. أ.هـ. ولم يعد البجا للحرب مرة أخرى٩.
ومن حروب (الحرب والحرب المضادة) ما كانت بين البوادرة والقُنن، وكلاهما من قبائل أرض البطانة، وقد سَمَّى الباحث ياسر عبد الله عبد الرحيم الخليفة الحرب بين القبيلتين باسم (حرب السياط). يقول الباحث: (كانت شرارة هذه الحرب أن قَطَعَ أحد أبناء القُنن ذيل ثورٍ تابعٍ لإحدى نساء البوادرة. وأَعلنت المرأة حدادها على ذيل ثورها، وأقسمت أن لا تأكل بيمنَاها حتى ترى ما يفعل فرسان البوادرة حيال ما فعل ذلك الفتى القُنَنِيّ بثورها. وهذه عادة قديمة لنساء العرب لحثّ الفرسان إلى الأخذ بالثأر ورفع الظلم الذي وقع عليها.
عندها تحرَّك البوادرة بفرسانهم لمحاربة القنن، وأقسم الفارس ود بِلِيله على فرسان البوادرة بعدم استخدام السيوف وإنما السياط (جمع سوط) فقط، وهي ما يجب عليهم استخدامها لتأديب أبناء القنن. وفعلاً تحركوا وفي أيديهم سياط فقط استهزاءً وسخرية بالقنن الذين الذين يتمتّعون بالشجاعة والقوة. وقد دارت هذه الحرب على مرحلتين هما:
١- معركة السياط.
٢- معركة السيوف والأبطال.
في المرحلة الأولى استخدم البوادرة السياط، وقد كانت فرصة ذهبية لقبيلة القُنن الذين أعدوا العدّة لملاقاة فرسان البوادرة بسيوفهم. وما أن حان وقت القتال إلا وتفاجأ فرسان القنن بسياط أبناء البوادرة على رؤوسهم. وما هي إلا ساعات، حيث تقدَّم فرسان القنن وحصدوا فرسان البوادرة حصداً. وكاد القنن أن ينتصروا على البوادرة لو لا استخدام البوادرة لأسياف القنن، وفي ذلك اليوم أبلى فرسان البوادرة ولكنهم أدركوا خطأهم في معاملة القنن بهذه الطريقة التي كادت أن تشلّ فرسان البوادرة لثقتهم العالية بأنفسهم واحتقار عدوهم. وفي هذه المرحلة تكبَّد البوادرة خسائر كبيرة، حيث توفي كثير من الفرسان جراء هذا التصرف غير المسؤول.
وفي المرحلة الثانية من هذه الحرب، وَفَد إليها أبناء البوادرة بغرب النيل الأزرق بقيادة الفارس عين بر ومعه من البوادرة البياضة والمشاعلة والدباسين وغيرهم. وأقسم الفارس عين بر على إبادة قبيلة القنن عن آخرهم، وفعلاً أبادهم عن آخرهم وترك النساء والأطفال، فقط، وبعد ذلك دارت مواقع منها السادة والركابية بعد الحاجز والملوية malawiyya، وبذلك تشتَّت القنن بشرق السودان وإرتريا وبقي منهم عدد قليل يسكنون الآن أرض البطانة)١٠١٠.
قَلَد galad والبجا
على الرغم من أن تاريخ قبائل أرض البطانة يقول: إن هذه القبائل تعتمد في حلّ النزاعات والإغارات والحروب بالعُرف السائد بينهم كقبائل بدو متحاربة في بداوتهم، وأن هذا العرف أن تنهض ذات القبائل للصلح بين المتحاربين أو المتنازعين، إلا أننا نرى أن ذلك العرف لم يكن له وجود أيام حروبهم في زمانهم القديم، خاصة منذ القرن السادس عشر إلى الثامن عشر الميلاديين. والأخير هو الذي صار الحُكم فيه في يد أحمد بك أبو سن الذي لم يكن له سوى الشدّة في الإغارات والحروب المتتالية في أرض البطانة.
...
في إطار الحروب التي تَدَخَّل الأجاويد فيها، نَذكُر قَلَد البجا. وهو عرف سائد في ديار البجا. والبجا يتكونون من أربعة كيانات يأتي على رأسهم البجا ببطونها العديدة، والبني عامر والحلنقة والبشاريين. وعندما تقول (البجا) نَرمِي إليهم جميعًا. وقَلَد البجا عبارة عن مجموعة من الأجاويد هم الذين يَجلِسُون إلى الطرفين لفضّ أي نزاعات نتشأ في ديارهم وإن كان قتلاً، ولفظ (قَلَد) تعني الاجتماع لفرض فضّ النزاعات. وما يَحكُم به هذا الاجتماع نافذ لا يستطيع رفضه الحاضرون.
يُعَرِّف د. عون الشريف قاسم في قاموسه لفظ (أجاويد). يقول: (أجاويد الجماعة الذين يتوسّطون بين المتخاصمين لحل الخلاف بالحسنى)١١١١. وهذا تعريف ممتاز، وقد كان للبجا حروب هي:
١- قتال الأشراف والكميلاب.
٢- قتال الأشراف والنابتاب.
وعلى الرغم من أن حروب البجا عديدة بين بطونها وشعوبها، إلا أن صاحب الكتاب الذي نأخذ عنه يقول: (كنّا نحن نحب أن لا تُذكر هذه الحوادث حتى لا نُعيد ذكراها)١٢١٢. وربما رأى أن ذكرى هذه الحروب من الممكن أن تثير أحقاداً قديمة. لكن، من الثابت أن نزاعات البجا قد خَضَعت لقَلَد مهما كانت.
وكان البوادرة قد خاضوا حربين بعد مدة طويلة من حربهم مع القنن هما:
١- حرب الحاجز، وهو موضع بين خشم القربة وكسلا.
٢- حرب الملوية، وهي بين المذكورين خشم القربة وكسلا، ومحطة صغيرة للقطار الواصل حتى بورتسودان. يقول الباحث فيها: (سالت الدماء وكأنها دميرة (الدميرة فيضان النيل) حتى توسَّط بينهم السادة الركابية)١٣١٣، والركابية من أهل الدين ينتشرون في أنحاء السودان.
...
الحروب السياسية دائماً ما تأتي من السلاطين والحكام. وأهدافها جعل الكيان المُحَارَب (بفتح الراء) طائِعاً، فطاعة السلطان أو الحاکم تأتي بالطاعة والسلام كما سنرى. والحرب التي نبدأ بها هي الحرب وعَرَب الحَمَر hamar. وكان عرب المعاليا قد قطعوا الطريق على قافلة آتية من مصر إلى دارفور وقتلوا تُجار القافلة الذين كانت بضاعتهم للسلطان أنسجة وسُكَّراً. فغضب السلطان حسين غضباً شديداً، وأرسل في طلب الشيخ مكي ولد منعم شیخ عربان حَمَر وقال له: إني أَبِحتُ لك دماء المعاليا وأموالهم، فجمع الشيخ مكي رجاله وحلفاءه وغزا عرب المعاليا، وكانت واقعة دموية شديدة كان النصر فيها للعرب الحمر، أي لصالح السلطان، وقد سُمِّيت الواقعة بواقعة القرطاس، لأن ساحة الحرب امتلأت بـقراطيس السكر)١٤١٤.
في عام ١٨٢١م، غزا إسماعيل باشا بن خديوي مصر محمد علي باشا السودان. تصدى له الشايقية بقيادة الملك شاويش الذي انهَزم، جازَ الشمال حتى وصل إلى سلطنة الفونج، واستسلم له مَكُّها (ملكها) محمد ود عدلان. سلم السلطة لمحمد الدفتردار حيث صار السودان في يده. وفي عودته لمصر عام ١٨٢٢م، نزَل في دیار الجعليين حيث المك نمر، الذي كان قد أعدَّ العِدَّة لقَتلِه. في المجلس الواسع جلس مع حاشيته، وطلب من المك نمر مطالب من الأنعام والمال مُعجِزة. كان المك نمر قد أحاط المجلس بالحَطَب، وجَعَل فرسانَه متأهّبين للهجوم على الباشا. أشعل النار في الخطب، وهَجم وفرسانه على الباشا وحاشيته وقتلوهم جميعاً حرقاً، هاجر بعدها المك نمر إلى الحبشة مع أهله ثم كانت مقتلة الجعليين المُدمِّرة على يد الدفتردار)١٥١٥.
وكانت الحرب التي أشعلها الخايفة عبد الله التعايشي بعد وفاة محمد أحمد المهدي عام ١٨٨٥م. فقد كان التعايشي خليفة المهدي الذي -من المفترض أن يأتي صاحب السلطة- لكن قرابة المهدي من أهله كانوا يرون أنهم الأولى بالخلافة، وهم أشراف. أي من سلالة العَترة النبوية، ومن هنا كانت الحرب.
تحت عنوان: (الخليفة والأشراف) نقرأ: (إن الصراع الذي نَشَبَ بين الخليفة والأشراف عقب وفاة المهدي، هو صراع حول السلطة، وحول من هو المستحق تولي أمر المهدية: هل هم الأشراف بحكم صِلاتهم الرحمية بالمهدي، أم الخليفة بحكم كونه الرجل الثاني في الدولة حتى في حياة المهدي؟. عَبَّأ الخليفة أم درمان عاصمة المهدي وألقى القبض على المتمردين الأشراف بواسطة أهله التعايشة وجنود من قبائل أخرى من دارفور، وكان قد أمر بسجن الأشراف جميعاً فسُجنوا، وعاد الخليفة لخلافة المهدي حتَّى موقعة كرري التي دخل فيها المستعمر (الإنجليزي المصري) السودان غازياً عام ١٨٩٨م، وهرب الخليفة بمن معه من خاصّته، وقُتِلَ في أم دبيكرات في ذات العام الذي دخل فيه الاستعمار)(١١).
في أيام السلطان حسين بن السلطان محمد الفضل الذي حكم دار نور ما بين عامي ١٨٣٩ - ١٨٧٤م كانت واقعة القرطاس بين عرب المعاليا.
نزاعات تَنتَهِي بالصّلح
(١)
كانت أولى الحروب التي انتهت بالصلح الحرب التي أشعلها عبدالله بن أبي سرح مع النوبة في دنقلا (في شمال السودان) عام 652م، هذه الحرب سُمِّيت باسم (اتفاقيه البقط)، ونصَّت على بنود نُورد منها ثلاثة هي:
- الاسم، بقط
- على العرب اجتياز بلاد النوبة (السودان) دون إقامة، وعلى النوبة اجتياز بلاد العرب (مصر الجزيرة العربية) دون إقامة.
- المسجد الذي بناه ابن أبي سرح في دنقلا، وعلى النوبة إسراجه وتعهّده.
وقد دَرَس مؤرّخون هذه الاتفاقية ونشروها بما يتناقض ما هو صحيح. في قاموس د. عون الشريف قاسم جاء اسم بقط Pactum في معنى معاهدة في طبعته الأولى والثانية. أما في الثالثة، فقد رَجَع د. عون الشريف إلى اسم (بَقت) bagit في معنى (القِسمَة) في نوبيّة أهل دنقلا، وكانت كلمة dactam كلمة لاتينيَّة لا يعرفها العرب ولا النوبيون.
بقي العرب في السودان مخالفين عدم البقاء، وهاجر النوبيون وبقوا في بلاد العرب١٦١٦. أما المسجد، فقد درسه آثاريون وتوصلوا إلى أنّه بناء حديث، وفيه قبر لشيخ أخرجوه١٧١٧. على هذ، من الحق أن نَصل إلى أن اتفاقية البقط مشكوك فيها، أو لا وجود لها. لكن، العطاء الذي قدَّمه كل طرف للآخر هو الذي أتى بالصلح بين الفريقين١٨١٨.
(٢)
في غرب السودان تنشَأ الحروب دائماً بين قبائل العرب في بعضهم، وبين العرب والشعوب غير العربية. كانت ومازالت هناك حروب بين السلامات (قبيلة عربية) وبين قبيلة عربية أخرى هي التعايشة وقبيلة الرزيقات ضدّ أولاد حسين، وقبيلة الكبابيش ضدّ الكواهلة الذين هاجروا إلى كردفان، وقبيلة الحوازمة مع نوبا جبال النوبة، وقبائل عربية ضدَّ الزغاوة في شمال دارفور، والزغاوة شعب غير عربي، ونفس القبائل مع المساليت في شمال دارفور. ولكن المهم أن الإدارة الأهلية، في كلٍّ من دارفور وكردفان، من أعرافها الثابتة حلّ الحروب صُلحاً بتَدَخُّل رموز هذه الإدارات الأهلية في الحروب أو النزاعات بين المتحاربين.
السدارنة المحس الذين ساكنوا الشكرية في أرض البطانة كانت لهم حربٌ مع الرفاعيين، القبيلة العربية التي تسكن على ضفاف النيل الأزرق غير بعيد عن السدارنة شَرق رفاعة؛ كان نزاعهم في الحدود بين المتحاربين. وقد كان تدخّل قبيلة رفاعة والشكرية الذين يسكنون على النيل الأزرق في امتدادهم إلى الجنوب الشرقي، قد صالح بين المتحاربين صُلحاً قَضَى أن يتقاسما الحدود بينهم، بشرط أن يستمر الصلح المحكوم به بينهما.
في أول عهدهم بالسكن في أرض البطانة تحت قبيلة الشكرية، كان بين السدارنة والشكرية حرب لم تكتمل. جنود الشكرية تحركوا للحرب وكذلك جنود السدارنة، لكن الصلح بينهما سرعان ما توصلوا إليه بوساطة بعض عقلاء الشكرية، متضامنين مع رموز السدارنة، خاصّة شيخهم عبد الهادي، وكان شاعر السدارنة قاسم ود عتار قد أرَّخ لهذه الحرب فقال:
مع الشكرية عندنا كنترات وعهود
غير حق المحوره يكونوا لينا جدود
دراجين عواطل في الليالي السود
فارسهم من الجَمْع الفقير ما بحود
شرح صاحب كتاب السدارنة كنترات أنه يقصد عقل العهد، والمجوره: الجوار، درّاجين عواطل: يساندون الآخرين عند الشدائد الجمع الفقير: الجيش كتير العدد. ما بْحود: يثبت ولا يعطيه ظهره، وهذا (العهد) بينهما كان ورقة الصلح بينهما١٩١٩.
بعد تهجير النوبيين من أقصى شمال السودان إلى أرض البطانة عامي ١٩٦٣ـ١٩٦٤، صارت لهم حوَّاشات، كل حوّاشة 15 فدان يزرعونها. كان ما يُزرع فيها مُحدَّداً بقرار سلطويّ: الفول السوداني والقطن. وهم لم يألفوا ذلك، كان أمامهم إمكان الزراعة بالعمال الكثيرين المهاجرين إلى مشروع حلفا الجديدة الزراعي. كانوا من غرب إفريقيا ودارفور. وكانت بينهما -النوبيين والمهاجرين- نزاعات كالآتي:
١- قَتَل أحد النوبيين فرداً من غرب إفريقا في نزاع يعود إلى الزراعة، ونهض أهله منذرين بحرب، لكن كان النوبيون على حلّ الأمر بالصلح بين الفريقين: القرية التي منها القاتل وأهل غرب إفريقيا السائرون وراء الصلح، وتوصلوا إلى أن يدفع النوبيون الديَّة. فرضوا على كل بيت 5 جنيهات في كل قراهم الـ26 وفي كلّ قرية ٢٥٠ بيتاً. يعني ٥×٢٦×٢٥٠. وتساوي: ٣٢,٥٠٠. هذا هو المبلغ الذي طلبته أهالي المَقتول. وقد دفعها النوبيّون بعيداً عن الشرطة والمحاكم التي رفضوها. وكان ذلك مبلغاً مهولاً عام ١٩٩١م. هكذا كانت المصالحة التي استمرت إلى الآن.
وفي العام ٢٠١٠م، كان هناك نزاعٌ آخر. كان عمّال حواشات أهل القرية ١٠ بحلفا الجديدة قد أضربوت وتوقفوا عن الزراعة بحجة أنهم عملوا في هذه الحواشات 35 سنة، وهذا كافٍ بأن تؤول الحواشات لهم حيث هم يسكنون فيها. صار هناك جدل بين الفريقين. كان العمال من الزغاوة المنتشرين بين السودان وتشاد حيث فزّان٢٠٢٠، ورفض أهل القرية 10 ذلك، فكان الصدام. قَتَل العمال إمام مسجد القرية ورجلاً، وأوشك أهل القرية الأخرى على التدخّل، لكن أهل الصلح كانوا جاهزين. أهل الصلح كان منهم ثلاثة في الخرطوم، دعوهم فوصلوا لحلفا الجديدة، وصارت هناك مفاوضات مُضنية، توصّل المُصلِحون في ختامها أن يدفع الزغاوة مبلغ دية للقتيلين. فدفعوها. (٦٥٠٠٠ جنيهاً) وعادوا إلى العمل.
صور أشكال الصلح والتصالح
كانت السلطة القائمة في السودان تنظر إلى الدولة مُقسمةً إلى شمال وجنوب. كان الشمال هو الكيان المُسلم والجنوب هو الكيان المسيحي. انفصل الجنوب عام ٢٠١١م. وصارت الدولة المسلمة في الشمال هي الدولة التي يرضاها أصحاب السلطة وغير قليل من الشعب، هنا صار الاحتكام في حالات النزاع الذي ينشب بين الناس، قتلاً كان أم نزاع حدود أو اكتساب أرضٍ بالامتداد أو صراعاً على مرعى ...إلخ. إلى:
- القرآن.
- الحديث.
- الشريعة الإسلامية.
- العرف القبليي
- الفقه.
غالباً يسري ذلك على القبائل العربية البدوية في السودان. إذن، هذا في البادية. وبوادي السودان في شرقه وغربه. يسري ذلك على البدو العرب باستثناء الحرب التي كانت بين العرب المسلمين والنوبة المسيحيين في اتفاقية البقط في القرن السابع الميلادي عام ٦٥٢م. كان ذلك صلحاً بعد حرب بمقابل من المهزوم. النوبة المسيحين، وشيء من عدس وغيره يدفعه لهم المنتصرون٢١٢١.
الأجواد (الأجاويد) يُعتبرون من العلماء أهل الرأي الصواب الذين يفضّون النزاعات بين الناس بالحسنى٢٢٢٢. وهم من الحكماء. إضافة إلى أصحاب السلطة، قبلية كانت أم أهلية، وسعيهم نحو العمل العام بقدرٍ دائماً، كالعُمَد مثلاً، أما نُظّار القبائل ورجال الدين والصوفية لهم أصحاب سهم عالٍ عند الجميع، وكلامهم سموع.
في الفقه الإسلامي نجد أن غالب أهل السودان على مذهب الإمام مالك، وأهل أقصى شرق السودان على المذهب الشافعي، وفيهم من هو على مذهب أبي حنيفة. واستخدام الفقه كحاكم قليل. ذلك لأنه مُختلفٌ بين الأئمة الأربعة، وغالباً ما يكون في اعتمادات الصُلح نظار القبائل وأهل الدين والصوفية والأجاويد.
في حالة النية على فضّ نزاع، يتنادى المعنيّون بالقيام بالصلح ويجتمعون. فيهم الذين سيتفاوضون بين الطرفين. نُظّار القبائل دائماً ما يُختَارُون للأمور الكبيرة كالحرب والقتل. أما الأمور الصغيرة يمكن أن تُحلّ من دونهم، مثل الصراع على امتداد في الأرض على الحدود، أو نزاع في مرعى فمتروك للآخرين. يجتمع الناوون حلّ نزاعٍ ما، ويتداولون طُرُق الحل، يقولون ما يقولونه عند فضّ النزاع، ويتّفقون عليه مقدّمين العرف القبلي غالباً في حالات النزاع.
في الاجتماع ذاته، يختارون الوفد الذي سينهَض بفضّ النزاع، كلما كان الوفد كبير العدد كلّما كانت هيبته أكبر. هنا يتفق المجتمعون على رجال الوفد من هم. وفي دارفور وكردفان، من المهم استصحاب حَكَّامة. والحكَّامة شاعرة ترتجل ما تقول مَدحَاً للمتنازعين وللحضور، وترتجل شعراً في شرور النزاعات. ويساعد ذلك في تقريب المسافة بين المتخاصمين وما تقول الحكَّامة مهم جداً، لأنه من الممكن أن تهجو من مَدَحت من قبل ليعود إلى عارٍ له.
هناك أمران للجلوس لفضّ النزاع:
١- طلب المتنازعين للحضور في موضع محدد في يوم محدد.
أن يكون عند ناظر يستضيفهم.
٢- الذهاب إليهم في موضع محدد في يوم محدد.
هنا يرسل مناديب لكل من المتنازعين. أفراد من اثنين أو ثلاثة من المعروفين للطرفين. للاتفاق على الجلوس لفض النزاع أولاً، ثم تحديد الزمان والمكان المحددين، وعلى كل منهما اختيار وفدهم الذي سيحضر فض النزاع. المدخل الكلامي لأهل النزاع العرف القبلي غالباً، والتوافق من أطراف النزاع على ما يقول الوفدين دائماً يأتي عند الاقتناع بما قالا، وفي حالات الرفض على المتنازعين الاحتكام إلى القضاء الذي هو غير مرغوب دائماً.
يحضر المتنازعين إلى المكان المحدد والزمان أو يذهب أصحاب فض النزاع في المكان والزمان، تُفتَتح الجلسة بالقرآن الكريم من واحد رجال الدين، وتحوي قراءته علی آیات تدعو إلى السلام:
و(جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) الآية
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) الآية
(إسلام قولاً من رب رحيم) الآية
... إلخ.
تتلو ذلك دعوى صوفية طويلة في انتباه الجميع لما يقول الصوفي بعدها، يجلس فاضو النزاع من المتنازعين متواجهين.
بعد الأيادي المرفوعة في دعوة الصوفي. يشرع القائمون بفض النزاع في تقديم الحَكَّامة٢٣٢٣، لتقول ما تقول. ثم يأتي دورهم في الكلام الذي اتفقوا عليه سلفاً، مع ترصّد خَلَجات أهل النزاع الذين يؤمِّنون على ما قال الفرد من أهل النزاع، أو يرفضونه في أسلوب مهذب، لكن، في كل الأحوال، نجد أن أهل فض النزاع أكثر حِنكَة وحِكمة وتمرساً في الإقناع. هكذا يؤدّي كلٌّ دوره. وإن كان تم رضاء من الطرفين على الصلح لا بد من ذبائح لاستضافة ضيوفهم.
من المُسلَّم به أن الحضور كلهم مسلمون. لذا دائماً ما يصل الحضور جميعاً إلى قناعة تامة بأن الصلح خَيْر، وتُرفَع الفاتحة بقراءة آيات قرآنية في معنى السلم أو كلام بالأخوة الإسلامية في الإسلام، وكل هذا يحدث فيما عدا القَتل، لأنه – حسب الإسلامية- دَفع الديَّة. وهذا دور الصوفية ورجال الدين يُباركونه. وغالباً ما يُدفع في الحال.
صورة الغلاف © مجلس وقضاة، الفاشر ١٩٥٠ إرشيف السودان لجامعة دورهام
مقدمة
كان دخول العرب السودان قبل الإسلام في مصادر تاريخية. وكانت هجرتهم الكبرى بعد اتفاقية البَقْط عام ٦٥٢م بين العرب المسلمين والنوبيين الذين كانوا في وجهتهم في دخولهم عن طريق النيل من مصر، ومن جاء إلى السودان منهم قبل الإسلام كان لهم شعر عبارة عن شعار ولأنه شعر جاهلي صعب الفهم، نحوله إلى نثر يقول:
(الناس من غيرنا حضارة، لكننا بدو. هم لهم
حمير ولنا حرابٌ وخيولٌ جيدة. إن غزونا
مَن هو قريبٌ منا ولم نجد شيئاً ننهبه،
غزونا من هو حولنا، نَغِيرُ حتى على بَكْر القبيلة
التي أهلها أخوان لنا، إذا لم نجد ما ننهبه)١.
العمل بهذا الشعار الشِّعري كان دَيدَن القبائل العربية في السودان. فالحروب والإغارات كانت سائدة بينها منذ عهد بعيد.
كان الصوفية أولياء الله الصالحون يخشاهم السودانيون حتى الآن. فكلٌّ منهم لهم قباب هم مدفونون فيها. فمن عَدَا على أهلهم يُصَاب بعطبٍٍ أو بعِلَّة أو مرض أو موت. إزاء ذلك، كان أهل السودان حريصين على بيان أنهم يعيشون على بَرَكَة وَليّ في قراهم ومواضع سَكَنِهم. وقد يبنون قبّة تشير إلى وليّهم وليس له وجود، اتقاءً لأيّ عدوان.
يقول الباحث سمير محمد عبيد نُقُد: (في تاريخ السودان قبل سلطنة سنار، كانت هناك فترة تُسمَّى فترة القَيمان٢، وفيها كانت القبائل تُغير على إبل غيرها من القبائل الأخرى لسلبها وأخذها عنوة، ولا يُعدُّ ذلك لصوصية بل يفتخرون به، إذ يُعدُّ عملاً بطولياً. وكان ذلك واحداً من أهم الأسباب التي جعلت الناس يَدَّعون النسب الشريف للتخلص من هجمات القبائل، والنسب الشريف الانتساب إلى العتره النبوية، وصاحب القبّة دليلٌ على ذلك.
في هذا البحث أن (الإدارة الأهلية) كان العهد الإنجليزي المصري قد كَوَّنها من رموز القبائل العربية وغيرها في السودان. وكان (ناظر) القبيلة هو الحَكَم في أيّ نزاع يَنشب بين أبناء القبيلة، داخل القبيلة أو خارجها، كان ذلك في غرب السودان حيث قبائل عربية، ووسطه حيث الجعليون العرب، ووسطه الشمالي حيث الرباطاب والمناصير والشايقية الذين كان لهم (مَك) بدلاً عن الناظر، أما أقصى شمال السودان فقد كان يَحكُمها العُمَد، والبجا في أقصى الشرق كان لهم ناظر، وهؤلاء الحكّام كان لهم إقامة الحروب وقيادتها.
بعض الحروب في تاريخ السودان مؤرَّخٌ لها، وبعضها لم يُؤرَّخ لها. وهناك حروب داخلية وخارجية. مثلاً، ينقسم شعب البجا إلى بطونٍ عديدة. وكان من شأن هذه البطون أن تتحارَب، وتأتي هذه الحروب من داخل كيان البجا بتخطِّي الناظر نفسه. لكن، غالباً ما يكون هناك سعيٌ نحو السلام الذي ينتهي إلى إصلاح ما بين المتحاربين.
في هذا البحث محتويات هي أشكال الحروب والنزاعات وهي:
- حروب الصلح.
- حروب التحالف.
- حروب الحرب والحرب المضادة.
- حروب تنتهي بالأجاويد.
- الحروب السياسية.
ونوردُ هنا الكيانات التي ندرسها وهي:
- البجا وهم شعب.
- البوادرة: قبيلة عربية.
- الكواهلة: قبيلة عربية.
- الشكرية: قبيلة عربية.
- البطاحين: قبيلة عربية.
- التعايشة: قبيلة عربية.
-
ونختم بفصلٍ عن صور أشكال الصلح والتصالح.
حروب الصُلح:
وغالباً ما يتبنّى فصلها أهلُ الدين. وقد كانت حروب البطاحين كثيرة، خاصة ضدَّ الشكرية. وأول حربٍ لهم ضدَّها كانت واقعة المندرة mundarah. وقد كانت عام ١٨٧١م في منطقة الفاو. وبعدها كانت الواقعة (أب جِبَّة)، و(واقعة الحَجَر) و(عُلْوان)، ولمَّا كثرت هذه الحروب بينها، (كان من بين شيوخ البطاحين من كان حريصاً على علاقة سلام بين البطاحين والشكرية، وهو الشيخ عبد الباقي من أهل الدين من البطاحين. وقد صالح بينها عام ۱۸۰۷م عن طريق معاهدات تمَّت بينه وبين أبناء أحمد بك أبوسن تزوّج كلّ منهم من الطرف الآخر)٣. وكان أحمد بك أبو سن زعيم البطانة وحاكم الخرطوم - أهليَّاً - وسنار ما بين عامي ١٨٦٠-1870، ومن الملاحظ أن هذا الصلح كان في زمن متأخر.
. حروب التحالف:
كان الشيخ برير من البطاحين قد أغار على الكرامة في أَقصَى شمالي أرض البطانة – وكان الكواهلة قد أوفدوا لحربه وقتله، واحداً هو الفارس محمد المليحابي، كي يجمع من البجا الأمرأر المحاربين في تحالف لإبادة جيش البطحاني برير. وأَسْرِهِ وقَتله. مَكث الفارس الكاهلي مع الأمرأر عامين في منطقة الباك bak في ديار البجا ليختار من الأمرأر الأقوياء قساة القلوب، وعاد بِهم إذ انضمَّ الكواهلة والأمرأر في جيشٍ واحد حاربوا به الشيخ الفارس برير وأسروه وقتلوه. وےقطع حمد المليحابي يدي برير وسَلَّمَهما لشَغَبَة، وكانت امرأة لها سهمٌ في الحرب مع فرسان قبيلتها)٤.
يقول الباحث الطيب محمد الطيب: (كانت قبائل عديدة تُسَاكِن الشكرية بأرض البطانة. وأهم هذه القبائل البطاحين والكواهلة والركابيون. وقد قامت عدة حروبات بين تلك القبائل في الثُلث الأول من القرن السادس عشر الميلادي)٥.
ومنها أنه:
(تحَالَف الفونج والركابيون لمحاربة الشكرية الذين كان على رأسهم فارسهم أبو علي. وكان المتحالفون ٤٠٠٠ والشكرية قليلون، لكنهم استطاعوا قتل قادة التحالف، إدريس ود الزاكي وکِرِنکَه أبوسن دوف في بداية المعركة. وبذلك حُسِمَت المعركة لصالح الشكرية)٦.
كان البجا يُساكنون الشكرية في أرض البطانة، إذ انتشروا في طول نهر عطبرة شرق أرض البطانة، وفي موقعة ريره Rerah تحالفوا مع الشكرية لمحاربة البطاحين، واستعدّوا للإغارة عليهم، وكان ذلك عام ١٧٤٤م. وعندها رجع قائد جيش البطاحين التكيت بجيشه منسحباً إلى أرض بعيدة عن الشكرية هي أبو دليق، وهي التي شرق الخرطوم الآن.
تحت عنوان: "علاقات القبائل ببعضها البعض"، يقول الباحثان عبد القادر عوض الكريم الحسن وعمر عبد الرحيم كبوش في كتابهما (وقفات مع شعراء البطانة) يقولان: (العلاقات التي تربط قبائل سهل البطانة ببعضها جيّدة ومتينة، ويحكم بينهم على الدوام العرف الأهلي، وقِلَّة أن نجد خلافات وعداوات بينهم، وإذا حَدَثَ بينهم شيء من ذلك نجد زعماء القبائل يقومون بإصلاح ذات البين حتى يعود الصفاء والودّ)٧.
قبائل أرض البطانة بدوية. ومن شأنها أنها متحاربة لأن هناك ما يَجعلها تحارب، فغالبهم رعاة وأصحاب إبل وضأن وماعز. وديدنهم الحرص على المراعي في الوديان ومجاري المياه وتجمّعها، وقد كان التوسع في الأرض لكسب مزيد من المراعي سبباً للحروب دائماً. ثم إن حروبها لبُعد صيت "الذات القبلية" وتميّزها بين القبائل. كان ذلك في زمانهم القديم. وفي الفقرة السابقة أن فضَّ النزاعات عندها هو "العُرف". وقد كان الاحتكام إلى العرف حديثاً عند قيام مشروع حلفا الجديدة الزراعي الذي حوَّلهم من قبائل مُترحّلة إلى قبائل عاملة في الزراعة المستقرة.
يعني (حروب الحرب والحرب المضادة) أن تحارب قبيلةٌ قبيلةً أخرى أو كياناً آخر، فتردّ هذه الحرب بحربٍ مضادَّة، حتى يتوقّف طرف عن الحرب ولا يعود إليها. قُلنا من قبل إن البجا كانوا قد سكنوا في مجرى نهر عطبرة شرق أرض البطانة. ولم تكن هذه الأرض مملوكة لكيان. لكن تسجيلها لزعيم الشكرية عوض الكريم أبو سن عام ١٧٩١م ملكاً خاصَّاً له، على أن تستوعب أرض البطانة في السكن فيها من يشاء هو، وإجلاء من شاء عن أرضه، خاصة وأن المك (الملك) بادي ولد دكين، سلطان الفونج، قد أعطاه هذا الحق٨.
كان للبجا المحاربين مناوشات لردّ أرضهم من الشكرية لمَّا عَملت على إجلائهم من ضفاف نهر عطبرة، نهض بذلك فرع من الشكرية يُسمى الطرقاب، أبناء أحمد الأطرق، الذين كانوا من أشرس عرب أرض البطانة قتالاً وقيادةً للجيوش. حتى يُقال إنهم فَنوا في الحروب حتى لم يبق منهم غير عائلتين الآن.
بدأ البجا الحرب، وانهزموا في أول حروبهم عند الشكرية ثم أعادوا الحرب مرة أخرى، لكن الطارقاب أعطوا قيادة جيشهم من كان أقوى فيهم، فارس عارف بالحروب هو ود البشير، قال شاعرهم فيه:
(قام ود البشير قَطَع البحر هو عوم
قاصد الـ رِقَّهم بشبه لديح الدّوم
البِج الـ قِبيل كُلْ يوم تَطَلِّع قُوم
خلاَّها البشير عابدَه الصَلاَ والصوم)
المعنى أن ود البشير عامَ قاصداً البجا شرق النهر الذي كان في فيضانه. وفعل فيهم ما فعل. كان البجا تدفع للشكرية (قوم) جيشاً كل يوم. لكن ود البشير في انتصاره الساحق جعلهم يرجعون إلى الله تعالى حيث يعتكفون على الصلاة والصوم. أ.هـ. ولم يعد البجا للحرب مرة أخرى٩.
ومن حروب (الحرب والحرب المضادة) ما كانت بين البوادرة والقُنن، وكلاهما من قبائل أرض البطانة، وقد سَمَّى الباحث ياسر عبد الله عبد الرحيم الخليفة الحرب بين القبيلتين باسم (حرب السياط). يقول الباحث: (كانت شرارة هذه الحرب أن قَطَعَ أحد أبناء القُنن ذيل ثورٍ تابعٍ لإحدى نساء البوادرة. وأَعلنت المرأة حدادها على ذيل ثورها، وأقسمت أن لا تأكل بيمنَاها حتى ترى ما يفعل فرسان البوادرة حيال ما فعل ذلك الفتى القُنَنِيّ بثورها. وهذه عادة قديمة لنساء العرب لحثّ الفرسان إلى الأخذ بالثأر ورفع الظلم الذي وقع عليها.
عندها تحرَّك البوادرة بفرسانهم لمحاربة القنن، وأقسم الفارس ود بِلِيله على فرسان البوادرة بعدم استخدام السيوف وإنما السياط (جمع سوط) فقط، وهي ما يجب عليهم استخدامها لتأديب أبناء القنن. وفعلاً تحركوا وفي أيديهم سياط فقط استهزاءً وسخرية بالقنن الذين الذين يتمتّعون بالشجاعة والقوة. وقد دارت هذه الحرب على مرحلتين هما:
١- معركة السياط.
٢- معركة السيوف والأبطال.
في المرحلة الأولى استخدم البوادرة السياط، وقد كانت فرصة ذهبية لقبيلة القُنن الذين أعدوا العدّة لملاقاة فرسان البوادرة بسيوفهم. وما أن حان وقت القتال إلا وتفاجأ فرسان القنن بسياط أبناء البوادرة على رؤوسهم. وما هي إلا ساعات، حيث تقدَّم فرسان القنن وحصدوا فرسان البوادرة حصداً. وكاد القنن أن ينتصروا على البوادرة لو لا استخدام البوادرة لأسياف القنن، وفي ذلك اليوم أبلى فرسان البوادرة ولكنهم أدركوا خطأهم في معاملة القنن بهذه الطريقة التي كادت أن تشلّ فرسان البوادرة لثقتهم العالية بأنفسهم واحتقار عدوهم. وفي هذه المرحلة تكبَّد البوادرة خسائر كبيرة، حيث توفي كثير من الفرسان جراء هذا التصرف غير المسؤول.
وفي المرحلة الثانية من هذه الحرب، وَفَد إليها أبناء البوادرة بغرب النيل الأزرق بقيادة الفارس عين بر ومعه من البوادرة البياضة والمشاعلة والدباسين وغيرهم. وأقسم الفارس عين بر على إبادة قبيلة القنن عن آخرهم، وفعلاً أبادهم عن آخرهم وترك النساء والأطفال، فقط، وبعد ذلك دارت مواقع منها السادة والركابية بعد الحاجز والملوية malawiyya، وبذلك تشتَّت القنن بشرق السودان وإرتريا وبقي منهم عدد قليل يسكنون الآن أرض البطانة)١٠١٠.
قَلَد galad والبجا
على الرغم من أن تاريخ قبائل أرض البطانة يقول: إن هذه القبائل تعتمد في حلّ النزاعات والإغارات والحروب بالعُرف السائد بينهم كقبائل بدو متحاربة في بداوتهم، وأن هذا العرف أن تنهض ذات القبائل للصلح بين المتحاربين أو المتنازعين، إلا أننا نرى أن ذلك العرف لم يكن له وجود أيام حروبهم في زمانهم القديم، خاصة منذ القرن السادس عشر إلى الثامن عشر الميلاديين. والأخير هو الذي صار الحُكم فيه في يد أحمد بك أبو سن الذي لم يكن له سوى الشدّة في الإغارات والحروب المتتالية في أرض البطانة.
...
في إطار الحروب التي تَدَخَّل الأجاويد فيها، نَذكُر قَلَد البجا. وهو عرف سائد في ديار البجا. والبجا يتكونون من أربعة كيانات يأتي على رأسهم البجا ببطونها العديدة، والبني عامر والحلنقة والبشاريين. وعندما تقول (البجا) نَرمِي إليهم جميعًا. وقَلَد البجا عبارة عن مجموعة من الأجاويد هم الذين يَجلِسُون إلى الطرفين لفضّ أي نزاعات نتشأ في ديارهم وإن كان قتلاً، ولفظ (قَلَد) تعني الاجتماع لفرض فضّ النزاعات. وما يَحكُم به هذا الاجتماع نافذ لا يستطيع رفضه الحاضرون.
يُعَرِّف د. عون الشريف قاسم في قاموسه لفظ (أجاويد). يقول: (أجاويد الجماعة الذين يتوسّطون بين المتخاصمين لحل الخلاف بالحسنى)١١١١. وهذا تعريف ممتاز، وقد كان للبجا حروب هي:
١- قتال الأشراف والكميلاب.
٢- قتال الأشراف والنابتاب.
وعلى الرغم من أن حروب البجا عديدة بين بطونها وشعوبها، إلا أن صاحب الكتاب الذي نأخذ عنه يقول: (كنّا نحن نحب أن لا تُذكر هذه الحوادث حتى لا نُعيد ذكراها)١٢١٢. وربما رأى أن ذكرى هذه الحروب من الممكن أن تثير أحقاداً قديمة. لكن، من الثابت أن نزاعات البجا قد خَضَعت لقَلَد مهما كانت.
وكان البوادرة قد خاضوا حربين بعد مدة طويلة من حربهم مع القنن هما:
١- حرب الحاجز، وهو موضع بين خشم القربة وكسلا.
٢- حرب الملوية، وهي بين المذكورين خشم القربة وكسلا، ومحطة صغيرة للقطار الواصل حتى بورتسودان. يقول الباحث فيها: (سالت الدماء وكأنها دميرة (الدميرة فيضان النيل) حتى توسَّط بينهم السادة الركابية)١٣١٣، والركابية من أهل الدين ينتشرون في أنحاء السودان.
...
الحروب السياسية دائماً ما تأتي من السلاطين والحكام. وأهدافها جعل الكيان المُحَارَب (بفتح الراء) طائِعاً، فطاعة السلطان أو الحاکم تأتي بالطاعة والسلام كما سنرى. والحرب التي نبدأ بها هي الحرب وعَرَب الحَمَر hamar. وكان عرب المعاليا قد قطعوا الطريق على قافلة آتية من مصر إلى دارفور وقتلوا تُجار القافلة الذين كانت بضاعتهم للسلطان أنسجة وسُكَّراً. فغضب السلطان حسين غضباً شديداً، وأرسل في طلب الشيخ مكي ولد منعم شیخ عربان حَمَر وقال له: إني أَبِحتُ لك دماء المعاليا وأموالهم، فجمع الشيخ مكي رجاله وحلفاءه وغزا عرب المعاليا، وكانت واقعة دموية شديدة كان النصر فيها للعرب الحمر، أي لصالح السلطان، وقد سُمِّيت الواقعة بواقعة القرطاس، لأن ساحة الحرب امتلأت بـقراطيس السكر)١٤١٤.
في عام ١٨٢١م، غزا إسماعيل باشا بن خديوي مصر محمد علي باشا السودان. تصدى له الشايقية بقيادة الملك شاويش الذي انهَزم، جازَ الشمال حتى وصل إلى سلطنة الفونج، واستسلم له مَكُّها (ملكها) محمد ود عدلان. سلم السلطة لمحمد الدفتردار حيث صار السودان في يده. وفي عودته لمصر عام ١٨٢٢م، نزَل في دیار الجعليين حيث المك نمر، الذي كان قد أعدَّ العِدَّة لقَتلِه. في المجلس الواسع جلس مع حاشيته، وطلب من المك نمر مطالب من الأنعام والمال مُعجِزة. كان المك نمر قد أحاط المجلس بالحَطَب، وجَعَل فرسانَه متأهّبين للهجوم على الباشا. أشعل النار في الخطب، وهَجم وفرسانه على الباشا وحاشيته وقتلوهم جميعاً حرقاً، هاجر بعدها المك نمر إلى الحبشة مع أهله ثم كانت مقتلة الجعليين المُدمِّرة على يد الدفتردار)١٥١٥.
وكانت الحرب التي أشعلها الخايفة عبد الله التعايشي بعد وفاة محمد أحمد المهدي عام ١٨٨٥م. فقد كان التعايشي خليفة المهدي الذي -من المفترض أن يأتي صاحب السلطة- لكن قرابة المهدي من أهله كانوا يرون أنهم الأولى بالخلافة، وهم أشراف. أي من سلالة العَترة النبوية، ومن هنا كانت الحرب.
تحت عنوان: (الخليفة والأشراف) نقرأ: (إن الصراع الذي نَشَبَ بين الخليفة والأشراف عقب وفاة المهدي، هو صراع حول السلطة، وحول من هو المستحق تولي أمر المهدية: هل هم الأشراف بحكم صِلاتهم الرحمية بالمهدي، أم الخليفة بحكم كونه الرجل الثاني في الدولة حتى في حياة المهدي؟. عَبَّأ الخليفة أم درمان عاصمة المهدي وألقى القبض على المتمردين الأشراف بواسطة أهله التعايشة وجنود من قبائل أخرى من دارفور، وكان قد أمر بسجن الأشراف جميعاً فسُجنوا، وعاد الخليفة لخلافة المهدي حتَّى موقعة كرري التي دخل فيها المستعمر (الإنجليزي المصري) السودان غازياً عام ١٨٩٨م، وهرب الخليفة بمن معه من خاصّته، وقُتِلَ في أم دبيكرات في ذات العام الذي دخل فيه الاستعمار)(١١).
في أيام السلطان حسين بن السلطان محمد الفضل الذي حكم دار نور ما بين عامي ١٨٣٩ - ١٨٧٤م كانت واقعة القرطاس بين عرب المعاليا.
نزاعات تَنتَهِي بالصّلح
(١)
كانت أولى الحروب التي انتهت بالصلح الحرب التي أشعلها عبدالله بن أبي سرح مع النوبة في دنقلا (في شمال السودان) عام 652م، هذه الحرب سُمِّيت باسم (اتفاقيه البقط)، ونصَّت على بنود نُورد منها ثلاثة هي:
- الاسم، بقط
- على العرب اجتياز بلاد النوبة (السودان) دون إقامة، وعلى النوبة اجتياز بلاد العرب (مصر الجزيرة العربية) دون إقامة.
- المسجد الذي بناه ابن أبي سرح في دنقلا، وعلى النوبة إسراجه وتعهّده.
وقد دَرَس مؤرّخون هذه الاتفاقية ونشروها بما يتناقض ما هو صحيح. في قاموس د. عون الشريف قاسم جاء اسم بقط Pactum في معنى معاهدة في طبعته الأولى والثانية. أما في الثالثة، فقد رَجَع د. عون الشريف إلى اسم (بَقت) bagit في معنى (القِسمَة) في نوبيّة أهل دنقلا، وكانت كلمة dactam كلمة لاتينيَّة لا يعرفها العرب ولا النوبيون.
بقي العرب في السودان مخالفين عدم البقاء، وهاجر النوبيون وبقوا في بلاد العرب١٦١٦. أما المسجد، فقد درسه آثاريون وتوصلوا إلى أنّه بناء حديث، وفيه قبر لشيخ أخرجوه١٧١٧. على هذ، من الحق أن نَصل إلى أن اتفاقية البقط مشكوك فيها، أو لا وجود لها. لكن، العطاء الذي قدَّمه كل طرف للآخر هو الذي أتى بالصلح بين الفريقين١٨١٨.
(٢)
في غرب السودان تنشَأ الحروب دائماً بين قبائل العرب في بعضهم، وبين العرب والشعوب غير العربية. كانت ومازالت هناك حروب بين السلامات (قبيلة عربية) وبين قبيلة عربية أخرى هي التعايشة وقبيلة الرزيقات ضدّ أولاد حسين، وقبيلة الكبابيش ضدّ الكواهلة الذين هاجروا إلى كردفان، وقبيلة الحوازمة مع نوبا جبال النوبة، وقبائل عربية ضدَّ الزغاوة في شمال دارفور، والزغاوة شعب غير عربي، ونفس القبائل مع المساليت في شمال دارفور. ولكن المهم أن الإدارة الأهلية، في كلٍّ من دارفور وكردفان، من أعرافها الثابتة حلّ الحروب صُلحاً بتَدَخُّل رموز هذه الإدارات الأهلية في الحروب أو النزاعات بين المتحاربين.
السدارنة المحس الذين ساكنوا الشكرية في أرض البطانة كانت لهم حربٌ مع الرفاعيين، القبيلة العربية التي تسكن على ضفاف النيل الأزرق غير بعيد عن السدارنة شَرق رفاعة؛ كان نزاعهم في الحدود بين المتحاربين. وقد كان تدخّل قبيلة رفاعة والشكرية الذين يسكنون على النيل الأزرق في امتدادهم إلى الجنوب الشرقي، قد صالح بين المتحاربين صُلحاً قَضَى أن يتقاسما الحدود بينهم، بشرط أن يستمر الصلح المحكوم به بينهما.
في أول عهدهم بالسكن في أرض البطانة تحت قبيلة الشكرية، كان بين السدارنة والشكرية حرب لم تكتمل. جنود الشكرية تحركوا للحرب وكذلك جنود السدارنة، لكن الصلح بينهما سرعان ما توصلوا إليه بوساطة بعض عقلاء الشكرية، متضامنين مع رموز السدارنة، خاصّة شيخهم عبد الهادي، وكان شاعر السدارنة قاسم ود عتار قد أرَّخ لهذه الحرب فقال:
مع الشكرية عندنا كنترات وعهود
غير حق المحوره يكونوا لينا جدود
دراجين عواطل في الليالي السود
فارسهم من الجَمْع الفقير ما بحود
شرح صاحب كتاب السدارنة كنترات أنه يقصد عقل العهد، والمجوره: الجوار، درّاجين عواطل: يساندون الآخرين عند الشدائد الجمع الفقير: الجيش كتير العدد. ما بْحود: يثبت ولا يعطيه ظهره، وهذا (العهد) بينهما كان ورقة الصلح بينهما١٩١٩.
بعد تهجير النوبيين من أقصى شمال السودان إلى أرض البطانة عامي ١٩٦٣ـ١٩٦٤، صارت لهم حوَّاشات، كل حوّاشة 15 فدان يزرعونها. كان ما يُزرع فيها مُحدَّداً بقرار سلطويّ: الفول السوداني والقطن. وهم لم يألفوا ذلك، كان أمامهم إمكان الزراعة بالعمال الكثيرين المهاجرين إلى مشروع حلفا الجديدة الزراعي. كانوا من غرب إفريقيا ودارفور. وكانت بينهما -النوبيين والمهاجرين- نزاعات كالآتي:
١- قَتَل أحد النوبيين فرداً من غرب إفريقا في نزاع يعود إلى الزراعة، ونهض أهله منذرين بحرب، لكن كان النوبيون على حلّ الأمر بالصلح بين الفريقين: القرية التي منها القاتل وأهل غرب إفريقيا السائرون وراء الصلح، وتوصلوا إلى أن يدفع النوبيون الديَّة. فرضوا على كل بيت 5 جنيهات في كل قراهم الـ26 وفي كلّ قرية ٢٥٠ بيتاً. يعني ٥×٢٦×٢٥٠. وتساوي: ٣٢,٥٠٠. هذا هو المبلغ الذي طلبته أهالي المَقتول. وقد دفعها النوبيّون بعيداً عن الشرطة والمحاكم التي رفضوها. وكان ذلك مبلغاً مهولاً عام ١٩٩١م. هكذا كانت المصالحة التي استمرت إلى الآن.
وفي العام ٢٠١٠م، كان هناك نزاعٌ آخر. كان عمّال حواشات أهل القرية ١٠ بحلفا الجديدة قد أضربوت وتوقفوا عن الزراعة بحجة أنهم عملوا في هذه الحواشات 35 سنة، وهذا كافٍ بأن تؤول الحواشات لهم حيث هم يسكنون فيها. صار هناك جدل بين الفريقين. كان العمال من الزغاوة المنتشرين بين السودان وتشاد حيث فزّان٢٠٢٠، ورفض أهل القرية 10 ذلك، فكان الصدام. قَتَل العمال إمام مسجد القرية ورجلاً، وأوشك أهل القرية الأخرى على التدخّل، لكن أهل الصلح كانوا جاهزين. أهل الصلح كان منهم ثلاثة في الخرطوم، دعوهم فوصلوا لحلفا الجديدة، وصارت هناك مفاوضات مُضنية، توصّل المُصلِحون في ختامها أن يدفع الزغاوة مبلغ دية للقتيلين. فدفعوها. (٦٥٠٠٠ جنيهاً) وعادوا إلى العمل.
صور أشكال الصلح والتصالح
كانت السلطة القائمة في السودان تنظر إلى الدولة مُقسمةً إلى شمال وجنوب. كان الشمال هو الكيان المُسلم والجنوب هو الكيان المسيحي. انفصل الجنوب عام ٢٠١١م. وصارت الدولة المسلمة في الشمال هي الدولة التي يرضاها أصحاب السلطة وغير قليل من الشعب، هنا صار الاحتكام في حالات النزاع الذي ينشب بين الناس، قتلاً كان أم نزاع حدود أو اكتساب أرضٍ بالامتداد أو صراعاً على مرعى ...إلخ. إلى:
- القرآن.
- الحديث.
- الشريعة الإسلامية.
- العرف القبليي
- الفقه.
غالباً يسري ذلك على القبائل العربية البدوية في السودان. إذن، هذا في البادية. وبوادي السودان في شرقه وغربه. يسري ذلك على البدو العرب باستثناء الحرب التي كانت بين العرب المسلمين والنوبة المسيحيين في اتفاقية البقط في القرن السابع الميلادي عام ٦٥٢م. كان ذلك صلحاً بعد حرب بمقابل من المهزوم. النوبة المسيحين، وشيء من عدس وغيره يدفعه لهم المنتصرون٢١٢١.
الأجواد (الأجاويد) يُعتبرون من العلماء أهل الرأي الصواب الذين يفضّون النزاعات بين الناس بالحسنى٢٢٢٢. وهم من الحكماء. إضافة إلى أصحاب السلطة، قبلية كانت أم أهلية، وسعيهم نحو العمل العام بقدرٍ دائماً، كالعُمَد مثلاً، أما نُظّار القبائل ورجال الدين والصوفية لهم أصحاب سهم عالٍ عند الجميع، وكلامهم سموع.
في الفقه الإسلامي نجد أن غالب أهل السودان على مذهب الإمام مالك، وأهل أقصى شرق السودان على المذهب الشافعي، وفيهم من هو على مذهب أبي حنيفة. واستخدام الفقه كحاكم قليل. ذلك لأنه مُختلفٌ بين الأئمة الأربعة، وغالباً ما يكون في اعتمادات الصُلح نظار القبائل وأهل الدين والصوفية والأجاويد.
في حالة النية على فضّ نزاع، يتنادى المعنيّون بالقيام بالصلح ويجتمعون. فيهم الذين سيتفاوضون بين الطرفين. نُظّار القبائل دائماً ما يُختَارُون للأمور الكبيرة كالحرب والقتل. أما الأمور الصغيرة يمكن أن تُحلّ من دونهم، مثل الصراع على امتداد في الأرض على الحدود، أو نزاع في مرعى فمتروك للآخرين. يجتمع الناوون حلّ نزاعٍ ما، ويتداولون طُرُق الحل، يقولون ما يقولونه عند فضّ النزاع، ويتّفقون عليه مقدّمين العرف القبلي غالباً في حالات النزاع.
في الاجتماع ذاته، يختارون الوفد الذي سينهَض بفضّ النزاع، كلما كان الوفد كبير العدد كلّما كانت هيبته أكبر. هنا يتفق المجتمعون على رجال الوفد من هم. وفي دارفور وكردفان، من المهم استصحاب حَكَّامة. والحكَّامة شاعرة ترتجل ما تقول مَدحَاً للمتنازعين وللحضور، وترتجل شعراً في شرور النزاعات. ويساعد ذلك في تقريب المسافة بين المتخاصمين وما تقول الحكَّامة مهم جداً، لأنه من الممكن أن تهجو من مَدَحت من قبل ليعود إلى عارٍ له.
هناك أمران للجلوس لفضّ النزاع:
١- طلب المتنازعين للحضور في موضع محدد في يوم محدد.
أن يكون عند ناظر يستضيفهم.
٢- الذهاب إليهم في موضع محدد في يوم محدد.
هنا يرسل مناديب لكل من المتنازعين. أفراد من اثنين أو ثلاثة من المعروفين للطرفين. للاتفاق على الجلوس لفض النزاع أولاً، ثم تحديد الزمان والمكان المحددين، وعلى كل منهما اختيار وفدهم الذي سيحضر فض النزاع. المدخل الكلامي لأهل النزاع العرف القبلي غالباً، والتوافق من أطراف النزاع على ما يقول الوفدين دائماً يأتي عند الاقتناع بما قالا، وفي حالات الرفض على المتنازعين الاحتكام إلى القضاء الذي هو غير مرغوب دائماً.
يحضر المتنازعين إلى المكان المحدد والزمان أو يذهب أصحاب فض النزاع في المكان والزمان، تُفتَتح الجلسة بالقرآن الكريم من واحد رجال الدين، وتحوي قراءته علی آیات تدعو إلى السلام:
و(جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) الآية
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) الآية
(إسلام قولاً من رب رحيم) الآية
... إلخ.
تتلو ذلك دعوى صوفية طويلة في انتباه الجميع لما يقول الصوفي بعدها، يجلس فاضو النزاع من المتنازعين متواجهين.
بعد الأيادي المرفوعة في دعوة الصوفي. يشرع القائمون بفض النزاع في تقديم الحَكَّامة٢٣٢٣، لتقول ما تقول. ثم يأتي دورهم في الكلام الذي اتفقوا عليه سلفاً، مع ترصّد خَلَجات أهل النزاع الذين يؤمِّنون على ما قال الفرد من أهل النزاع، أو يرفضونه في أسلوب مهذب، لكن، في كل الأحوال، نجد أن أهل فض النزاع أكثر حِنكَة وحِكمة وتمرساً في الإقناع. هكذا يؤدّي كلٌّ دوره. وإن كان تم رضاء من الطرفين على الصلح لا بد من ذبائح لاستضافة ضيوفهم.
من المُسلَّم به أن الحضور كلهم مسلمون. لذا دائماً ما يصل الحضور جميعاً إلى قناعة تامة بأن الصلح خَيْر، وتُرفَع الفاتحة بقراءة آيات قرآنية في معنى السلم أو كلام بالأخوة الإسلامية في الإسلام، وكل هذا يحدث فيما عدا القَتل، لأنه – حسب الإسلامية- دَفع الديَّة. وهذا دور الصوفية ورجال الدين يُباركونه. وغالباً ما يُدفع في الحال.
صورة الغلاف © مجلس وقضاة، الفاشر ١٩٥٠ إرشيف السودان لجامعة دورهام
الجبة
الجبة
الجبة
الجبّة تعتبر رمزاً مهدوياً/ صوفياً للزهد والبساطة واحتقار الدنيا، وأشكالها تكون كيفما أُتفق وتفتقر إلى التزويق. وكانت رمزية الجبّة هي أنها محاولة لتشجيع الوحدة الوطنية في أوساط الأنصار، وترمز الرّقع إلى مكانة مُرتديها ومركزه. في بداية عهد الخليفة أصبح البعض يتفنّن في تزويق أنماطها. وفي السنوات الأخيرة للمهدية، بدأ تحوّل الجبّة المرقّعة إلى زي بالغ التأنّق تستخدم فيه أقمشة إنجليزيّة ومصريّة، ويتطلّب صنعه مهارات مهنيّة عالية، فقد أصبحت تلك القطع التي تخاط على قماش الجبّة توضع بكثير من الاهتمام الفنّي والتوازن والتماثل. كما أصبحت الجبب المهدوية تخاط بصورة شخصية للغاية.
لم تكن الجبة هي الزي الوحيد المميز للأنصار، فقد ارتدى الأنصار أيضاً جلابية جناح أم جَكّو؛ وهي جلابية صُممت لتُلبس بالاتجاهين على عجل بتصميم يساعد على امتطاء الجواد بسرعة، كما يُراعي التصميم للجو الصحراوي، ويكون ثوباً اقتصادياً يساعد لبسه بالجانبين على ألا يبلى بسرعة من كثرة الجلوس في حلقة الذكر.
الطاقية ام قرينات
ظهرت الطاقية أم قرينات في الممالك المسيحية ثم في سلطة الفونج الإسلامية في سنّار (١٥٠٤-١٨٢١م)؛ حيث ارتداها الملوك وأصبح ارتداؤها - لاحقاً - يدل على التميز والمكانة العالية. وبعد انهيار وتفكك السلطنة أصبحت تستخدم في ممارسات بعض الطرق الصوفية حتى وقت المهدية، حيث كانت تستخدم في التتويج السنّاري عند ترقّي السالك في الطريقة وانتقاله لمقام الشيخ، ويرتديها المتصوفة حتى يومنا هذا في هذه الطقوس في حلقات الذكر. أما في فترة الدولة المهدية فقد كان يتميز بارتدائها الأمراء وأفراد حرس الخليفة المعروفين بإسم المشمراتية.
العمامة البيضاء
ارتدى الرجال مع الجبة العمامة البيضاء بحافة تنزل الى الكتف وتسمى العَزَبة، وتحتها طاقية الطرطور مخروطية الشكل التي تميز بها الأنصار، أو طاقية القش.
صورة الغلاف:جبة من مجموعة بيت الخليفة © نوري طه، تمت إضافته بواسطة إسحاق أليسون، ١٨ مارس ٢٠٢٣، أعيد إنتاجه بإذن من المجلس الثقافي البريطاني. تصوير نوري طه.
الجبة
الجبّة تعتبر رمزاً مهدوياً/ صوفياً للزهد والبساطة واحتقار الدنيا، وأشكالها تكون كيفما أُتفق وتفتقر إلى التزويق. وكانت رمزية الجبّة هي أنها محاولة لتشجيع الوحدة الوطنية في أوساط الأنصار، وترمز الرّقع إلى مكانة مُرتديها ومركزه. في بداية عهد الخليفة أصبح البعض يتفنّن في تزويق أنماطها. وفي السنوات الأخيرة للمهدية، بدأ تحوّل الجبّة المرقّعة إلى زي بالغ التأنّق تستخدم فيه أقمشة إنجليزيّة ومصريّة، ويتطلّب صنعه مهارات مهنيّة عالية، فقد أصبحت تلك القطع التي تخاط على قماش الجبّة توضع بكثير من الاهتمام الفنّي والتوازن والتماثل. كما أصبحت الجبب المهدوية تخاط بصورة شخصية للغاية.
لم تكن الجبة هي الزي الوحيد المميز للأنصار، فقد ارتدى الأنصار أيضاً جلابية جناح أم جَكّو؛ وهي جلابية صُممت لتُلبس بالاتجاهين على عجل بتصميم يساعد على امتطاء الجواد بسرعة، كما يُراعي التصميم للجو الصحراوي، ويكون ثوباً اقتصادياً يساعد لبسه بالجانبين على ألا يبلى بسرعة من كثرة الجلوس في حلقة الذكر.
الطاقية ام قرينات
ظهرت الطاقية أم قرينات في الممالك المسيحية ثم في سلطة الفونج الإسلامية في سنّار (١٥٠٤-١٨٢١م)؛ حيث ارتداها الملوك وأصبح ارتداؤها - لاحقاً - يدل على التميز والمكانة العالية. وبعد انهيار وتفكك السلطنة أصبحت تستخدم في ممارسات بعض الطرق الصوفية حتى وقت المهدية، حيث كانت تستخدم في التتويج السنّاري عند ترقّي السالك في الطريقة وانتقاله لمقام الشيخ، ويرتديها المتصوفة حتى يومنا هذا في هذه الطقوس في حلقات الذكر. أما في فترة الدولة المهدية فقد كان يتميز بارتدائها الأمراء وأفراد حرس الخليفة المعروفين بإسم المشمراتية.
العمامة البيضاء
ارتدى الرجال مع الجبة العمامة البيضاء بحافة تنزل الى الكتف وتسمى العَزَبة، وتحتها طاقية الطرطور مخروطية الشكل التي تميز بها الأنصار، أو طاقية القش.
صورة الغلاف:جبة من مجموعة بيت الخليفة © نوري طه، تمت إضافته بواسطة إسحاق أليسون، ١٨ مارس ٢٠٢٣، أعيد إنتاجه بإذن من المجلس الثقافي البريطاني. تصوير نوري طه.
الجبة
الجبّة تعتبر رمزاً مهدوياً/ صوفياً للزهد والبساطة واحتقار الدنيا، وأشكالها تكون كيفما أُتفق وتفتقر إلى التزويق. وكانت رمزية الجبّة هي أنها محاولة لتشجيع الوحدة الوطنية في أوساط الأنصار، وترمز الرّقع إلى مكانة مُرتديها ومركزه. في بداية عهد الخليفة أصبح البعض يتفنّن في تزويق أنماطها. وفي السنوات الأخيرة للمهدية، بدأ تحوّل الجبّة المرقّعة إلى زي بالغ التأنّق تستخدم فيه أقمشة إنجليزيّة ومصريّة، ويتطلّب صنعه مهارات مهنيّة عالية، فقد أصبحت تلك القطع التي تخاط على قماش الجبّة توضع بكثير من الاهتمام الفنّي والتوازن والتماثل. كما أصبحت الجبب المهدوية تخاط بصورة شخصية للغاية.
لم تكن الجبة هي الزي الوحيد المميز للأنصار، فقد ارتدى الأنصار أيضاً جلابية جناح أم جَكّو؛ وهي جلابية صُممت لتُلبس بالاتجاهين على عجل بتصميم يساعد على امتطاء الجواد بسرعة، كما يُراعي التصميم للجو الصحراوي، ويكون ثوباً اقتصادياً يساعد لبسه بالجانبين على ألا يبلى بسرعة من كثرة الجلوس في حلقة الذكر.
الطاقية ام قرينات
ظهرت الطاقية أم قرينات في الممالك المسيحية ثم في سلطة الفونج الإسلامية في سنّار (١٥٠٤-١٨٢١م)؛ حيث ارتداها الملوك وأصبح ارتداؤها - لاحقاً - يدل على التميز والمكانة العالية. وبعد انهيار وتفكك السلطنة أصبحت تستخدم في ممارسات بعض الطرق الصوفية حتى وقت المهدية، حيث كانت تستخدم في التتويج السنّاري عند ترقّي السالك في الطريقة وانتقاله لمقام الشيخ، ويرتديها المتصوفة حتى يومنا هذا في هذه الطقوس في حلقات الذكر. أما في فترة الدولة المهدية فقد كان يتميز بارتدائها الأمراء وأفراد حرس الخليفة المعروفين بإسم المشمراتية.
العمامة البيضاء
ارتدى الرجال مع الجبة العمامة البيضاء بحافة تنزل الى الكتف وتسمى العَزَبة، وتحتها طاقية الطرطور مخروطية الشكل التي تميز بها الأنصار، أو طاقية القش.
صورة الغلاف:جبة من مجموعة بيت الخليفة © نوري طه، تمت إضافته بواسطة إسحاق أليسون، ١٨ مارس ٢٠٢٣، أعيد إنتاجه بإذن من المجلس الثقافي البريطاني. تصوير نوري طه.